أزمة الحوار بين المخطط ومتخذ القرار

أزمة الحوار بين المخطط ومتخذ القرار2019-11-28T11:11:33+00:00

أزمة الحوار بين المخطط ومتخذ القرار

 

الاهرام 29/7/96

 

 

كثيرا ما يختلف القرار الذى يتخذ بشأن مشروع ما عما قد يكون قد أوصى به المخطط سواء كان فردا أو جماعة وذلك قد يكون راجعا لاسباب سياسية أو دعائية أو اجتماعية أو أمنية عند متخذ القرار ربما لم يأخذها المخطط فى الاعتبار أو يكون راجعا لاعتبارات شخصية لمتخذ القرار خاصة اذا كان المشروع قد يستغرق وقتا طويلا ولا تظهر نتائجه أثناء فترة العمل المتوقعة له وهكذا تتبلور اعتبارات كثيرة ومختلفة توجه عملية اتخاذ القرار على كل المستويات وكثيرا ما يعتمد متخذ القرار فى بداية عمله على جمع كل الخبرات التى يراها مناسبة للاستفادة منها فى أداء وظيفته سواء منهم المخططون أو الخبراء أوالاستشاريون يتم ذلك من خلال تكوين لجان أو بعقد مائدة مستديرة الى أن يستوعب الدرس ويبدأ بعد ذلك فى اتخاذ القرارات بنفسه تبعا لاهميتها وأولويتها فى ضوء التوجيه السياسى الذى يهمه أو يملى عليه. وكثيرا ما تترك هذه القرارات العاجلة التى لم تستكمل دراستها آثارا جانبية سلبية لم تكن واضحة فى ذهن متخذ القرار أو لم يعطها الاهمية الكافية لاحتمال ظهورها بعد وقت طويل الامر الذى يدركه المخططون. وتعانى من ذلك كثير من الدول النامية التى لم تؤهل بعد لديمقراطية اتخاذ القرار أو التى تضم جهات استشارية متفرقة تعمل فى اطار نظامها العام. وهنا يكون للمخطط كل الحرية فى ابداء الرأى ولمتخذ القرار كل الحرية فى إتخاذ القرار كظاهرة من ظواهر الحرية العامة.

وعلى الجانب الآخر من الصورة كثيرا ما يضع المخططون لدراساتهم القوالب التقليدية التى تعتمد على منهج الاستبيان والتحليل والاستنتاج والخروج بمرادفات وبدائل كخطط طويلة الأمد للعرض على متخذ القرار الذى لا يرى منها الا القريب العاجل كل ذلك دون اعتبار لآلية اتخاذ القرار الذى يصدر من فرد أو جهة فى المستويات الفوقية أو المحلية أو دون اعتبار للتركيبة النفسية أو الثقافية أو العلمية لمتخذ القرار أو دون اعتبار للضغوط السياسية أو الاجتماعية أو الخارجية التى يتأثر بها وهنا تصبح توجيهات المخطط بعيدة عن واقع الامور بسلبياته وايجابياته وكثيرا ما ينحو المخطط نحوا لا يساعد على اتخاذ القرار الصحيح على المدى القصير الذى يهم متخذ القرار فى المقام الاول وان كان من الضرورى إيضاح الرؤية المستقبلية والآثار الجانبية التى قد تترتب على ذلك والتى لابد من أخذها فى الاعتبار فى المراحل التالية مستقبلا باعتبار أن التخطيط عملية مستمرة تبنى كل مرحلة منها على معطيات المرحلة السابقة لها وهكذا.

وتختلف حالة متخذ القرار باختلاف المناخ السياسى السائد الذى يعمل فيه ففى بداية الستينات صدر كثير من القرارات التى تتعارض مع رأى المخططين والخبراء فمثلا عندما بدأ مشروع تطوير طريق مصر اسكندرية الزراعى أشار المخططون الى تفصيل تطوير الطريق الصحراوى لجذب العمران تجاهه وحذروا من الجذب العمرانى على الطريق الزراعى كما حذروا من امتداد المدن الاقليمية عليه فكان جواب متخذ القرار حينئذ انه قد روعى مرور الطريق حول المدن التى يمر بها وليس فى داخلها ولم يدرك سيادته مدى الاثار الجانبية التى ستحدث وحدثت على طول الطريق حتى أصبح طريقا صناعيا أكثر منه زراعيا. وفى نفس الوقت حذر المخططون من أن أى مشروع كبير ينشأ فى الدلتا وليس له علاقة بالزراعة يعتبر مسمارا فى نعش الدلتا.ومع ذلك زادت المشروعات وامتد العمران وأكل من الاراضى الزراعية ما يقرب من حوالى مليون فدان. وكان ان قدم المخططون البديل لذلك فى بداية الستينيات عندما أشاروا بانشاء اقليمين عمرانيين الاول شرق الدلتا والآخرغربها ويتصلان بمدن الدلتا بطرق مروحية لجذب السكان الى الاقليمين الجديدين مع إعطاء أوليات لتنميتهما الى أن تستقر الامور فيهما يبدأ فى تطوير الاقاليم القديمة. وهكذا كان رأى المخططين ولكن رأى متخذ القرار كان هو الغالب فى هذا الزمان. فكان المنطق هو سرعة العمل على اثبات النيات الحسنة فى توفير الماء والغذاء والكهرباء للكادحين فى الريف المصرى الذين ظلمهم الاقطاع ولكن ليس بالنيات تتحقق الآمال.

