إعادة صياغة الساحل الشمالى

إعادة صياغة الساحل الشمالى2019-11-28T13:50:46+00:00

إعادة صياغة الساحل الشمالى


دكتور عبد الباقي إبراهيم

  رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية 

   وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس سابقاً

 

الاهرام الاقتصادى ابريل 1995

 

 

بعد هدوء معركة مارينا العلمين التى نشبت بين بعض أصحاب الفيلات والمسئولين عن التعمير وانتهاء الأمر بالتصالح لما فيه الصالح وذلك بعد أن قوبلت هذه المعركة بالكثير من التعليقات التى لا تتناسب مع حجمها كمشكلة قومية وإن كانت تتضمن بعض الأصول المهنية والتنظيمية … بعد هدوء هذه المعركة توقف الحديث عن الساحل الشمالى وكأن الأمور قد استقرت فيه ولا جديد يضاف إلى ما قيل مع أن المشكلة لا تزال قائمة … والمشكلة هنا ليست فى منتجع مارينا العلمين أوغيره من القرى الملقبة اعتبارا بالسياحية حيث أنها تضم مساكن خاصة لا تدر أى دخل يضاف إلى الدخل القومى فهى كما ذكرت جميع الصحف لا تعدو أن تكون استثمارات مجمدة يتم المضاربة عليها بين الحين والحين. وقد امتدت هذه الظاهرة إلى المنتجعات الصحراوية الزراعية حيث انتشرت القصور وحمامات السباحة والحدائق الغناء للأغنياء. الأمر الذى يؤثر سلبيا على الاقتصاد القومى بتوجيه المليارات من المدخرات إلى مشروعات استهلاكية ترويحية غير إنتاجية دون عائد يضاف للدخل القومى، الأمر الذى يخشى أن يتكرر معه المأزق الذى تعرضت له المكسيك واضطرت معه إلى خفض عملتها إلى حد متدن، وإذا كانت الدولة تسعى بكل آلياتها إلى دفع الاقتصاد القومى فى مساره الصحيح فلا بد وان توجه استثماراتها إلى الجهة التى تساعد على جذب مدخرات المواطنين إلى المشروعات الإنتاجية ذات القدرة التنافسية على التسويق الداخلي والخارجي معا خاصة فى ظل شبح الجات المنتظر، مع محاولة رفع حد الفقر عند الغالبية العظمى من سكان المدن والقرى ورفع مستواهم المعيشي فى إطار خطط التنمية الاقتصادية الاجتماعية العمرانية فى سيناء وصعيد مصر مع استثمار كل الإمكانيات التنموية للمناطق الأخرى فى الخريطة السكانية الجديدة لمصر. ومن هذه المناطق الساحل الشمالى الذى تعرض إلى العديد من الملابسات التخطيطية على مدى العشرين عاما السابقة، الأمر الذى وصل به إلى ما عليه من حال يبعد كل البعد عن مفهوم التنمية المتكاملة اقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا فى إطار الاستراتيجية القومية للتعمير والتى تتمثل فى جذب الفائض السكانى من الوادى إلى المناطق ذات المقومات التنموية وذلك من خلال الآليات المناسبة لتحقيق هذا الهدف الاستيطانى.

