أوضاع المجتمعات العمرانية الجديدة وتساؤلات تفرض نفسها

أوضاع المجتمعات العمرانية الجديدة وتساؤلات تفرض نفسها2019-11-24T15:09:15+00:00

أوضاع المجتمعات العمرانية الجديدة وتساؤلات تفرض نفسها

 دكتور عبد الباقي إبراهيم 

 رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية     

        وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمران 

وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس 

 

تجيء دعوة الرئيس محمد حسني مبارك لعقد اجتماع موسع لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في وقت مناسب لهذه المرحلة التي تمر بها تجربة التنمية العمرانية في مصر, إذ تجيء هذه الدعوة بعد أكثر من عشرة سنوات من بداية التجربة التي حان الوقت لمراجعتها وتقويمها في ضوء النتائج العلمية التي وصلت إليها مقارنة بين ما حققته هذه التجربة وما كان مخطط لها… بهدف ربط النظرية بالواقع ولا شك أن الدولة قد بذلت جهودا كبيرة في سبيل تحقيق الأهداف القومية للتنمية العمرانية ظهرت في بناء العديد من المصانع في المجتمعات العمرانية الجديدة بمعدلات تفوق ما كان مخطط لها في الدراسات التخطيطية, كما ظهرت في بناء المرافق والخدمات العامة ومشروعات الإسكان وان كان بمعدلات تقل كثيرا عما كان مخطط لها، الأمر الذي أثر علي التوازن التخطيطي للمجتمعات الجديدة الذي اتجه إلي توفير الإسكان أكثر منه إلي تحقيق الاستيطان وجذب الفائض السكاني بأنشطتهم من المناطق المزدحمة في القاهرة والمدن الكبيرة والصغيرة علي حد سواء، وأخيرا بدأت تجربة أخرى من تجارب التنمية العمرانية ظهرت في التخطيط لبناء عشرة مجتمعات جديدة حول القاهرة ليس بهدف توفير الإسكان ولكن بهدف تخفيف الضغط السكاني علي القاهرة والذي بلغ في بعض أجزائها حدا كبيرا من التزاحم الذي هو من أهم مسببات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والصحية. ويعني ذلك أن تنمية التجمعات العشر لابد وأن تواكبها تنمية عمرانية للمناطق المزدحمة بالقاهرة بحيث تدير الأولي أجهزة للاستقبال وتدير الثانية أجهزة للإرسال تعمل معا وتتناغم إداريا وتنظيما, وبحيث تعتمد تنمية التجمعات العشر علي المشاركة الشعبية أكثر منها علي موارد الدولة، و إلا فقدت هذه التجمعات مقوماتها وأهدافها التنموية وحملت الدولة ما لا تطيق أو تتحمل.

إن دراسة الأوضاع الداخلية أو التنفيذية للمجتمعات العمرانية الجديدة لا يمكن فصلها عن الإستراتيجية القومية للتنمية العمرانية التي تعالج مشاكل المجتمعات الجديدة والمجتمعات القديمة معا إذ لا يمكن الفصل بينهما في خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة وهو ما سمي مجازا البعد المكاني للخط الخمسية, وإذا كانت الخطط الخمسية هي في أساسها خطط استثمارية، فإن الجانب المكاني أو العمراني فيها لم يجد له المكان المناسب خاصة في دولة يقطن 96% من سكانها علي 4% من أرضها. وإذا كانت الدعوة أساسا إلي اجتماع موسع لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة يتم فيه تقويم واقع هذه التجمعات ومراحلها ومستقبلها حتى يمكن إيجاد الأسلوب الأمثل للاستثمار فيها طبقا للأوليات التي تنبثق عن هذا الاجتماع، فان هناك العديد من التساؤلات التي تفرض نفسها في هذا المجال بدءا من مفهوم التخطيط والتنمية ومسئولية الأجهزة التنفيذية. سواء أكان ذلك علي المستوى القومي أو المستوى المحلي حتى لا تتعارض المصالح والاختصاصات بين الأجهزة وتتوه بين أجهزة التعمير والسياحة والصناعة والزراعة والأمثلة علي ذلك قائمة وواضحة في تنمية سواحل البحر الأحمر والساحل الشمالي والمدن السياحية.وهنا يظهر التساؤل مثلا عن مسئولية توفير عناصر الجذب في المناطق الجديدة, هل هي من اختصاص التخطيط أو من اختصاص التعمير؟ وما هو الحد الفاصل أساسا بين التخطيط والتعمير وكلاهما عمل متكامل لا يمكن تجزئته… فالدعوة إلي تكامل خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية دعوة قديمة سعت إليها العديد من دول العالم بهدف إحكام كفاءة الأداء في تنظيم وإدارة العملية التخطيطية أكثر منها في وضع الخطط نفسها, وهذا ما تحتاجه الدول النامية في المقام الأول حتى لا تستمر الدعوة إلي ضرورة غزو الصحراء والخروج من الوادي الضيق في إطار النداءات والشعارات دون مضمون عملي وتنظيمي يحول الأهداف إلي خطط والخطط إلي مخططات والمخططات إلي مشروعات والمشروعات إلي برامج تنفيذية والبرامج التنفيذية إلي أدوات الإنجاز وذلك في حدود الموارد والإمكانيات المادية والبشرية المتاحة من الداخل أو الخارج وهي إمكانيات كثيرة ومتوفرة لو أمكن استثمارها وتنظيمها وإدارتها.

