إعلان القاهرة مدينة مغلقة… ليس كل الحل

إعلان القاهرة مدينة مغلقة… ليس كل الحل2019-11-25T09:10:03+00:00

إعلان القاهرة مدينة مغلقة… ليس كل الحل…

   دكتور عبد الباقي إبراهيم

     رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

  وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية

   وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس

 

 

بعد تفاقم المشاكل في مدينة القاهرة بدأت الدعوة إلي جعلها مدينة مغلقة لا تسمح للوافدين عليها من الريف أو الحضر بالاستيطان فيها وهذه الدعوة قديمة طالما ترددت علي صفحات الجرائد ثم ما لبثت أن خبت وتلاشت وسط زحام المشاكل والأحداث… لتظهر من جديد تحت ضغط جديد من المشاكل والأحداث وهذه سمة من سمات الواقع المصري فقد بدأت الصحافة مرة أخرى تكتب عن هذا الموضوع العاجل جدا… سواء في صورة مقالة تعبر عن الرأي الشخصي لكاتبها من واقع ممارسته للحياة في القاهرة أو في صورة خبر يدلي به محافظ القاهرة عن إجراءات إدارية يعدها للعرض علي مؤتمر الإدارة العليا الذي سوف يعقد برياسة رئيس الجمهورية… وهكذا يبدأ التفكير العملي لحل مشاكل القاهرة بعد أن تفاقمت وأصبح من المتعذر مواجهتها فهي ليست مشاكل المرور أو المرافق أو الخدمات بقدر ما هي مشاكل البشر الذي يولد هذه المشاكل… الحل هنا لم يتغير علي مدى ربع قرن من الزمان فالقرارات السياسية تخرج من القاهرة لصالح القاهرة والآراء والكتابات تنشر من القاهرة لصالح القاهرة وأخيرا قناة تليفزيونية ثالثة لأهل القاهرة… وقديما قالوا أوقفوا الهجرة من الريف إلي الحضر حتى يخفف الضغط السكاني علي المدن وبالأخص القاهرة ذلك في الوقت الذي يعاني فيه الريف من ضغط سكاني أكثر مما تعانيه القاهرة… وكأن القاهرة تحاول أن ترمي بمشاكلها علي غيرها من مدن وقرى مصر وهي المدن والقرى التي لا تملك قوة التأثير الإعلامي والسياسي والإداري الذي تملكه القاهرة.فالمشكلة إذن ليست مشكلة القاهرة ولكنها مشكلة كل مدينة وكل قرية كالقاهرة.

لقد استمر منطق الحلول الذي ينبعث من القاهرة محاولا مد الريف والمحافظات بالمرافق والخدمات حتى لا تصدر فائضها السكاني ومشاكلها إلي القاهرة. فأقيمت الجامعات الإقليمية في المحافظات لتثبت عوامل الاستيطان وتساعد علي الامتداد العمراني علي الأراضي الزراعية وهي بذلك تزيد المشاكل أكثر مما تساعد علي حلها فجامعة الزقازيق مثلا كان بديلها جامعة الشرقية علي صحراء بلبيس ولكن المسئولين حينئذ وجدوا في ذلك إهدار بمكانة عاصمة المحافظة. ومن قبل أنشأت جامعة المنصورة علي أراضي زراعية وفي شرق الدلتا مساحات من الصحراء والأراضي القابلة للاستصلاح وإنشاء مجتمعات متكاملة زراعية صناعية جامعية. ومن قبل ومن بعد أقيمت جامعة أسيوط وشبين الكوم وسوهاج والمنيا… كلها علي أراضي زراعية… هكذا دون إدراك بالأبعاد المستقبلية لمثل هذه المشروعات… ومن قبل ومن بعد أقيمت مئات المصانع التي وزعت علي محافظات مصر الزراعية دون أن يكون لها ارتباط بالزراعة في إنتاجها… وتزيد عوامل الاستيطان البشرى علي حساب الأراضي الزراعية ويمتد العمران الحضري والريفي يأكل ما تبقي منها كالسرطان في جسم الإنسان. وبنفس المنطق في معالجة الأمور يتفاخر المسئولون بأنهم يوفرون الكهرباء لتغطي كل قرى مصر… حتى تدور السواقي وطلمبات الري لتوفر الثروة الحيوانية وحتى يدور المكن لنشر الصناعات الريفية… والنتيجة أن السواقي لا تزال بعدها الفرعوني لم تتغير ولم يتغير… إلا الفلاح نفسه الذي وجد في الكهرباء طاقة رخيصة للتلفزيون والثلاجة والغسالة والفيديو الذي قضي علي طابع القرية وحولها إلي صورة مصغرة من المدينة… ودخلت مياه الشرب بدلا من الزير فخلقت مشكلة الصرف الصحي كمشكلة أكثر خطرا، هذا في الوقت الذي لم تتغير فيه البيئة العمرانية للقرية ولم تتطور.. كما انتشر التعليم التقليدي في المحافظات الزراعية فخلق مجتمعا من الموظفين وهجرت العمالة الأراضي الزراعية لتضيف مشكلة أخرى إلي سوق العمالة المصرية.. فقد هاجر منها من هاجر وتحول الجزء الأكبر مما تبقي فيها إلي أعمال غير إنتاجية بعد أن دخل الدولار اقتصاد القرية.

