إعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية والجهد الضائع

إعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية والجهد الضائع2019-11-25T14:52:25+00:00

إعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية والجهد الضائع

دكتور عبد الباقي إبراهيم 

  رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية 

    وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية

        وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس

 

في عام 1966 أنشئت في الجهاز المركزي للمحاسبات إدارة مركزية لمتابعة الخطة وتقييم الأداء مكونة من إدارات عامة للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية كما هو وارد في هيكل الخطط الخمسية ورأس هذه الإدارات مجموعة متميزة من الخبراء والأساتذة كل في تخصصه. وكان الهدف من إنشاء هذه الإدارة المركزية هو متابعة المشروعات الواردة من الخطط الخمسية فنياً واقتصادياً وتقييم أساليب الأداء فيها ومدى تحقيقها للأغراض التي خططت من أجلها ومدى تحقيقها للجدوى الاقتصادية التي وضعت لها. ولكن يظهر أن نتائج البحوث التي تقوم بها الإدارات العامة المختلفة التي تتكون فيها الإدارة المركزية لمتابعة الخطة وتقييم الأداء لم يعد لها ما تستحقه من اهتمام. خاصة وهي تكمل نتائج الدراسات المحاسبية التي تقوم بها الإدارات الأخرى في جهاز المحاسبات. وإلا فإننا لم نسمع عن دراسة لمتابعة الخطة وتقييم الأداء للمشروعات الكبيرة. مثل مشروع تنمية الساحل الشمالي الذي امتص المليارات من مدخرات القادرين من أفراد المجتمع الذين عمدوا إلى بناء مساكن إضافية يقيمون فيها أياماً من الصيف في مجموعات سكنية أطلق عليها مجازاً قرى سياحية وهي ليست قرى وليست سياحية بالمفهوم الاقتصادي للسياحة. وقد يقول قائل أن هذا المشروع يوفر ما كان سوف ينفقه البعض في الاصطياف في الخارج. والرد على هذه المقولة لا يحتاج إلى جدال فغالبية أصحاب مساكن التصييف يسافرون إلى الخارج واسألوا شركات السياحة. هذا في الوقت الذي يدعو فيه الرئيس حسني مبارك في خطابه في يناير 1997  عند افتتاحه لمشروع توشكى بضرورة الإقامة والاستيطان خارج الوادي الذي  ضاق بمن فيه من سكان وعمران. والدولة حتى الآن لم تتمكن من استثمار الساحل الشمالي للاستيطان البشري كما كان مخططاً له بواسطة خبراء التنمية والتخطيط الذين استبعدوا عن هذا المشروع بسبب خلافاتهم الشخصية مع المسئولين عن المشروع. وهناك على جانب آخر آلاف الوحدات السكنية التي أقيمت في مناطق التعمير الجديدة ولا يقيم فيها ساكن سواء اشترى فيها أم لا . فهي تمثل إهداراً صارخاً للمال العام يعاقب عليه القانون فقد تركت هذه المساكن بدون متابعة أو تقييم بواسطة جهاز المحاسبات. وهناك مشروعات تم إنشاؤها في عجالة من الزمن دون إدراك للنتائج المترتبة على إغفال الأصول الفنية في البناء فظهرت العيوب التي احتاجت إلى مضاعفة التكاليف لإصلاحها .. ثم ما لبث أن ظهرت أخطاء أخرى احتاجت إلى أعباء مالية أخرى دون محاسبة ويقول المسئولون أن ذلك كان بناء على توجيهات السيد الرئيس وتكليفاته دون الإفصاح له عن الأمانة العلمية والفنية التي تتطلبها مثل هذه المشروعات .. والإدارة المركزية لمتابعة الخطة وتقييم الأداء تقف صامتة أمام هذه الأحداث وهناك مشروعات متوقفة منذ سنوات وسنوات وتعدت برامجها الزمنية دون محاسبة أو تقييم. وهناك مشروعات تتم بسرعة بهدف الادعاء بالإنجاز دون تقدير للمشاكل الجانبية التي تنتج عنها مستقبلاً. وتنتشر هذه المشروعات العمرانية في المدن والقرى في الوادي الضيق وفي مناطق التعمير الجديدة دون متابعة أو تقييم بواسطة الجهاز المركزي للمحاسبات. وهكذا اختل التوازن في البيئة العمرانية والمعمارية في الدولة. فهناك مدن خططها الخبراء الفرنسيون وبدأ العمل في تنفيذها وما تلبث أن تغيرها أيادي أخرى لأهداف أخرى دون محاسبة وهناك مدن خططها الخبراء الألمان وما لبثت أن انحرفت عن أهدافها لتلبية أهداف أخرى وهكذا. ومصر بمواردها المحدودة لا تتحمل مثل هذه الأعباء المالية والاجتماعية لمثل هذه التجارب التي تتم على أرض الواقع .. فقد رأى المسئولون التنحي عن إسكان الفقراء والمحتاجين  واتجهوا إلى إسكان الأغنياء بحجة أنهم الأقدر على التنفيذ وسرعة الأداء واستمر البناء للقادرين حتى تشبعت السوق العقارية فاتجه المسئولون بعد ذلك إلى العمل على إسكان الشباب القادرين منهم والفقراء والبحث عن كل السبل الممكنة لإيوائهم وإيواء مساكن العشش و العشوائيات. بعد أن اختل التوازن في البيئة العمرانية بسبب تفضيل فئة على أخرى في حين أن التوازن في البيئة العمرانية يتضمن التوازن بين احتياجات الفئات المختلفة من الشعب كل حسب دوره وموقعه في المجتمع المتكامل والمتكافل.

