إلى مؤتمر الاقتصاديين كيف يتم الاستقرار والاستمرار في التنمية القومية

إلى مؤتمر الاقتصاديين كيف يتم الاستقرار والاستمرار في التنمية القومية2019-12-11T14:15:03+00:00

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى مؤتمر الاقتصاديين

كيف يتم الاستقرار والاستمرار في التنمية القومية:

  دكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

    وكبير خبراء الأمم المتحدة سابقا   

 

          من أهم ما أشار إليه السيد الرئيس محمد حسني مبارك في خطابه يوم 26 يناير 1982 هو الحاجة إلى الاستقرار والاستمرار في التنمية القومية ووضع خطط واقعية ترتبط بسياسة اقتصادية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير بتغير القيادات, الأمر الذي يحتاج إلى جهد كبير لتحقيقه خاصة في مراحل النمو الاجتماعي والاقتصادي للدولة وما يرتبط به من متغيرات ثقافية وسلوكية ومؤثرات دولية الأمر الذي يتطلب قدرا من الحركة والمرونة في إطار ثابت لاستراتيجية ثابتة. وهذا ما يعني الاستقرار والاستمرار.

          ولاشك في أن عمالقة الاقتصاد المصري الذين يجتمعون اليوم لرسم سياسة اقتصادية ثابتة لمصر يدركون أن الصعوبة ليست في وضع الخطط بقدر ما هي في تحقيقها. وتحقيقها يرتبط بقدرة الأجهزة التنفيذية وكفاءتها وتنظيمها وأسلوب العمل فيها الأمر الذي أثار من قبل الدعوة إلى الثورة الإدارية التي لم تتحقق بعد ولم يكن السبب في ذلك ضعف الأداء عند العاملين بقدر ما كان في أساليب وبيئة العمل أو في اللوائح والقرارات المتغيرة أو المتناقضة أو في الضغوط المباشرة وغير المباشرة, الأمر الذي كاد يوقف فعالية الأجهزة التنفيذية في الدولة ويشل عملها.

التخطيط القطاعي والقومي:

          وإذا بدأنا بأجهزة التخطيط القطاعي في كل وزارة نجد أنها تحاول بقدر إمكاناتها أن تقدم دراساتها ومرئياتها المستقبلية لتطوير وتخطيط قطاعاتها…. وقد يوكل البعض منها جانبا من دراساتها إلى شركات استشارية عالمية بسبب العجز في كوادرها الفنية وقد ظهر ذلك في قطاعات التعمير والسياحة والإسكان والصناعة والزراعة والنقل والمواصلات… والتخطيط لأي قطاع يتطرق بطبيعة الأمر إلى مستقبل القطاعات الأخرى. وتأثيرها المباشر وغير المباشر على هذا القطاع. وعندما تنتهي هذه الدراسات وتحدد على ضوئها الاستثمارات اللازمة لما تضمنته من مشروعات ترفع إلى وزارة التخطيط التي تجمع كل هذه الاستثمارات في بوتقة التخطيط القومي وتخرج منها بصورة أخرى تحدد في ضوء المخصصات المتاحة لكل قطاع وترجع بها بعد ذلك إلى أجهزة التخطيط القطاعية لتعدل من خططها وبرامجها.. وهنا تتوه معالم الخطط وتتشابك البرامج وتتداخل الأرقام.. وتغرق أجهزة التخطيط القطاعي في دوامة المخصصات والتعليمات والقرارات.. إلى أن يدخل عليها وزير جديد ليضيف إلى هذا الوضع أفكارا جديدة وتصورات خاصة لتزيد من تعقيد الأمور, وبهذه الصورة لا يمكن أن يكون هناك استقرار أو استمرار.. وتعود الدورة مرة أخرى للبحث عن مخرج من هذه الدوامة الإدارية فتدعى اللجان وتجتمع الندوات لعلها تضع الحلول أو التوصيات التي ما تلبث هي الأخرى أن تنتهي إلى ملفات النسيان.