وعلي المستوى الإداري للدولة تتوزع مسئوليات التخطيط والتنمية بين العديد من المؤسسات والوزارات والهيئات فعودة إلي اختصاصات وزارة الحكم المحلي ومطابقتها باختصاصات وزارة التخطيط أو هيئة التخطيط العمراني أو هيئة المجتمعات الجديدة أو وزارة الزراعة في كل ما يتصل بالتنمية الإقليمية والمحلية والتخطيط العمراني للمدن والقرى نجد العجب العجاب من تضارب العمل والاختصاصات, ونظرة إلي التقسيمات الإدارية والتخطيطية للدولة تؤكد هذه الحقيقة..هنا يكمن المدخل العلمي للتنظيم الإداري للدولة بكلياته وجزئياته من المستويات الإقليمية ثم المحلية. الأمر الذي يتطلب مفهوما جديدا في معالجة المشاكل من جذورها وليس من أطرافها… فطالما عولجت المشاكل من أطرافها دون الوصول إلي جذورها فلا تلبث أن تنبت مشاكل أخرى… وهكذا دون توقف, إن مصر غنية بخبرائها وعلمائها وهذه حقيقة تشهد بها أعمالهم في خارج مصر لا في داخلها فقد أصبحت الأجهزة في الداخل طاردة أكثر منها جاذبة لهذه الخبرات والتخصصات. وضعف الأجهزة في الداخل لا يرجع سببه إلي كثرة تغير الوزراء والمحافظين بقدر ما هو في خلو هذه الأجهزة من القيادات التنفيذية والنظم الإدارية التي لا تتغير و لا تتبدل بتغير الوزراء والمحافظين، الأمر الذي حول المنصب السياسي للوزير إلي منصب تنفيذي. وحتى يلم بأبعاد العمل التنفيذي لابد له من فترة طويلة من الزمن يستوعب فيها الدرس بالتجربة والخطأ و باجتهاداته الشخصية حتى يستطيع أن يشرح كل المشروعات ويقدم كل المخططات ويحفظ كل الأرقام ويلم بكل المحتويات ويمسك بكل الخيوط فهو الوحيد الذي يجب أن يظهر في الصورة و لا يذكر إسم غير إسمه ولا يرجع إلي احد غيره لاتخاذ القرار… هنا يكمن المدخل العلمي للتنظيم الإداري للدولة دون تخوف من التغيير الذي قد يتحول مع الوقت إلي نوع من التجمد أو التوقف.