في عام 1992 ونحن نعد للمؤتمر الدولي لعمارة الفقراء الذي حمل اسم حسن فتحي والذي عقد في عام 1993 وحضره خبراء من كل أرجاء العالم يقدمون خبراتهم وتجاربهم في هذا المجال. وكان منها مركز للبناء بالجهود الذاتية في الهند الذي حاز على جائزة حسن فتحي الدولية لعمارة الفقراء عند انعقاد المؤتمر .. كنا قبل ذلك وفي عام 1992 نعد مع الهيئة العامة للمجتمعات العمرانية الجديدة بوزارة التعمير والإسكان مشروعاً طموحاً بتأييد من المهندس حسب الله الكفراوي الوزير المختص في ذلك الوقت وهو مشروع التنمية المتكاملة لاستيطان من لا مأوى لهم من سكان مدينة القاهرة في التجمعات السكنية الجديدة خارجها. وقد شكلت لذلك لجنة تشرفت برئاستها بدأت بطرح مسابقة بين الخبراء ليس لوضع نماذج تخطيطية أو سكنية فقط ولكن لتقديم أحدث النظريات في الإدارة المستمرة لعمليات الاستيطان وقد فاز بالمشروع الإدارة العامة للإسكان بالهيئة العامة لبحوث الإسكان والتخطيط والبناء وبدأت الدراسات الأولية لتنفيذ هذا المشروع الإرشادي في موقع من مدينة 6 أكتوبر. وما لبثت أن تغيرت الأوضاع كما تغيرت الأهداف والسياسات. وها نحن في عام 1999 ندعو إلى البحث عن مشروعات لإيواء المحتاجين وإسكان الشباب الذين يقيمون عائلات جديدة والبحث لهم عن فرص للعمل بجانب سكنهم.

في 28/1/1997 صدر قرار مجلس الوزراء بتشكيل اللجنة الوزارية لإعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية تختص ببحث ودراسة ما يعترض التنمية العمرانية والمعمارية في المدن من مشاكل ومعوقات واقتراح كل ما من شأنه إزالتها وإعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية -بنص القرار- وضمت اللجنة ثلاثة من الوزراء المختصين ومقررها السيد فاروق عبد العزيز حسنى وزير الثقافة وعضوية سبعة من كبار خبراء التخطيط والتعمير في مصر على أن تجتمع اللجنة بناء على دعوة المقرر مرتين على الأقل كل شهر ولها أن تستعين بمن تراه من المتخصصين. وترسل قراراتها إلى رياسة مجلس الوزراء – بنص القرار- واجتمعت اللجنة مرة وأخرى وترك أمرها بعد ذلك للخبراء الذين قدموا حصيلة اجتماعاتهم المتوالية في الموضوعات التالية:

  • مذكرة تفصيلية بشأن تنظيم العمل في الإدارات الهندسية بالمحليات – تتضمن الإجراءات العاجلة لتطوير نظام استخراج تراخيص البناء وتعديل اللائحة التنفيذية لقانون أعمال البناء بالإضافة إلى برامج التدريب التحويلي للمهندسين من غير المعماريين والإنشائيين العاملين في المحليات.
  • مذكرة تفصيلية بشأن توجيه تنظيم أعمال البناء في المناطق المختلفة في المدن.
  • مذكرة تفصيلية بإنشاء شركات عقارية لتطوير المناطق المتدهورة والعشوائية بالتوازي مع تنمية المناطق الجديدة خارج الوادي.
  • مذكرة بإنشاء اتحاد الشاغلين على مستوى القطاعات السكنية تفادياً للمشاكل القانونية والإدارية والتنظيمية العديدة التي قد تظهر في إجراءات مشروع القانون المقترح.
  • مذكرة هامة جداً بشأن تكامل أجهزة التنمية الاقتصادية الاجتماعية وأجهزة التنمية العمرانية في جهاز واحد يعمل على المستوى القومي والإقليمي والمحلي.
  • مذكرة بإنشاء المؤسسة العامة لإيواء المحتاجين التي تتولى همزة الوصل بين الدولة والجمعيات الأهلية المحلية التي تبنى للفقراء والشباب في مناطق التعمير الجديدة . وتوفر لها المعونات الفنية والمالية والإدارية والتنظيمية.
  • مذكرة بشأن التأمين على العقارات المبنية تهدف إلى التفتيش الفني الدوري عليها والعمل على صيانتها.
  • مذكرة تفصيلية بإنشاء هيئة عامة تقوم على تطوير والحفاظ على القاهرة التاريخية تنتقل إليها اختصاصات وزارة الثقافة والإسكان والأوقاف والمحافظة على هذه المنطقة كما هو معمول به في مدن تاريخية أخرى في العالم. وتتضمن المذكرة الهيكل التنظيمي والاختصاصات وشروط البناء مع برامج تدريب العاملين الذين ينتقلون إليها من الجهات السابقة وأسلوب تمويل المشروعات العمرانية فيها بالاستثمار أو بالحفاظ أو بالتطوير.
  • مذكرة بشأن إنشاء صندوق لصيانة الثروة العقارية.
  • مذكرة بإنشاء الاتحاد المصري لاستشاري البناء والتعمير على غرار الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء ومكملاً له.

وبعد كل هذا الجهد المتواصل وتقديم هذه المذكرات والتقارير إلى مقرر اللجنة الوزارية لإعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية يظهر أن اللجنة قد فقدت التوازن بين أعضائها من الوزراء والخبراء. ولم تظهر نتائج لهذا الجهد الضائع. الذي أثير محتواه مرة أخرى بعد خطاب السيد رئيس الجمهورية في الاجتماع المشترك لمجلسي الشعب والشورى والذي أشار فيه إلى ضرورة مشاركة الخبراء والمتخصصون والجمعيات الأهلية والنقابية في اتخاذ القرارات بالنسبة للمشروعات العمرانية. ولكن يظهر أن كل مسئول يرى أن يحتفظ لنفسه بالسبق في الإنجاز وحده دون غيره الأمر الذي لن يساعد على ظهور أجيال جديدة قادرة على اتخاذ القرار. وهناك من المسئولين من يضمر البغضاء والإساءة لكل خبير يخالفه في الرأي أو الموقف. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على الضعف في تحمل المسئولية  الوطنية التي أقسم عليها أمام رئيس الجمهورية. والأمل اليوم في أن يدعو السيد رئيس الجمهورية إلى عقد مؤتمر قومي لتدارس مستقبل العمران في مصر على غرار المؤتمر الاقتصادي الذي عقد من قبل والمؤتمر الاجتماعي الجاري الإعداد له حيث أن العمران هو البوتقة المكانية التي تتضمن كل نتائج الإصلاح الاقتصادي أو الاجتماعي وتؤثر عليها سلباً وإيجاباً .. لقد حان الوقت لتبنى الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق التي ضاق بما فيه من سكان وعمران كما أشار إلى ذلك السيد رئيس الجمهورية في خطاباته القومية

word
pdf