هنا تظهر تساؤلات أخرى في هذا المجال… كيف يمكن استثمار الطاقات المادية والبشرية التي أقامت هذا الحجم الضخم من التجمعات السكنية العشوائية وتنظيمها وتوجيهها إلي حيث ما يجب أن تكون في إطار الإستراتيجية العمرانية… كيف يمكن أن تستقطب المواطن ليستوطن المجتمعات الجديدة يعيش فيها يسكن ويعمل معا وهو لا يدفع إلا بضع جنيهات قليلة جدا في إيجار مسكنه الحالي الذي لا يستطيع أن يتركه إلي سكن آخر أكثر تكلفة… كيف يمكن أن ننقل الفلاح إلي قرية جديدة وهو يتمتع في قريته القديمة بمياه الشرب والكهرباء بأسعار ميسرة ويستطيع أن يوجه مدخراته بسهولة إلي بناء سكن خاص وسكن يؤجره علي الأرض الزراعية حتى في وجود القوانين التي تحد من ذلك وهي قوانين غير واقعية التطبيق فالأرض الزراعية الحالية تتناقص باستمرار يوما بعد يوم بالرغم من كل المحددات والقوانين واللوائح… كيف يمكن أن ننقل العامل وورشته إلي مكان آخر وهو يتمتع في مكانه الحالي بمميزات استثمارية كثيرة فهو يستطيع أن يجدد ترخيص ورشته دون معاناة بل ويجد مورد الكهرباء والمياه بنفس الأسعار التي يجدها في المجتمعات الجديدة، وفوق ذلك فهو يستطيع أن يمتد بنشاطه علي الرصيف بل وفي بحر الشارع دون حرج أو تدخل من أحد… كيف يمكن أن نستقطب المواطن العادي إلي استيطان المجتمعات الجديدة وهو يمتنع بسكن رخيص جدا ويدفع فى تكلفة الخدمات ما يدفعه فى المجتمع الجديد بل ويجد فرصا أوفر للعمل في المشروعات الجديدة التي تنشأ في المدن القديمة وليس في الصناعات الخفيفة بل في الأنشطة التجارية والخدمية التي لا تجد معوقا أمام قيامها في المدن المزدحمة…كيف تنتقل الأنشطة المالية والتجارية إلي التجمعات الجديدة وهي تتمتع بالخدمات المتوفرة في المدينة القديمة حيث يقطن معظم العاملين فيها … وهناك الشوارع التي تستوعب سيارتهم ليلا ونهارا دون معاناة مالية لاستعمال مرفق عام مثل الشارع وهناك مترو الأنفاق الذي ينقلهم من مكان إلي آخر دون معاناة كبيرة وهناك المرافق العامة وخدمات الاتصالات المتوفرة التي يستعملونها دون معاناة قد يجدونها في التجمعات الجديدة… وهكذا فإن ما يتوفر في المجتمعات العمرانية الجديدة من حوافز وتسهيلات ومزايا لا تتعادل مع ما يتوفر فى المجتمعات القديمة المزدحمة بالسكان فالازدحام بالرغم من الأمراض الاجتماعية التي تترتب عنه فهو في حد ذاته عامل جذب استثماري خاصة بالنسبة للأنشطة الهامشية.

