الأتعاب الاستشارية تحت المراجعة

الأتعاب الاستشارية تحت المراجعة2019-12-11T14:35:00+00:00

الأتعاب الاستشارية تحت المراجعة
   

دكتور عبد الباقي إبراهيم

          رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية           

   

  وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية    

     وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس     

     

 

الأهرام الاقتصادي 8/1982 

 

تعرضت الأتعاب الاستشارية في مصر للعديد من الاجتهادات والمحاولات في التحليل والتقدير وذلك بسبب تقويم طبيعة المشروعات وتعدد جوانبها البيئية والهندسية والاقتصادية والاجتماعية وتكاملها, فلم تعد المشروعات تتم في إطار محدد الأبعاد يمكن حساب المجهود الذي يبذل في دراستها بسهولة ويسر. خاصة مشروعات البناء والتشييد والتي وضعت لها نقابة المهندسين لائحة خاصة صدرت عام 1975 ولم تتغير ولم تتبدل منذ إصدارها حتى أصبحت غير ذات جدوى بعد أن فقدت واقعيتها في التطبيق والممارسة, واستمر التعامل مع الأتعاب الاستشارية بالأسلوب الاجتهادي أو من خلال المسابقات أو المناقصات وغيرها من الوسائل التي لا تستند على نظام محكم وعادل لتقدير الأتعاب الاستشارية للمشروعات المختلفة حتى اضطرت الدولة إلى إصدار قانون الممارسات رقم 9 لعام 1982 الذي ساوى بين شراء المعدات والأدوات وتقديم الاستشارات كما ساوى بين الإنتاج الفكري والإنتاج العيني والإنتاج الفني والإنتاج الحرفي. واستمر الحال كما هو بالرغم من الاعتراضات التي صدرت من المنظمات المهنية بهذا الشأن خاصة بالنسبة للأعمال التي تسند إلى المكاتب الاستشارية بكل تخصصاتها المحددة أو المتكاملة هذا في الوقت الذي ظهر فيه العديد من جوانب النقص في تنظيم المهنة في الأعمال الاستشارية. إذ لا توجد معايير أو محددات لتصنيف المكاتب الاستشارية سواء بالنسبة لاعداد العاملين فيها أو بالمسطحات المشغولة بهم أو التجهيزات المعاونة لهم, أو بالنسبة لنوعيات الأعمال وأحجام المشروعات التي تولتها, أو بالنسبة لاعتراف المنظمات الدولية بها, وهذه جميعها عناصر هامة في تقييم المكاتب الاستشارية, والنشر عنها في السوق الاستشارية العربية والأفريقية, الأمر الذي يفقد الإنتاج المصري أحد أهم روافده الانتاجية0هذا مع الأخذ في الاعتبار ضرورة زيادة الكفاءة الإنتاجية في الأعمال الاستشارية حتى تكون منافسة في الأسواق الأجنبية, فقد أصبحت الأعمال الاستشارية من أهم عناصر التصدير إلى الخارج الأمر الذي فاقتنا فيه أسواق دول جنوب شرق آسيا وهى المتصلة مباشرة بأحدث المنجزات التقنية والإنتاجية سواء في اليابان أو في سنغافورة وتليها الفلبين واندونيسيا وماليزيا من ناحية والهند وباكستان المتصلتان بالسوق البريطانية من ناحية أخرى… ويظهر ضعف الإنتاج الاستشاري في مصر واضحا في تنظيماته الإدارية والإلمام باللغات والقصور في إدارة النظم والإنتاج الاستشاري المتطور في العالم. وهذا ما يلقى بأعبائه الكثيرة على المنظمات المهنية والعلمية المحلية وبالأخص نقابة المهندسين التي يغلب على نشاطها توفير الخدمات والمعاشات أكثر منها الارتقاء بمستوى الإنتاج والأداء في الأعمال الاستشارية, هذا بالإضافة إلى القصور الشديد في مناهج التعليم الهندسي الذي يفتقر إلى الابتكار والتعامل مع أحدث منجزات العصر من علوم وفنون ومن طرق ووسائل الأداء التي تصدر عنها العديد من الكتب الإرشادية والمهنية والحرفية. الأمر الذي يساعد على دفع العملية التعليمية التي تغذى الأعمال الاستشارية, ففي مصر نجد الفصل بين مناهج التعليم الهندسي خاصة في مجال التشييد والبناء وبين متطلبات السوق الاستشارية المحلية أو العربية أوالافريقية.

