للفقراء .. فى العمارة حق معلوم

للفقراء .. فى العمارة حق معلوم2019-12-04T07:35:13+00:00

للفقراء .. فى العمارة ” حق معلوم ” 

د. عبد الباقى إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

الأهرام الاقتصادى 3/8/1992

 
لم تجد عمارة الفقراء مكاناً مناسباً فى برنامج وسياسات الإسكان خاصة فى الدول النامية حيث الغالبية العظمى من الفقراء. فقد استقرت سياسات الإسكان فى معظم هذه الدول عند حد تقديم البدائل التصميمية والإنشائية لما يسمى بإسكان ذوى الدخل المحدود أو الإسكان الاقتصادي وهي مسميات بعيدة كل البعد عن مفهوم عمارة الفقراء والفقراء هنا هم الذين يكدحون للحصول على لقمة العيش اليومي مع ستر البدن ولاتتوافر لهم أدنى حدود المدخرات التي يستطيعون بها الحصول على المسكن وهم غير هؤلاء الذين ينتظرون الحسنة أوالزكاة دون أن يحركوا ساكناً وهم على قدر من الصحة يؤهلهم للعمل حتى كحمالين بدلا من تقاعدهم كما يوجه بذلك الحديث النبوي الشريف .
لقد وضع حسن فتحي يده على هذه المشكلة منذ أربعين عاماً عندما بدأ التعامل مع مشروع قرية القرنة .. وإن كان هدف الإسكان فيها ليس للفقراء ولكن لنقل سكان القرية القديمة التي أنشئت مساكنهم على أحد التلال الزاخرة بالآثار المدفونة تحتها وكانت مصدراً للثروات لهؤلاء السكان الذين امتنعوا بطبيعة الحال عن الإنتقال إلى قرية حسن فتحي الجديدة واستمرت مبانيها خاوية على عروشها حتى أصابها ما أصابها من إهمال وتــخريب .. بعد أن تغنى بها الشعراء وتأدب بها الأدباء وانتشر فكرها التخطيطي والتصميمي فى كل الأرجاء وتقبله المثقفون والأغنياء قبل الأميين والفقراء، وتجمد فكر حسن فتحي لدى الغالبية عند هذا الحد بعد أن ارتبطت عمارته عندهم بعمارة الطين .. حيث لم يعد هناك طين .. وإذا كانت عمارة الفقراء كفكر قد بدأها حسن فتحي فلايصح أن تنتهي برحيله. الأمر الذي يستوجب الاستمرار بها بأساليب أخرى ومناهج أخرى ما دامت تؤدي إلى تحقيق أهداف هذا الفكر دون تحيز لمادة أو لشكل .. فقد مرت تجربة حسن فتحي بالعديد من العقبات التنظيمية والتنفيذية وظهرت بسلبياتها وإيجابياتها وهو ما تعرض له الكتاب الذي نشرته عن حسن فتحي وبمعرفته بل وبتأييده حيث وفر له كل ما في ملفاته الخاصة وكل بحوثه ودراساته بأمل تقديم تجربته عن عمارة الفقراء بسلبياتها وإيجابياتها وقد رأى فى ذلك دفعاً للإستمرار فى البحث والدراسة وإستمرار فى العمل على تحقيق أفكاره وأهدافه التي لم تتحقق بالصورة التي كان يريدها .. كما رأى فى ذلك امتدادا لرسالته الحضارية .

ترتبط عمارة الفقراء بعدد من العوامل التي تحدد ملامحها الأساسية: أولها التعريف بالفئات المختلفة للفقراء العاملين منهم والمتقاعدين .. ثم تحديد متطلباتهم المعيشية والمواقع المناسبة لاسكانهم من خلال الجدوى الإستيطانية للتنمية العمرانية ثم البحث عن مواد وأساليب البناء والتشييد التي تتناسب مع قدراتهم العملية والمادية وتقدير مدى مساهمتهم فيها.. بالتطوع أوبالأجر .. ومهما كانت هذه الأساليب فإن المكون المالي وبأي نسبة سوف يستمر هو المحرك والدافع الأساسي لعمليات البناء والتشييد وإذا ذكر المكون المالي فى البناء والتشييد لعمارة الفقراء فلابد من تجنب الإدارة الحكومية التي تخضع أعمالها لنظم العطاءات والممارسات والتعاقدات والمقاولات .. والإلتجاء إلى غيرها من المؤسسات التي يمكنها أن ترعي عمارة الفقراء كما ترعي خدماتهم الصحية والتعليمية والإنتاجية وتعمل بأسلوب العمل الخيري أوالتطوعى حيث يعتمد تمويل هذه المؤسسات الخيرية على العطايا والتبرعات من كل الجهات فى الداخل والخارج نقداً أو عيناً .. وهذا ما افتقدته تجربة حسن فتحي التي طالما اصطدمت بالروتين الحكومي وكان يسعي فى أواخر أيامه إلى إنشاء معهد تكنولوجيا البناء المتوافقة ليعمل على تنفيذ مشروعات إسكان الفقراء ولكن أمله لم يتحقق حيث كان لابد من التعامل مع الإدارة الحكومية التي لا تقبل العمل التطوعي أوالتبرعات أوالبناء على الذمة  أوالتدريب فى مواقع العمل أوغيرها من الوسائل التي تتناسب مع طبيعة البناء بالجهود الذاتية ..

