آليات إدارة التنمية … وأسلوب اتخاذ القرار

آليات إدارة التنمية … وأسلوب اتخاذ القرار2019-12-02T06:52:07+00:00

آليات إدارة التنمية وأسلوب اتخاذ القرار

جريدة الوفد 24/4/1994

 

 

المتتبع لحركة التنمية الاقليمية فى مصر على مدى الاربعين سنة الماضية يلاحظ انها دائما ما كانت تطفو على بحر من الامواج المتلاطمة تعلو مرة وتنخفض مرة أخرى حتى تفقد قوتها وتتلاشى عندما تقترب من رمال الشاطىء ولا تترك خلفها الا الزبد … ثم تعود لتعلو مرة أخرى فى حلقات متباعدة تدفعها رياح موسمية تهب عليها من الشرق تارة ومن الغرب تارة أخرى … وما تلبث أن تهبط مع هبوط الرياح دون أن تترك نتائج واضحة على خريطة مصر المحروسة . فكم من البحوث والدراسات قد اعدت لتخطيط مناطق الدولة أو اقاليمها  … وكم من الدعوات التى انطلقت فى الندوات تدعو لخفض الضغط السكانى الجاثم على الوادى الضيق وتوجيه آفاق التنمية الى المناطق الجديدة خارج الوادى … وكم من المبادرات التى أطلقتها بعض الهيئات والوزارات لتعمير البرارى والصحارى … وفى مديرية التحرير تارة … والوادى الجديد تارة أخرى … ثم فى اقليم أسوان مرة وفى الساحل الشمالى مرة أخرى … ثم تتجه موجة التنمية الى اقليم القنال تارة ثم تتحرك جنوبا الى ساحل البحر الاحمر تارة أخرى … ثم تهدأ لتتحرك شرقا الى خليج العقبة وجنوب سيناء ثم شمالا فى سيناء .. وتغير الموجة طريقها بعد ذلك لتتجه الى الوادى الضيق لتغطى القاهرة الكبرى ثم تتسع لتشمل المدن الأخرى فى الدلتا والصعيد فى اطار سياسة قومية للتعمير … وتعود الموجة مرة أخرى الى تنمية سيناء شمالا وجنوبا لتبدأ هيئة تعمير سيناء مشروعاتها العمرانية فى كل أرجاء شبه الجزيرة … وتتغير القيادات وتتغير معها الموجات لتبدأ مرة أخرى فى شكل دراسات ومؤتمرات وندوات وتهبط الموجة بعد ذلك لتقع مرة أخرى فى مهب الرياح الشرق أوسطية ثم ترتفع الى القمة وتشكل لجنة عليا لتنمية سيناء برياسة رئيس الوزراء . وفى نفس الاثناء تهب من الصعيد رياح الازعاج والارتجاج فتسرع أجهزة الدولة المختلفة بتوجيهات عليا تبحث عن الوسائل الفعالة لتنمية مدن وقرى الاقليم وربطها بمناطق البحر الاحمر حيث التنمية السياحية التى تأخرت بانسحاب سهل حشيش واختفائه من الساحة كما اختفت المشروعات السياحية من مدينة طابا فى اقصى الشمال الشرقى لخليج العقبة لاسباب أمنية ودفاعية لا تلبث ان تتحول بقدرة قادر بعد ذلك الى استثمارات سياحية وفى بحر أخر تندفع القطاعات الأخرى تسعى الى تنمية المناطق الزراعية واستصلاح الاراضى على أطراف الوادى وفى شمال سيناء مع وصول القطرات الاولى لترعة السلام … هذا فى الوقت الذى تمتد فيه من الوادى وقراه على الاراضى الزراعية القديمة بعشوائية فائقة دون توقف أو تخوف من أى قانون. ويستمر اخطبوط العمران يأكل الخير ويطلب المياه والكهرباء وتأتى المياه بلا صرف صحى ثم يأتى الصرف الصحى ليزيد من التلوث البيئى  وتختلط مياه الشرب بمياه المجارى. وتمتد الطرق وتتسع على الاراضى الزراعية لتجذب معها الانشطة الصناعية والتجارية والسكنية التى تبتلع ما بقى من خير الأرض. وعلى جانب آخر تبحث وزارة التعمير والاسكان عن محاور عمرانية جديدة تخصصها لمدنها الجديدة كما خصصت لغيرها أراضى للاستصلاح الزراعى وأراضى للتنمية السياحية وأراضى أخرى لقوات الامن.