وللاستيطان هنا شقان فرصة للعمل ومكان للسكن، وليس المهم هنا توفير هذين الشقين ولكن الأهم هو أسلوب وطريقة تحقيق عمليات الاستيطان تنظيميا وإداريا وماليا، فقد كان لقرار السيد رئيس الجمهورية بتوفير الأراضى للاستثمار الصناعي دون مقابل أثره البالغ فى جذب رؤوس الأموال للاستفادة من هذه الميزة الكبيرة بالإضافة إلى الإعفاء من الضرائب والجمارك لمدة عشر سنوات وإذا كان ذلك يتم بالنسبة لأصحاب رؤوس الأموال من القادرين ماليا فيما بالك بالمواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر. وهم الأولي بالرعاية والأولى بالإعفاءات حتى من قيمة الأرض الصحراوية التى تخصص لإقامتها ماداموا ملتزمين بالانتقال والاستيطان فى المناطق الجديدة إذا ما توافرت لهم فرص العمل وطرق البناء المتوافقة مع البيئة، والمواطن عادة ما يستوطن حول فرص العمل أينما وجدت فإن توافرت فى القاهرة سعى إليها وان لم يجد المأوى بنى لنفسه المأوى المناسب لقدراته المالية والمادية النابعة من مقوماته الاجتماعية والثقافية والبيئية، وهو ما يتمثل فى العشوائيات التى تلف كل المدن كبيرها قبل صغيرها … فكلما زادت الاستثمارات فى مدينة زادت حولها العشوائيات فى صورها التلقائية التى تعبر عن المقومات الاقتصادية والاجتماعية لسكانها … وهى وان كانت لم تظهر بالمظهر الحضارى للمدن القديمة إلا إنها تعبر عن واقع هام وهو أن المواطن يستطيع أن يقيم لنفسه وبنفسه المستوطنات البشرية دون مساعدة من أحد، وان لم تتوافر فيها الخدمات العامة التى يجدها فى مناطق أخرى خارج هذه المستوطنات العشوائية التى تحوصل داخلها بعيدا عن كل القيود وكل العيون الخارجية، الأمر الذى عزله نفسيا عن الدولة وأجهزتها المختلفة التى يمكن أن تجهز على كل مكتسباته الاستيطانية إذا أرادت بالبيروقراطية المدمرة.

ويبقى الساحل الشمالى بعد كل ذلك بعيدا عن الأحداث أو تحقيق الاستراتجيات وقصة الساحل الشمالى معروفة ومعلنة، منذ أن استقدمت الوزارة شركة استشارية هولندية عام 1976م لإعداد دراسات جدوى التنمية الشاملة لهذا الشريط الساحلي فى مجالات الطاقة والمياه والزراعة والصناعة وبدأت بوادر التنمية فى عدد من المشروعات الصغيرة ما لبثت أن توقفت عندما اكتشفت الدولة أن أراضى الساحل قد خصصت للعديد من جمعيات الإسكان التعاونى فكان لابد من إعادة النظر فى مخطط التنمية الذى أعده الهولنديون فقامت مجموعة من المكاتب المحلية بوضع المخطط التنموي التنفيذى للساحل الشمالى شاملا الأراضى المخصصة للقرى السياحية على جانب ومراكز الاستيطان البشرى على الجانب الآخر مع وضع البرامج التنفيذية للتنمية المتكاملة التى فقدت أحد جناحيها وهو المرتبط بالإنتاج والاستيطان0 وبدأت جمعيات الإسكان التعاونى أعمالها فى بناء منتجعاتها السياحية تحت القيود واللوائح التى حددتها أجهزة التعمير وبالأسعار التى تم تحديدها، وأزيلت العديد من الزراعات وتحولت أنشطة البدو فى هذه المنطقة بعد أن زادت دخولهم من بيع الأرضي التى استملكوها بوضع اليد ودرت عليهم الملايين، وانشغلت أجهزة تعمير الساحل الشمالى باستخراج تراخيص البناء وتطبيق اللوائح وفض المنازعات على الملكيات والتخطيطات، وانتشرت المضاربات وزاد الأغنياء غنى وانعزل أصحاب العزوة فى منتجعاتهم التى توافرت لهم بالساحل الشمالى صيفا … وفى الساحل الشرقي شتاء وفى حدائق قصورهم بين هذا وذاك … هذا فى الوقت الذى تدفع فيه الدولة بكل قواها لمواجهة الإرهاب الذى تولد عن الأوضاع العمرانية المتدنية فى قرى ونجوع الصعيد. وانقسم المجتمع بذلك إلى ثلاثة أقسام قسم يزداد غنى على غنى وقسم يزداد فقرا على فقر وقسم لا يعرف مصيره بين هذا وذاك.