وفى نفس المرحلة الزمنية وفى بداية الستينات اعترض المخططون على بناء الجامعات الاقليمية فى عواصم المحافظات فى الدلتا حتى لا تكون جاذبة للعمران على الاراضى الزراعية فيها وقدموا البدائل لذلك بانشاء مثل هذه الجامعات على المشارف الصحراوية فى شرق وغرب الدلتا لتجذب اليها العمران ولكن كان لمتخذ القرار موقفا مستقرا مع قناعته بالنظرية ولكن الضغط السياسى حينئذ أفقده النطق بالمنطق ووقعت المأساة دون مبالاة وقد كانت جماعات الضغط المستفيدة من ذلك فى المحليات وراء كل ذلك. وتم التحذير من انشاء أى منشأت جاذبة للقاهرة وإبعادها للمناطق الجديدة وتم التحذير من بناء الكبارى العلوية بالقاهرة وخاصة فى شارع الازهر الذى تم بناؤه وقد أصاب القاهرة الاسلامية فى مقتل مع تقديم البديل فى حينه وطالب المخططون بإنشاء هيئة وادارة لتطوير القاهرة الاسلامية ولكن لا يزال الامر مشاعا لدى جهات متعددة هكذا كانت الأزمة بين المخطط ومتخذ القرار فى مشروعات أخرى كثيرة.

وجاء زمن كان فيه المخطط هو صاحب القرار ومع ذلك انتشر كثير من الصناعات فى الاقاليم الزراعية دون أن يكون لها علاقة بالتنمية الزراعية وذلك فى اطار ما سمى بثورة التصنيع وهكذا اختلطت مواقع التنمية الزراعية بمواقع التنمية الصناعية على الارض الزراعية وتقهقر المنطق التخطيطى عن المنطق الثورى عندما كانت تعد فى زمنه الخطط القومية فى ثمان وأربعين ساعة بالتمام. وكان أخطر القرارات فى ذلك الوقت اختيار حلوان لصناعة الحديد والصلب فى حين أشار المخططون الى بناء هذه الصناعة فى جنوب الوادى حيث المادة الخام وذلك لتنمية الجنوب. ولكن بقى الجنوب كما هو وفقدت حلوان مقوماتها السياحية والعلاجية.

وعندما بدأ المؤشر السياسى ينقلب 180ْ من الفكر الاشتراكى الى الفكر الرأسمالى بدأ المنطق التخطيطى يؤثر فى متخذ القرار فاعتمدت المخططات القومية والمحلية والاستثمارية فى أبعادها القريبة والبعيدة وصدرت القوانين واللوائح التى تساعد على دفع عجلة التنمية والعمران فى كل مكان… ولكن بقيت آليات التنمية كما هى دون تطوير أو استقرار بعد أن انتهت مدة صلاحيتها التنظيمية والادارية. اذ أن إدارة التنمية المستدامة بواسطة آليات قادرة هى أساس نجاح أى برنامج تنموى على المستوى القومى أو المحلى كما يقول المخططون. وهكذا يتعثر الحوار بين المخطط ومتخذ القرار الذى لا تزال تحكمه التوجيهات والشكليات ويبقى رأى المخطط استشاريا قد يؤخذ به أو لا يؤخذ به اذ لا تزال آثار المناخ السياسى للستينات يحكم بعض القرارات.

المعروف أن المخطط يرى الامور فى أبعادها القريبة والمتوسطة والبعيدة أما صاحب القرار عندنا فيراها أساسا فى بعدها القريب وإن كان يدعى رؤيته لها فى أبعادها البعيدة كتعبير عن ايمانه ناهية التخطيط المتواصل والمخطط من ناحية أخرى كثيرا ما يبدى تصوراته بعيدا عن الواقع الحالى أو المستقبلى وذلك بسبب بعده عن مجريات الامور الامر الذى قد يفقده ثـقة صاحب القرار الذى يريد أن تتحقق أعماله وطموحاته فى أقرب وقت ممكن خلال فترة عمله المنتظرة وهنا تظهر المعادلة الصعبة للتوفيق بين الطرفين ولا يتم ذلك إلا من خلال الحوار الهادىء بين المخطط ومتخذ القرار الامر الذى يحتاج الى توعية وثـقافة تخطيطية وتنفيذية للمجتمع المتأثر بالقرارات فإن ديمقراطية القرار لا تنحصر بين طرفى المخطط ومتخذ القرار دون الطرف الثالث وهو الجمهور الذى يجب أن يعلم ويتعلم ويعى ويتثـقف حتى يشارك فى عملية اتخاذ القرار الذى يؤثر على مستقبله فلا بد له أن يعرف السلبيات المتولدة عن أى قرار مع معرفته بالايجابيات وله أن يستمع لكل الآراء من خلال الحوارات الهامة على الشاشة الصغيرة التى تدخل كل بيت فلا يبقى الامر كما هو الحال مقصورا على الحوارات الفكرية داخل الجدران المغلقة اذ ليس لذلك أى تأثير على الرأى العام الذى نريد له أن يشارك فى اتخاذ القرار وهنا فقط تزول أزمة الحوار بين المخطط ومتخذ القرار.

word
pdf