إن ما جاء في توصيات المجالس القومية المتخصصة بشأن القاهرة لا يعدو أن يكون ترداد لبعض التوصيات التي طالما تكررت في مناسبات مختلفة وما أكثرها من توصيات لم تجد من يحولها إلي خطط عمل وبرامج تنفيذية وكأنما تقف الأمور عند حاجز التوصيات الذي يصعب اختراقه إلي حيز الواقع… وعودة مرة أخرى إلي تجربة المدن الجديدة التي لم تحقق أغراضها باعتراف وزارة التخطيط في تقريرها الذي نشرته عن الخطة الخمسية الثانية نجد أن الفكر المحلي قد تطرق إلي ضرورة دراسة المجتمعات الجديدة في إطار من التخطيط الإقليمي والقومي بمواقعها المختلفة وأحجامها المختلفة ووظائفها المختلفة ثم برامج تنميتها بحيث تتحرك عمليات التنمية الاقتصادية الاجتماعية متوازنة مع عمليات التنمية العمرانية بهدف جذب الفائض السكاني علي كل من الريف والحضر… ومع ذلك جاءت قرارات المدن الجديدة فردية من السلطة العليا دافع عنها كل من ساهم فيها دون نظرة كلية موضوعية حتى أصبح التعرض لهذا الموضوع جريمة يعاقب عليها الناقد بالإهانة والتجريح… والان ماذا نقول عن هذه المدن التي ازداد فيها معدل الاستيطان الصناعي إلي حد فاق كثيرا الاستيطان السكاني… فمعظم العاملين في المدن الجديدة يسكنون القاهرة ويحملونها فوق طاقتها فهل حققت هذه المدن أغراضها.. اللهم فاشهد.. فسبع سنوات ليست بالمدة القصيرة في عمر المدن الجديدة كما يتصور البسطاء.

وإذا كان المفهوم التخطيطي للمدن الجديدة كما تتصوره الخطة الخمسية الثانية قد ظهر منذ حوالي عشرين عاما فإن ذلك لا يعني إلا أننا تأخرنا عن حاضرنا عشرين عاما… وهكذا فالأمر لا يزال عند أهل الثقة أكثر مما هو عند أهل الخبرة الذين هاجروا ليؤكدوا قدرة الخبرة المصرية في الخارج أكثر منها في الداخل… وهكذا نجد أنفسنا متخلفين عما يحيط بنا من بلدان في الشمال والشرق والغرب بعد ان كنا رواد الفكر ومصدري الخبرات… هذا حالنا اللهم فاشهد.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر مع بعد الشقة وطول المدة… فإن بعض ما يثيره هذا المقال تجده مفصلا علي صفحات جريدة الأهرام يوم 4 مارس 1963 تحت عنوان مشكلة من واقعنا.. زحف العمران علي الأراضي الزراعية.. مشكلة الريف والحضر.. وإذا كنا نكرر نفس المضامين الفكرية بعد أكثر من عشرين عاما وبعد أن تفاقمت المشاكل حتى أصبح من المتعذر حلها فإن في ذلك مقياسا لتخلفنا أكثر من عشرين عاما.. والحل هنا ليس في إعلان القاهرة مدينة مغلقة بقدر ما هو إعلان كل المدن وكل القرى مغلقة في وجه كل زيادة سكانية أبوابها تفتح إلي الخارج ولا تفتح إلي الداخل.. مشاكلها عوامل للطرد و لا تساعد علي الجذب.. الحل هو إعلان كل المدن والقرى مغلقة في وجه كل نشاط اقتصادي جديد يساعد علي الاستيطان.. الحل هو إعلان التعبئة القومية للهجرة من الوادي إلي الصحراء حيث الكهرباء والماء والتليفونات والمواصلات وتفريغ كل المدن وكل القرى في الوادي الأخضر من كل ما لا يرتبط بالتنمية الزراعية من أنشطة اقتصادية أو اجتماعية..

عالجوا المشاكل من جذورها و لا تعالجوها من أطرافها حتى لا تنبت من جديد وتزداد تعقيدا علي تعقيد.

word
pdf