وإن دل كل ذلك على شىء فإنما يدل على عدم استقرار واستمرار العملية التخطيطية فى غياب البعد الادارى والتنظيمى للتنمية القومية المتكاملة اقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا اذ تتشابك الخيوط بين التخطيط والتنفيذ وبين الادارة المركزية والادارة المحلية. الأمر الذى أدى الى توالى الدعوات على مدى الثلاثين عاما الماضية لضرورة وضع استراتيجية قومية ورسم خريطة مصر المستقبل تتم فى اطارها كل مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية. فأخذت بعض الوزارات المبادرة كل بأسلوبها الذاتى ورؤيتها الخاصة. فلوزارة التخطيط رؤيتها الاقتصادية الاجتماعية ولوزارة التعمير رؤيتها العمرانية ولوزارة الحكم المحلى رؤيتها الادارية. وهكذا تتشابك الخيوط مرة أخرى ولا تجد من يحلها ويضيع الطريق بذلك امام متخذ القرار. ومع ذلك تبقى اليد العليا لوزارة التخطيط التى تمتلك القدرة على توزيع الاستثمارات والقطاعات والمحافظات المختلفة وذلك فى اطار برامج التنمية الخمسية والموازنات السنوية . وتسعى كل جهة للحصول على أكبر قدر ممكن من الاستثمارات لتلبية متطلباتها المحلية أو القطاعية العاجلة فى غياب الرؤية المستقبلية وعوائدها القومية. وعندما يستفحل الخلاف بين قطاع وآخر أو بين المركزية والادارة المحلية ينتقل الخلاف برمته الى الرياسة التنفيذية والسياسية لاتخاذ ماتراه لفك الاشتباك بينها والذى ينتهى باستقلال كل جهة بنطاقها التنموى والمكانى وهنا يضيع التنسيق والتكامل بين الجهات مرة أخرى.  وترتفع بعد ذلك الدعوات مرة أخرى بضرورة ايجاد استراتيجية قومية تتحرك فى اطارها كل القطاعات وتلتزم ببرامجها واهدافها وتعاود الساقية دورانها مرة أخرى فى الهواء دون أن تأتى بجديد . ومع ذلك تسير الامور بقوة الدفع الذاتى والرغبة فى الحياة فلا يقنع العلماء والمخططون بالاوضاع … فتجتمع المجالس القومية المتخصصة الغنية بالخبرات لتدلى بدلوها فى اصدار أوراق الدراسات فى المجالات المختلفة دون أن تجد لها السبيل الذى يحولها الى واقع ملموس .. وتعقد الندوات والمؤتمرات التى يتبارى فيها العلماء والمخططون بتقديم بنات افكارهم فى مجالات التنمية المختلفة اقتصاديا أو اجتماعيا أو عمرانيا ويصدرون ما يتراءى لهم من قرارات وتوصيات وهم لا يدركون مدى فعالية هذه التوصيات وكأنهم يتحدثون الى أنفسهم تنفيسا عما يدور فى خلدهم من آراء حتى لا يصابوا بالسكتة العلمية. وبالرغم من محاولات الوزارات المختلفة لايجاد صيغة جديدة للتنمية الاقليمية سواء بتقسيم الدولة الى اقاليم تخطيطية أو مناطق تنمية عمرانية أو مناطق سياحية أو زراعية الا انها لم تصل الى صيغة عملية. مع ان معظم المشاركين فى وضع كل هذه الصيغة هم نفس الخبراء ونفس العلماء الامر الذى يمثل اهدارا للوقت والمال ويكرس الانفصال الشبكى بين الأجهزة المعنية التى لا تريد قيادتها أن تجلس على المائدة المستديرة بهدف البحث عن التكامل أو حتى عن التنسيق وهو أضعف الايمان … وتتغير القيادات وتتغير التوجيهات وتتلاشى عبقريات قديمة وتظهر جديدة تقذفها الاقدار دون أن يكون لها اقتدار ويستمر الخبراء والعلماء يدورون حول أنفسهم دون تحقيق أى هدف … وقد يخرج بعضهم من اللعبة ويستمر البعض الآخر فى الدوران حتى الدوخان وتتبادل القيادات الكراسى الموسيقية وتستمر الاوضاع المأساوية.

word
pdf