 
 وهذه مهمة أخرى تلقى على عاتق النقابات المهنية حتى تسعى إلى ربط المناهج العلمية فى الجامعات بعد تطويرها باحتياجات التنمية المحلية من ناحية والسوق الخارجية من ناحية أخرى, حيث أن الكليات العملية والهندسية منها بصفة خاصة لا تزال تعنى بالجانب النظري أكثر من الجانب العملي أو التطبيقي أو الجانب المهني بوصف أدق ويتضح ذلك في العديد من البحوث والدراسات التي تجرى في المجالات الهندسية والمعمارية, الأمر الذي أدى إلى هبوط المستوى العلمي والتطبيقي للخريجين ومن ثم هبطت أسعارهم فى سوق العمالة العربية ولا وجود لهم في سوق العمالة الأفريقية, وهذا ما يفقد مصر مصدرا هاما من مصادر التنمية الاقتصادية بسب تدنى مستوى التنمية البشرية المتوافرة بكثرة لا تحسد عليها. 

لقد تركت المكاتب الاستشارية الأجنبية التي عملت في مصر في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات بصماتها على نظام التعاقدات الاستشارية, وعرف مفهوم نطاق العمل والشروط المرجعية كما عرف مفهوم تحديد الأتعاب من خلال تكاليف (الرجل / شهر) والتجهيزات والمصروفات الإدارية المحلية في حساب الأتعاب الاستشارية, وان كانت الإدارات الحكومية لم تطور من نفسها في هذا المجال واعتمدت في العديد من الحالات على ما تركته لهم المكاتب الأجنبية من مفردات وتعبيرات تطبقها في جميع الحالات بالرغم من اختلاف طبيعة العمل في كل مشروع, ومع هذه المتغيرات في أسلوب تقدير الاتعاب في المشروعات الكبرى قل الاعتماد على أسلوب النسب المئوية التي حددتها نقابة المهندسين إلا في الحالات المحددة مثل تصميم المباني, وهنا خضعت هذه النسب لنظام الممارسات حسب القانون 9 لعام 1982, الأمر الذي أدى إلى هبوطها هبوطا شديدا وهبط معها مستوى الإنتاج الاستشاري حتى وصل في بعض الحالات إلى الحضيض, الأمر الذي انعكس بدوره على مستوى الإنشاءات سواء للقطاع العام أو الخاص وأدى بذلك إلى زيادة نسبة الفاقد في التكلفة الكلية في قطاع التشييد والبناء, ويرجع ذلك إلى عدم إحكام الصيغة التعاقدية للأعمال الاستشارية والتي يوضح فيها بالتفصيل الإنتاج الفكري والتصميمي ثم الإنتاج التنفيذي لكل العناصر والخبرات مع تحديد مستوى الأداء والتقويم في كلا الحالتين, وكما يعامل المقاول على أساس الكميات والمواصفات فان الإنتاج الفكري والتنفيذي للأعمال الاستشارية لابد وأن توضح كمياته ومواصفاته وتوقيتاته حتى يمكن تحديد الأتعاب اللازمة لإنجازه وهذا يدخل في إطار العقد النموذجي الذى تعده النقابة المعنية وخاصة نقابة المهندسين حفاظا على حقوق كل من المكتب الاستشاري وصاحب العمل أولا, ثم الارتقاء بمستوى الأداء الاستشاري ثانيا. ومع استيفاء الأتعاب الاستشارية المناسبة سوف تتنافس المكاتب الاستشارية على الارتقاء بمستوى أدائها مع التعرف على كل جديد في السوق الاستشارية في العالم, سواء بإرسال مندوبيها للخارج للتمرين أو باقتناء أحدث الأجهزة التي تساعد على كفاءة الأداء, وكفاءة الأداء من ناحية أخرى سوف تساعد على الارتقاء بمستوى الإنتاج العملي للعمالة الاستشارية ويصبح البحث هنا أمام الخريجين الجدد ليس للحصول على الماجستير أو الدكتوراه حيث لا تكتسب أي خبرة عملية ولكن للتمرس على الخبرة العملية في المكاتب الأجنبية بالخارج, وهذه أيضا مسئولية النقابات المهنية لمراجعة ملفاتها سواء بالنسبة للمناهج العلمية أو التدريبية أو النظم التعاقدية أو اكتساب الخبرات الأجنبية في إطار السوق الاستشارية العالمية. 

