إدارة التنمية والبعد الغائب

إدارة التنمية والبعد الغائب2019-11-25T08:56:47+00:00

إدارة التنمية والبعد الغائب

  دكتور عبد الباقي إبراهيم

       رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

     وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمراني

         وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس

 

 

طالما تعلو الأمواج في بحر التنمية المتلاطم وما تلبث أن تفقد قوتها وتهبط ثم تتلاشى عندما تقترب من رمال الشاطئ ولا تترك إلا الزبد وتعود لتعلو مرة أخرى في حلقات متتالية تدفعها الرياح الموسمية دون أن تترك نتائج واضحة على خريطة مصر.. فكم من الدراسات قد تمت لتطوير وتنمية الأقاليم المصرية شرقا وغربا .. شمالا وجنوبا.. وكم من الدعوات قد صدرت لتوزيع الضغط السكاني الجاثم في الوادي الضيق على أرجاء مصر الأخرى. ونذكر بداية من الستينيات مشروع التخطيط الإقليمي لأسوان.. ولا يزال إقليم أسوان كما هو لم يطرأ عليه علامات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية التي رسمها المشروع..  وتلاشت الموجة لترتفع مرة أخرى بعد ثلاثين عاما تدعو لتنمية إقليم جنوب الصعيد وتخطيط مدنه وقراه بامتدادها على الأراضي الصحراوية ومع ذلك لم تلبث هذه الموجة أن فقدت قوتها ولم تترك خلفها إلا الزبد… ثم ترتفع موجة أخرى شمال الوادي لتعمير الساحل الشمالي لجذب الفائض السكاني إلى مستوطنات بشرية جديدة زراعية أو صناعية أو خدمية وسياحية ولم تلبث هذه الموجة أن فقدت قوتها ولم تترك خلفها إلا عددا من قرى الإسكان الثاني التي يطلق عليها مجازا القرى السياحية.. ثم تأتى موجة حديثة تدعو لتنمية الساحل الشمالي ولكن بعد أن قارب الأوان أن يفوت..  وفى الثمانينات ارتفعت موجة أخرى تكاتفت فيها الشركات الاستشارية الموظفة بالمعونة الأمريكية لتضع دراسات مستفيضة استمرت سنوات وانفق عليها الملايين لوضع السياسة القومية للتعمير.. ثم ما لبثت هذه الموجة أن تنحسر وتتلاشى نتائجها على رمال الشاطئ ويضيع بذلك الجهد والمال ويرجع الحال إلى نفس الحال.. ثم تأتى موجة أخرى أخيرا تحاول أن تجدد هذه الدراسة بجهد آخر ومال آخر..  وهكذا..  وتتجه الموجة مرة أخرى إلى أقاليم الصعيد وضرورة تنميته والارتقاء به وتعمير مدن جديدة فيه بعيدا عن الأرض الزراعية التي احتلتها الجامعات والمنشآت العامة ومشروعات الإسكان.. وفى السبعينيات وضعت الخطط والمخططات وبذل فيها الجهد والمال وانتهت الموجة القبلية ولم تترك إلا الزبد.. وأخيرا تبدأ نفس الموجة مرة أخرى وفى نفس الاتجاه بعد أن أصبح الصعيد مصدرا للإزعاج والاعوجاج فيتدافع المسئولون إلى الأقاليم في ظل هذه الموجة لتأدية الواجب الذي أوكل إليهم.. ثم تهدأ الموجة.. ولن تلبث أن تتلاشى كغيرها.. ثم تعلو مرة أخرى في مهب الرياح الشرقية لتظهر في سيناء مع أنها قد تعرضت للعديد من الموجات السابقة إبان الاحتلال