مرض اللجان:

          لقد أصبحت ظاهرة اللجان الكثيرة مرضا إداريا يكاد يصيب الجهاز الإداري للدولة بالشلل, فهو يمتص المسئولية ويضيع الوقت ويشتت الجهود ويزرع الاجتهادات.. يتغير بتغير الوزير.. يقلل من الفعالية ويزعزع الثقة والجدية. ومع ذلك يلجأ إليه المسئولون لاستطلاع الآراء أو لتجميع الموضوعات. لقد ثبت خطر هذا المرض ومع ذلك لم تتم أي محاولة للتخلص منه منذ أصبح ظاهرة أو مجال للمظاهرة.

          ومن الثابت إداريا أنه كلما زاد حجم اللجنة كلما قل عطائها وفاعليتها ومع ذلك تتكون اللجان الاستشارية بأعداد كبيرة تقسم داخليا إلى لجان فرعية تخصصية لا تلبث أن تذوب أو تتوقف. لقد كان رئيس الجمهورية حكيما عندما حل هيئة المستشارين حتى يتيح لكل فرد من أعضائها أن يقوم بإنجاز أعماله التخصصية بطريقة أكثر إيجابية وفعالية.. لمهمة معينة في مكان معين ووقت معين سواء بمفرده أو بعضويته لفريق عمل. والدعوة هنا لتطبيق نفس السياسة في الوزارات والهيئات حتى يمكن الإفادة الكاملة من الأساتذة والخبراء المتخصصين في إنجاز أعمال معينة في المجالات التخطيطية أو التنفيذية لبرامج التنمية الاقتصادية الاجتماعية العمرانية… سواء أكان ذلك على المستوى القومي أو الإقليمي أو المحلي.

تحقيق الاستقرار والاستمرار:

           إن تحقيق الاستقرار والاستمرار في التنمية القومية لضمان تنفيذ الخطط وواقعيتها لابد وأن يرتبط باستقرار أسلوب العمل في تناول هذه الخطط وبرمجتها ومتابعتها وتقيمها من جهة وتغذيتها بنتائج البحوث النوعية والبيانات الإحصائية من جهة أخرى الأمر الذي يتطلب بناءا جديداً للهيكل التنظيمي للعملية التخطيطية على كافة المستويات القومية والإقليمية والمحلية والتفصيلية وتوحيد برامج البحوث النوعية ومحتوى البيانات الإحصائية بحيث يخرج الهيكل التنظيمي للعملية التخطيطية وارتباطه بالبرامج التنفيذية شاملا العلاقات الوظيفية والعملية في اتجاهين أساسيين.. رأسيا بين مستويات الخطة في حركة تبادلية مستمرة وأفقيا بين القطاعات المختلفة في كل مستوى من هذه المستويات.

تكامل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية في التنمية القومية:   

وإذا كانت العملية التخطيطية تضم الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في الخطط القومية والإقليمية والمحلية والتفصيلية فهى لابد وأن تضم إليها أيضا الجوانب العمرانية وهي الجوانب المكانية وذلك في صورة متكاملة نظرا لأهمية المؤثرات المكانية على الجوانب الأخرى في المستويات التخطيطية المختلفة. وبذلك تتم العملية التخطيطية في وقت واحد على الأبعاد الزمنية المختلفة العاجلة والقصيرة والمتوسطة والطويلة الأجل شاملة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية. وهكذا يتم التعامل مع المشاكل التخطيطية بصورة متكاملة على الأبعاد الزمنية الأربعة مع ما يتطلبه ذلك من مرونة وحركة تبعا للمتغيرات التي لا يمكن توقعها ولكن في إطار إستراتيجية التنمية القومية الثابتة.

وخبراء العالم من حولنا لا يزالون يبحثون عن الصيغة المثلى لتكامل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية في بوتقة واحدة على المستويات التخطيطية المختلفة وربط نتائجها بالبرامج التنفيذية التي تتولاها الأجهزة القطاعية, وقد وصلت بعض دول العالم إلى بعض الصيغ التنظيمية التي تضمن هذا التكامل، والبعض الآخر لا زال في مراحل البحث.