وعندما أقسم وزير الإسكان والتعمير أمام الحاضرين لندوة حسن فتحى الدولية لعمارة الفقراء التى عقدت فى القاهرة عام 1993م وأشهدهم أنه سوف يأخذ من تجربته منهجا قوميا لإيواء من لا مأوى لهم كمشروع رائد فى إحدى المدن الجديدة واستعدت أجهزة الهيئة العامة لبحوث البناء والإسكان لذلك … هبت الرياح … وانقلبت الأحوال وتوقف المشروع واتجهت الرياح وجهة أخرى ولم يعد للفقراء مكانا فى خطط الدولة الاستيطانية.

ومع كل ذلك فلا يزال هناك بعض الأمل فى إعادة صياغة الساحل الشمالى واستثمار ما تم تنفيذه من طرق ومرافق وشبكات لا تستغل إلا شهرا واحدا أو شهرين فى العام وتبقى خامدة العشرة اشهر الأخرى، فقد آن الأوان لاستثمار هذه البنية الأساسية فى إنعاش عمليات الاستيطان البشرى فى مراكز حضرية تتحدد مواقعها على طول الشريط الساحلي حتى يمكن أن توفر الخدمات للمصطافين فى الصيف وتعمل فى الزراعة والرعي والصناعات الحرفية فى الشتاء، فالأرض متاحة على طول الطريق يمكن أن تمنح للمستوطنين الجدد دون مقابل كما أمر بذلك رئيس الدولة فى حالات اخرى.

وهناك الفرصة متاحة لاستنباط تكنولوجيا البناء المتوافقة مع البيئة وإمكانيات المستوطنين الجدد … بحيث تتولى توطينهم أجهزة تعمل بعيدا عن بيروقراطية الحكومة … بعيدا عن أسلوب البناء بواسطة المقاولين كما دعا بذلك حسن فتحى فى رسالته الإنسانية بإنشاء مراكز للبناء الذاتى كما هو الحال فى العديد من الدول النامية فى أفريقيا وآسيا، ومنها المركز الهندى الذى نال جائزة حسن فتحى الدولية لعمارة الفقراء لعام 1993م وهذه فرصة اخرى للعطاء الإنسانى للجمعيات والمؤسسات الخيرية لأن توجه جهودها لبناء المجتمعات الجديدة للفقراء بتوفير السكن وفرصة العمل حتى تثبت للعالم أنها قادرة على ذلك عندما تقدم برامجها الاستيطانية لقمة المدن التى سوف تعقد فى أسطنبول فى يونية 1996م، وهى القمة التى تنظمها الأمم المتحدة كآخر حلقات مؤتمراتها فى موضوعات السكان فى القاهرة والاجتماع فى كوبنهاجن والمرأة فى بكين، وجميعها تسعى إلى تقريب الفجوة بين الفقراء والأغنياء والإقلال من آثار البطالة والجريمة.

وإذا كانت الدولة قد بدأت وإن كان البدء متأخرا فى اتخاذ الخطوات التنفيذية – وإن كانت غير محددة – فى تنمية سيناء وتنمية مدن وقرى الصعيد فإن إعادة صياغة الساحل الشمالى بإمكانياته التنموية يمكن أن تكون المشروع القومى الثالث المكمل لتنمية سيناء والصعيد لتحقيق الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير. ولن تبدأ الدولة من فراغ، فالدراسات متوفرة لا ينقصها إلا التجديد والتحديث ووضع البرامج التنفيذية من اللوائح والقوانين التى تساعد على دفع الناس من الوادى الضيق إلى الآفاق الواسعة فى الساحل الشمالى إذا ما توافرت الأرض بلا مقابل، وتغيرت العلاقة بين المالك والمستأجر فى مدن الوادى وهى العلاقة التى ساعدت أساسا على التركيز الرهيب للسكان حيث الإيجارات المتدنية والمتوارثة.

وتغيرت أيضا خطط الدولة فى توجيه الاستثمارات إلى حيث ما يجب أن يقيم الناس وليس إلى حيث ما لا يجب أن يقيموا فيه. وإذا كانت هذه الدعوة قديمة ومعادة … إلا أن فى التكرار والإعادة إفادة لمن يعتبر بأن المصلحة القومية هى الموجه والمحرك دون أى حساسية أو عنترية.

 

word
pdf