وخلاله وبعده،  فأجريت الدراسات المستفيضة لتنميتها بتمويل من المعونة الأمريكية وتلاشت الدراسات في أدراج الرياح.. ثم عقدت المؤتمرات والندوات في شمال سيناء وجنوبها.. ووضعت استراتيجيات وسياسات.. وبدأت هيئة تعمير سيناء مشروعاتها من خلال وزارة التعمير كما بدأت هيئة أخرى لتعمير سيناء مشروعاتها من خلال وزارة الزراعة وبدأت القطرات الأولى لترعة السلام تتجه إلى شمال سيناء، وفى جنوبها بدأت هيئة التنمية السياحية مشروعاتها الطموحة من خلال وزارة السياحة ولم تترك لغير السياحة مجالا آخر للاستيطان البشرى في مجتمعات جديدة قد تراها وزارة التعمير.. فقد حصلت عدد من الوزارات على حق الامتياز لمناطق خاصة.. فهناك مناطق امتياز لوزارة السياحة وغيرها امتياز لوزارة التعمير وغيرها مناطق لا حدود لها من امتياز لوزارة الدفاع وغيرها مناطق امتياز لوزارة الداخلية وهناك مناطق من امتياز وزارة الزراعة وكأن مصر قد قسمت كمناطق امتياز قطاعي وتأتى وزارة التخطيط تحاول أن تجمع هذه الإمتيازات القطاعية في صيغة من الأقاليم التخطيطية فقد ارتفعت موجة التخطيط الإقليمي في بداية الثمانينات وما لبثت أن تلاشت هذه الموجة ولم تترك حتى الزبد.. وأخيرا تظهر موجة أخرى مدعمة من الأمم المتحدة لتأكيد البعد المكاني للتنمية الاقتصادية الاجتماعية أو بمعنى آخر السعي لتكامل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية في بوتقة واحدة بالرغم من كل المعوقات التي تفرضها الإمتيازات القطاعية لمختلف أراضى مصر.. وفى هذا الاتجاه عقدت الندوات واللقاءات سعيا للبحث عن مخرج من هذا المأزق التنموي فتتجه وزارة التخطيط إلى تأكيد دور التخطيط الإقليمي بينما تخرج وزارة الحكم المحلى في نفس الوقت بتقسيم مصر إلى أقاليم تنموية وليس أقاليم تخطيطية.. وكل يسعى في طريقه لتحقيق أغراضه.. ومع كل ما يدور من مناقشات في المجالس القومية المتخصصة التي تضم قمم الفكر الاقتصادي والاجتماعي والعمراني والثقافي وما تقدمه هذه المجالس من بحوث ودراسات تظهر موجة أخرى قوية تتجه مرة أخرى نحو سيناء فتشكل لذلك لجنة عليا برياسة رئيس الوزراء لإدارة تنمية سيناء تضم كل الوزارات ذات العلاقة فتتسابق في أعقابها المؤسسات البحثية والعلمية تخرج ما لديها من دراسات وبحوث،  وفى سرعة فائقة تتحدد معالم التنمية فيتحدد عدد المجتمعات الجديدة ومواقعها كما تتحدد أعداد المشروعات السياحية والزراعية وحجم الاستثمارات في مكل منها.. كما تتحدد ما توفره هذه المشروعات من فرص للعمل وما يرتبط بذلك من مشروعات للجسور العليا والانفاق تحت القنال بخلاف مشروعات الإسكان والمرافق العامة، هكذا وكأن الأرض قد تفجرت عن تصورات جاهزة كانت مدفونة تحتها دفعتها شدة الموجة الشرقية وتتم الزيارات وتعقد اللقاءات وتوزع التصريحات الفضفاضة كسابقتها فليس هناك من يسجل أو يتابع ويسائل.. فقد أصبح النسيان أحد أمراض العصر.. وكل عصر..