الحاجة إلى جهاز مركزي للتنمية القومية:

          إن الاستقرار والاستمرار في التنمية القومية يتطلب في المقام الأول استقرارا واستمرارا لأسلوب العمل في أجهزة الدولة, فكثيرا ما تنضم بعض الأجهزة بهدف التنسيق والتكامل وتوحيد المسئولية ثم لا تلبث أن تتحلل بمسميات أخرى بهدف التخصص وتوزيع المسئوليات. وهكذا يتعرض الجهاز الحكومي بين آن وآخر للتنظيمات الإدارية بالضم أو التقسيم أو بالتكوين أو الإلغاء, الأمر الذي لم يساعد على الاستقرار والاستمرار في العمل أو في الانتاج.. وإذا قسمنا العمل في الأجهزة الحكومية إلى أعمال تخطيطية وتنفيذية ومحاسبية وإحصائية. وإذا كان العمل التخطيطي يتم رأسا على المستويات المختلفة كما يتم أفقيا بين القطاعات المختلفة فهو في هذه الحالة يصبح مركزيا في التوجيه والمتابعة والتقويم ومحليا في التطبيق والتعديل. وإذا كان العمل التنفيذي يتم قطاعيا فهو يصبح مركزيا في البرمجة والمعايير والتوجيه ومحليا في التنفيذ والمتابعة. وهكذا الحال بالنسبة للعمل المحاسبي والإحصائي، من هنا يأخذ العمل التخطيطي  كيانا يعادل كيان الجهاز التنفيذي والمحاسبي والأحصائي، فإذا كان للمحاسبة جهاز مركزي له فروعه الإقليمية والمحلية في القطاعات المختلفة لتطبيق النظام المحاسبي الموحد.. فإن الجهاز المركزي للإحصاء والتعبئة لابد وأن يكون له هو الآخر فروعه الإقليمية والمحلية في القطاعات المختلفة لتطبيق نظام موحد للمعلومات وذلك عن طريق البنوك المحلية للمعلومات التي تتجمع ببياناتها في بنوك إقليمية تتجمع بياناتها بنفس الأسلوب في بنك المعلومات المركزي كبديل للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ليغذي العملية التخطيطية. ويتطلب هذا المنطق أن يكون للتخطيط جهاز مركزي يعالج الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية لخطط التنمية القومية بحيث يكون له هو الآخر فروعه الإقليمية التي تعمل في نطاق الأقاليم التخطيطية وفروعه المحلية التي تعمل على مستوى المدن أو التجمعات الريفية مع تنظيم الحركة الرأسية التبادلية بين هذه الأجهزة وذلك برفع المرئيات من المستويات الدنيا إلى المستويات الأعلى انتظارا لتوجيهاتها حتى تتمكن من وضع برامجها التخطيطية المحلية في الإطار الشامل وذلك في حركة مستمرة بحيث تخرج نتائج التخطيط إلى الأجهزة التنفيذية مدركة للأبعاد العاجلة والقصيرة والمتوسطة والطويلة الأجل.

          ومن هذا المنطلق يصبح جهاز التخطيط العمراني أحد عناصر الجهاز المركزي للتخطيط والتنمية حيث تتجمع فيه قمم الكفاءات التخطيطية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية وتخرج عن الخطط العاجلة والقصيرة والمتوسطة والطويلة الأجل بمنطق واحد وبفكر واحد ويضع المعايير التخطيطية وأساليب العمل بها في كافة المستويات. والجهاز المركزي للتخطيط والتنمية بهذه الصورة يصبح جهازا أساسيا أو بنتاجون التخطيط إذا جازت التسمية… كما يصبح البنك المركزي للمعلومات هو الرافد الرئيسي الذي يغذي المستويات المختلفة للتخطيط بالبيانات الاقتصادية والسكانية والعمرانية كما يصبح الجهاز المركزي للمحاسبة والتقويم هو المقوم الأساسي للعملية التخطيطية على كافة المستويات بحيث تعمل الأجهزة الثلاثة بفكر واحد وأواصل وظيفية محددة وواضحة تظهر أساليب العمل فيها بمفاهيم موحدة في كتيبات العمل التفصيلي في هذه الأجهزة.

             وهكذا يمكن ضمان الاستقرار والاستمرار في التنمية القومية.

             واللـــــــــــه المعيـــــــن…

 

 

word
pdf