ومن ناحية أخرى كيف يمكن أن تتحقق الاستراتيجية العمرانية للدولة في ضوء قانون الإسكان الحالي أو الجديد وهو لا يفرق بين الإسكان في المدن المزدحمة والإسكان في التجمعات الجديدة… وكيف يمكن أن يستمر الدعم لسكان المدن القديمة بنفس حجم الدعم لسكان المدن الجديدة – وهكذا ترتفع مشاكل المجتمعات العمرانية الجديدة إلي المستوى القومي و لا تنحصر في نطاقها المحلي أو التنفيذي… وهنا يبرز التساؤل الآخر عن مفهوم المجتمعات العمرانية الجديدة… هل هي المجتمعات التي يصدر بها قرار لإخضاعها لإشراف الهيئة العامة للمجتمعات العمرانية الجديدة بوزارة التعمير، أو هي مناطق التنمية العمرانية الجديدة التي تمتد علي المناطق الصحراوية سواء تمثلت في صورة مشروعات استثمارية أو امتدادات سكنية للمدن المتاخمة للصحراء… وهنا يظهر تساؤل آخر وهو هل تعتبر القرى السياحية التي تملكها الجمعيات التعاونية أو المؤسسات العامة مناطق عمرانية جديدة تخضع لنفس مفهوم المجتمعات الجديدة وتتمتع بها سواء في سعر الأرض أو تكاليف البناء أو توفير المرافق والخدمات العامة وهي في حقيقتها مناطق إسكان سياحي أو ترويحي أكثر منها قري سياحية بمفهومها الاستثماري أو الاقتصادي… فقد أصبحت هذه القرى السياحية الخاصة بمثابة ثلاجات تتجمد فيه مدخرات المواطنين دون عائد يذكر يضاف إلي الاقتصاد القومي، بل وأصبحت سلعة استهلاكية لن تلبث أن تتلف بمرور الزمن وقلة الصيانة بالإضافة إلي انخفاض مدد استثمارها المرتبطة بالعطلات الصيفية ودون أن يكون لها ظهير إنتاجي يساعد علي استيطان بعض أجزائها واستغلال بعض مرافقها… إن اقتصاديات مثل هذه المشروعات لا يقاس بالعائد الفوري من إنشائها ولكن يقاس بالعائد الاستيطاني الذي تحققه في إطار أهداف الاستراتيجية القومية للتنمية العمرانية التي هي جزء من الاستراتيجية القومية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. أن دراسة الجدوى للمشروعات الاستثمارية لا تبني علي أساس ما تحققه من عائد بقدر ما تحققه من أهداف للاستراتيجية العمرانية التي تهدف إلي التخفيف علي الوادي الضيق من الضغط السكاني الرهيب. إنه من الخطأ أن نتبع النظريات المستوردة في التنمية العمرانية بل لابد من البحث عن النظرية المحلية التي تلائم الواقع المحلي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحضاريا.  فالقاهرة ليست مثل لندن أو باريس كما يتصور البعض، ومصر التي يقطن 96% من سكانها علي 4% من مساحتها ليست كانجلترا أو فرنسا، حيث ينتشر سكانها بطريقة متوازنة علي معظم أراضيها.

وبعد كل ذلك فهناك تساؤل آخر عن البعد السياسي الذي يؤثر علي كل من المجتمعات القديمة كما يؤثر علي المجتمعات الجديدة ويكمن هذا البعد في تأثير توجيهات المجالس التشريعية أو المحلية التي تسعي دائما إلي إرضاء المواطن بالبحث عن حل مشاكله الآتية دون تقدير مماثل لحل المشاكل البعيدة المدى فعندما أصدر المجلس المحلي في محافظة مثل الشرقية قرارا بإنشاء جامعة إقليمية في مدينة الزقازيق تمشيا مع سياسة تخفيف الضغط عن القاهرة ( مصر ) إعترض أحد المخططين علي المكان واقترح في حينه توجيه المشروع إلي صحراء بلبيس نظرا لما سوف تتطلبه الجامعة الجديدة من خدمات إسكانية وتجارية وخدمية لا يمكن أن تتحملها الأرض الزراعية ومع ذلك رفض المسئولون هذا الاقتراح خضوعا للقرار السياسي الذي اتخذه المجلس المحلي. فكيف كان الحال بعد ذلك، فالمدينة تتسع اتساعا رهيبا تبتلع في امتدادها الأرض الخضراء من حولها وكلما ازداد المعدل السكاني زاد معدل الامتداد علي مصدر الرزق الوحيد في الزراعة بالرغم من وجود قانون التخطيط العمراني الذي بدأ العمل به في عام 1982 ومر علي تطبيقه – أو بمعني آخر عدم تطبيقه – أكثر من سبع سنوات وهو قانون يحتاج هو الآخر إلي التقويم من واقع التجربة التطبيقية لبنوده ولائحته وأجهزته التنفيذية. ومرة أخرى تتضح أهمية تنظيم وإدارة عملية التنمية أكثر من وضع الدراسات والمخططات التي تقف دون الانتقال إلي مشروعات وبرامج تنفيذية واستثمارية، ويعود التساؤل مرة أخرى عن من يخطط ومن ينفذ.

إن الاجتماع الذي ينتظره السيد الرئيس لابد وأن ينظر إلي المجتمعات العمرانية الجديدة في إطاراتها القومية والاقتصادية كما ينظر إليها في إطاراتها التخطيطية والتنفيذية بواقعية وموضوعية وطموحات أكبر مما تحقق علي أرض الواقع دون مجاملة أو تجمد. والدعوة هنا ليست للهيئة العامة للمجتمعات الجديدة بل لكل من ساهم في الدراسات والبحوث التي هدفت إلي تقويم تجربة التنمية العمرانية في مصر، ولكل من ساهم في وضع البعد المكاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية… وليس المهم أن نشخص المشكلة ونقدم الاقتراحات أو التوصيات ولكن الأهم أن نحدد الطريق العملي والواقعي لكيفية تنفيذ هذه الاقتراحات والتوصيات حتى يخرج الرئيس من هذا الاجتماع مشبعا بالموضوعية ومليئا بالأمل. ويبقي أمام هذا الاجتماع تساؤل أخير وهو هل تستمر إدارة المدن أو التجمعات العمرانية الجديدة بصورتها القائمة أو تأخذ هذه الإدارة صورة شركات استثمارية للتنمية العمرانية تحدد لها الأهداف التي يجب أن تحققها في إطار الاستراتيجية القومية.أن صورة الشركة القديمة لمصر الجديدة لا تزال في الأذهان…

word
pdf