ومع كل هذه الموجات المتلاحقة والتي تتجه شرقا تارة وغربا تارة وشمالا وجنوبا تارة أخرى تبعا للظروف المناخية الخارجية والداخلية فقدت عمليات التنمية بعدها التنظيمي والإداري واقتصرت على الدراسات والخطط والمخططات والبرامج التنفيذية القصيرة الأجل في إطارها القطاعي دون استراتيجية محددة واضحة وموجهة تعمل في إطارها جميع القطاعات في تناسق وتكامل بعد أن أصبح البعد الإداري غائبا في التنمية القطاعية كما هو غائب في التنمية القومية حتى أن بعض الهيئات في بعض القطاعات لا تدرى ماذا يدور حولها في الهيئات الأخرى في نفس القطاع فما بالك من ترابط القطاعات بعضها مع البعض الآخر،  فلا تزال الدولة تدار من قبل الرياسة المركزية،  فرئيس الوزراء وهو رئيس لجنة إدارة تنمية سيناء يمكن أن يصبح في نفس الوقت رئيس لجنة إدارة تنمية الصعيد ثم رئيس لجنة إدارة تنمية الساحل الشمالي وفقدت المحليات بذلك دورها في التوجيه أو التنفيذ.  وهناك من يدعو إلى تطابق الحدود التخطيطية بالحدود الإدارية حتى ترتبط عمليات إعداد الخطط بعمليات إدارة التنمية بأبعادها العاجلة والمتوسطة وطويلة الأجل في إطار الاستراتيجية القومية للتنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية ( التعميرية) ويعنى ذلك إلغاء النظام الإداري للمحافظات والمحليات والذي جاء بديلا لنظام المديريات والبلديات ليحل محله نظام المجالس الإقليمية للأقاليم التخطيطية على رأسها وزارة التخطيط أو أقاليم التنمية على رأسها وزارة الحكم المحلى.. وهنا يستبدل عدد المحافظين الستة والعشرين إلى ثمانية رؤساء للمجالس الإقليمية التي يتكون كل منها من نواب الوزراء كل في قطاعه ودعما للتنسيق والتكامل بين القطاعات تقل أعداد الوزارات وبالتالي نوابها إلى ثمانية عشرة بدلا من ثلاثة وثلاثين وبالتالي يتكون المجلس المحلى من ثمانية عشرة نائبا للوزير.  وهكذا يمكن إحكام العلاقة الرأسية بين الإدارة المركزية والإدارة المحلية الجديدة كما يمكن إدماج المدن والمجتمعات العمرانية الجديدة في الإطار الإقليمي أو التنموي للإدارة المحلية الجديدة وان اختلف أسلوب إدارتها عن أسلوب إدارة المدن والمجتمعات القديمة في نفس الإقليم الذي يضم قدرا من المناطق المأهولة والمزدحمة بالسكان كمناطق طرد وقدرا من مناطق التنمية الجديدة كمناطق جذب تحقيقا للاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير،  الأمر الذي يتطلب تطويرا في النظم الإدارية من ناحية والنظم المالية من ناحية أخرى لتواكب التطور المقترح لإدارة التنمية القومية والمحلية،  فالإعداد لتطوير إدارة التنمية لابد وأن يتواكب مع الإعداد للخطط القومية والإقليمية حتى لا تفقد هذه الخطط مقوماتها التنفيذية وأبعادها المكانية وأهدافها الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية بعد التجارب التنموية التي مارستها الدولة على مدى الأربعين عاما الماضية.  فلم يعد التطور الإداري قاصرا على تنظيم الإدارات بهدف الارتقاء بمستوى الأداء فيها سواء في مجال الإنتاج أو مجال الخدمات.. وذلك من خلال إعادة النظر في الهياكل التنظيمية والاختصاصات والتوصيف الوظيفي للكوادر المختلفة وتحديد درجاتها تبعا لمسئولياتها،  كما لم يعد تطوير الإدارة قاصرا على إنشاء الهيئات والشركات أو دمجها أو تحديد الشئون الإدارية والمالية فيها.. تحريرا أو تقييدا،  الأمر الذي يرتبط مباشرة باختصاص ومسئوليات الموظفين.. من عاملين ومديرين وقيادات في قطاعات الإنتاج والخدمات،  إن تطوير إدارة التنمية القومية والإقليمية سوف يتطلب بالتالي تطوير الإدارة القطاعية في إطار معطيات التنمية القومية والإقليمية.  إن الخطط والمخططات القومية والإقليمية تفقد مضمونها إن لم ترتبط بالإدارة التنموية،  الأمر الذي بدأ يظهر جليا في المناهج العلمية والتعليمية في الدول المتقدمة،  ففي مجال التخطيط العمراني ثبت أن مخططات استعمالات الأراضي لم يعد لها الكفاءة القادرة على توجيه المستقبل العمراني وأصبحت إدارة التنمية العمرانية هي الموجه الواقعي والحقيقي للمستقبل العمراني وهكذا بالنسبة للمخططات الإقليمية والخطط القومية.. الإدارة التي تتعامل مع أساليب اتخاذ القرارات من ناحية وتطور الأحداث والمتغيرات من ناحية أخرى،  فالتنمية كعملية مستمرة متواصلة لا تتحقق إلا في إطارين, التنظيم والإدارة القادرة على دفعها وتطويرها في إطار المتغيرات التي قد تطرأ عليها اقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا.  إدارة لها القدرة على الحركة والدفع ولديها القدرة على الحوار والتوعية والتوجيه خاصة في الدول النامية التي ضعف فيها الوعي التنموي والتخطيطي والتي لا ترى شعوبها الأمور إلا في إطاراتها العاجلة دون تقدير لإطاراتها البعيدة الأمد.وهكذا يختلف مضمون إدارة التنمية القومية والإقليمية في الدول النامية عنه في الدول المتقدمة.  إن إدارة التنمية هي المحرك الحقيقي للخطط والمخططات بمستوياتها المختلفة.. إنها لغة العصر والطريق إلى المستقبل.