ويبقى موضـع التمويل هنا لطبيعـة المؤسسات الخيرية التي يمكنها أن تتبنى هذا الاتجاه ويمكنها الاعتماد على مواردها الخاصة التي تتمثل فى التبرعات بالمال والجهد أوبالمادة العينية. وهنا تصبح الزكاة أحد الروافد التي يمكن أن تغذى هذه المؤسسات بما يساعد على توفير الإسكان للفقراء والمحتاجين كما توفر لهم المبنى أو المأكل أوالعلاج أوالتعليم أوالآلة التي تعاونهم على العمل .. وهنا يظهر العمل الخيري أوالتطوعي فى صورة متكاملة يتوافر فيها المأوى كما يتوافر فيها الإنتاج الحرفي أواليدوي بالإضافة إلى الخدمات الصحية والتعليمية وهنا يمكن أن يقوم الفقراء القادرون على العمل بتوفير العمالة اللازمة لأعمال البناء بعد تدريبهم حتى ولو تقاضوا أجراً يساعدهم على قوت يومهم أو تقدم لهم الوجبات خلال فترة عملهم فى البناء و التشييد .. ويقتصر دور الدولة هنا على توفير الأرض دون مقابل خالية من المرافق والخدمات التي يتم توفيرها أيضاً بالجهود الذاتية من خلال هذه المؤسسات الخيرية ..

كما توفرها عنوة للمغتصبين من أصحاب الإسكان العشوائي .. وإذا كانت بعض الجمعيات الخيرية تقوم ببناء المساجد الكبيرة فى مواقع قد لا تحتاج إلى مثلها وإذا كانت غيرها من الجمعيات تقوم ببناء المدارس والمستشفيات فلا أقل من أن تمارس نشاطها خلال مشروعات عمارة الفقراء التي يتوافر فيها المأوى والإنتاج والخدمة الصحية والتعليمية والبيئية معاً .. وإذا كان أغنياء العالم العربي يتبرعون لبناء مشروع مكتبة فى باطن أرض الإسكندرية فلا أقل من أن يتبرعوا لعمارة الفقراء زكاة عن أموالهم وأولادهم وممتلكاتهم .. وإذا كانت أجهزة الدولة التي يقتصر دورها على توفير الإسكان التعاوني أو الاقتصادي بمقدمات وقروض ميسرة لا يقدر عليها الفقراء فلا أقل من أن تخصص لهم الأرض المناسبة دون مقابل لتعميرها ثم تمدهم بعد ذلك بالخدمات إذا استطاعت .
إن توجيه مصارف الزكاة إلى هذه النوعية من المشروعات يصيب هدفه الديني والإنسانى والقومي معاً .. فكم من أغنياء المسلمين قد شيدوا الأربطة (جمع رباط) لإيواء الفقراء والمحتاجين ثم مدهم بالمأكل والملبس فى المواسم المختلفة .. هنا يظهر التكافل فى الإسلام فى أقوى صورة. وهنا توجه الدعوة إلى إنشاء المؤسسات الخيرة لعمارة الفقراء .

وإذا كانت جمعية إحياء التراث التخطيطي والمعماري قد دعت العالم إلى المشاركة فى الندوة الدولية التي تنظمها فى مارس 1993م عن عمارة الفقراء فهي تسعى بذلك إلى إستخلاص أنسب الوسائل الفنية والتمويلية والتنظيمية التي تمكن الجهات الرسمية أوالمؤسسات الخيرية من القيام بمثل هذه المشروعات المتكاملة وتدفع الأغنياء والقادرين للمساهمة فى بناءها وتشييدها .. وإذا كانت عمارة الفقراء قد ارتبطت بإسم حسن فتحي، فقد قامت الجمعية أيضاً بالإعلان عن جائزة شرفية بإسم جائزة حسن فتحي الدولية لعمارة الفقراء تمنح إلى المؤسسات والهيئات والمنظمات والأفراد الذين يساهمون بجهودهم فى توفير العمارة للفقراء فى أي دولة من دول العالم ويكون فى ذلك فرصة للتعرف على إنجازاتهم واقتباس أنسب وسائلهم لخدمة الفقراء فى مصر .. فهذا أقل ما يمكن تقديمه من زكاة العلم والمال .

وقد يبدأ نشاط المؤسسة الخيرية لعمارة الفقراءـ ولتسم مؤسسة حسن فتحي لعمارة الفقراءـ بعد استكمال الإجراءات القانونية لإنشائها واختيار مجلس إدارتها بالتفاوض مع السيد وزير التعمير بمنحها موقعين أوثلاث مواقع لإجراء أول تجاربها التنموية عليها ثم تتجه بعد ذلك إلى إنشاء نواة لمركز البناء بالجهود الذاتية مستعينة بذلك ببعض الخبرات الدولية التطوعية وليكن منها مركز البناء للفقراء بالهند وهي المؤسسة التي نالت جائزة حسن فتحي الدولية لعمارة الفقراء لعام 1992م وذلك بإنشاء مكابس لإنتاج الطوب الطفلي من الأرض الصحراوية ثم تنظيم معسكرات للشباب خريجي الجامعات من الباحثين عن العمل والمسكن للقيام ببناء اللبنات الأولى لهذه التجمعات السكنية الجديدة بعد تدريبهم بمعاونة المتطوعين من أساتذة العمارة والإنشاءات .. وربما كان لطلبة السنوات النهائية فى كليات الهندسة دور فى هذه العمليات كأحد المناهج العلمية والعملية التي يدرسونها فى مادة عمارة الفقراء وحتى لا تقتصر العملية التعليمية على دراسة عمارة القادرين، هذا هو أحد جوانب التوازن الاقتصادي والتكافل الاجتماعي الذي يدعو إليه الإسلام .

إن مؤسسة حسن فتحي لعمارة الفقراء هي السبيل الحقيقي والعملى للتصدي لهذه المشكلة المزمنة التي عجزت عن معالجتها الهيئات الرسمية الحكومية .

word
pdf