إن إدارة التنمية هي الضمان القوى لاستقرار العمل في تنمية القطاعات المختلفة في إطار الاستراتيجيات القومية والإقليمية وبالتالي لاستقرار عملية اتخاذ القرار التي تتم في إطار من الحسابات الدقيقة في تقييم البدائل والمرادفات المطروحة بعيدا عن الانفعالات الشخصية أو التصورات الفردية أو العبقريات المفاجئة التي تظهر على القيادات عندما تسوقها الأقدار لمواقع القيادة دون أن تدرك المأزق الذي وقعت فيه.. وما تلبث القيادة الجديدة أن تضع لها استراتيجياتها الخاصة بدءا بتغيير ديكور غرفة مكتب سلفه مع ما يتكلفه هذا الديكور من ألاف الجنيهات – تماما مثل   الثانية التي ترفض النوم على سرير الزوجة الأولى- ثم تقوم القيادة الجديدة بتجميع عدد من العلماء والخبراء لاستطلاع ما لديهم من خبرة أو خبرات والتعرف على المصطلحات العلمية المتداولة لتكون لديها قاعدة من التعبيرات التي تستعملها بعد ذلك في تصريحاتها الصحفية وانتقاداتها لسلفها وكأنه الناقد الفريد وما تلبث أن تتقمص هذه القيادات الشخصية العبقرية التي تستمع إليها الرعية بكل انتباه وانبهار ترفع القيادة الجديدة إلى قمة النضج والذكاء الخارق .. الذي ما يلبث أن يزول إذا فقدت القيادة مكانها،  وتستمر الرعية بلا حراك ولا فكر حتى تصل القيادة الجديدة لتوجيهها ودفعها للعمل في الاتجاه الآخر.. وهكذا يفقد العمل القطاعي استقراره واستمراره كما تفقد الكوادر العاملة قدرتها على اتخاذ القرار في الأمور الصغيرة.. كما تفقد قدرتها التخصصية وتضيع خبراتها العلمية وتستقر في مستنقع التخلف لا ينقذها منه إلا الخبراء الأجانب من صغار الموظفين في الدول المتقدمة التي تعمل أجهزتها في إطار استراتيجيات معلنة لاتتغير بتغير القيادات. وإذا كان ذلك يتم في قطاعات التنفيذ فمن الأخطر أن يتم مثله في الأجهزة التخطيطية والتنموية،  الأمر الذي يؤكد ضرورة الارتقاء بمستوى أداء إدارة التنمية سواء على المستوى القومي أو الإقليمي أو المحلى.  وهكذا يدخل البعد الإداري مكونا أساسيا في إعداد الخطط القومية والإقليمية والمحلية حتى تستكمل مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية (المكانية) والإدارية.  وتعنى الإدارة هنا بوضع نظم الأداء للأجهزة التي يوكل إليها وضع الخطط ومتابعتها وتقييمها وتعديلها في ضوء المتغيرات الطارئه عليها حتى يمكن استقرار العملية التنموية واستمرارها وتواصلها وتشمل نظم الأداء إدارات البيانات والمعلومات والبحوث والدراسات ووضع الاستراتيجيات والمخططات التنموية الآجلة والمتوسطة وبعيدة المدى وإدارات المتابعة والتقييم التي تغذى بنتائجها الإدارات السابقة.  وهكذا تستقر العملية التنموية وتستمر وتتواصل في دورات متتالية تحكمها الإدارة المدربة والواعية وتأخذ الخطط مقوماتها التنفيذية والواقعية ولا تبقى مجرد نظريات ومرئيات ودراسات وتوصيات ما تلبث أن تفقد قدرتها على الحركة إلى حيز الواقع.  إن إدارة التنمية لا تزال تمثل البعد الغائب في مكونات الخطط الاقتصادية الاجتماعية والعمرانية في الدول النامية ولا تستطيع بدونها أن تدخل القرن الواحد والعشرين بمستقبلياته سريعة التطور.

 

word
pdf