وهكذا تصبح مراجعة الأتعاب الاستشارية سبيلا للارتقاء بمستوى المهنة والأداء من ناحية وللحفاظ على الثروة العقارية من ناحية أخرى … وإذا كان هذا موضوع يخرج عن اختصاص النقابات المهنية خاصة بالنسبة للتخصصات المتكاملة الهندسية والاقتصادية والاجتماعية والصناعية والزراعية في المشروعات الكبرى, فإن الأمر يستدعى إنشاء اتحاد للمكاتب الاستشارية كما هو الحال بالنسبة لاتحاد المقاولين الذي تمت الموافقة على قانونه مؤخرا يتم في إطاره تصنيف المكاتب الاستشارية حسب الحجم أو حسب التخصص والخبرة ويصدر عنه النشرات التي يقدمها إلى السوق المحلية والعربية والأفريقية أو العالمية,  كما هو الحال بالنسبة لمكتب اتحاد الاستشاريين في بريطانيا الذي ترأسه شخصية كبيرة مثل ديوك أوف جلوستر الذي يساعد في تذليل العقبات التي تواجه مكاتبه الاستشارية في الداخل والخارج, وهذه مرحلة لم تصل إليها مصر بعد سواء من خلال مستشاريها التجاريين في السفارات أو أي جهة أخرى رسمية أو سياسية, فكم مرة انتقل فيها (ديوك أوف جلوستر) أو تاتشر من بريطانيا, أو الملك بدوان من بلجيكا, أو الملك كارلوس من أسبانيا, أو غيرهم من الملوك والرؤساء والوزراء لتذليل العقبات التي تواجه مكاتبهم الاستشارية في الخارج باعتبارها أهم القطاعات التي تدعم الاقتصاد القومي للدولة سواء بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة تمتد آثارها إلى تصدير العمالة والمنتجات المحلية في المشروعات الجديدة خارج الدولة. 

وفى جميع الحالات لابد من تحديد الأتعاب الاستشارية على أساس حجم وقيمة الإنتاج الفني أو الفكري والتنفيذي معا, وذلك في ضوء ما يتحمله هذا الحجم وهذه القيمة من مؤهلات فنية وخبرة استشارية. ويمكن احتساب الأتعاب على أساس التقدير العام للفكر الفني أو الابتكار وترك ذلك للمنافسة والمسابقة ثم التقدير التفصيلي لحجم الإنتاج الفني التصميمي أو التنفيذي الذي يتمثل في تفصيل المحتوى العلمي للدراسات الاستشارية بالإضافة إلى تفصيل المحتوى الفني للوحات والمخططات التصميمية والتنفيذية التي يحتاجها المشروع. وإذا كانت هناك إمكانية الممارسة فى تحديد قيمة أتعاب المكون الفني أو الابتكارى على أساس نسبة معينة من قيمة المشروع أو بمبلغ مقطوع فان الممارسة على الأتعاب تقل فعاليتها في حجم وقيمة ومحتوى الإنتاج التصميمي والتنفيذي المحدد بأعداد ومحتوى التقارير واللوحات التي يلتزم الاستشاري بتقديمها في المراحل المختلفة للعمل الاستشاري, تبعا للبرنامج الزمني المتفق عليه في العقد مع تحديد دور العميل في المراجعة والاعتماد وتحديد دور الاستشاري في التعديل في أي مرحلة من مراحل الإنتاج الاستشاري وبهذه الصورة تقل فروق المنافسة بين المكاتب الاستشارية إلى أقل حد ممكن وتختفي ظاهرة الفروق الكبيرة التي تتراوح بين 4% و4ر0% في كثير من الأحيان الأمر الذي هبط بمستوى الإنتاج الاستشاري والمهني إلى أدنى مستوى. وهكذا تتحدد الأتعاب على أساس حجم الإنتاج ومحتواه العلمي والفني مع حصر التنافس في أضيق الحدود وكلما نص في التعاقد على توصيف كل صغيرة وكبيرة من هذا الإنتاج اقترب تقدير الأتعاب إلى الحد الامثل للاستشاري من ناحية وصاحب العمل من ناحية أخرى والحد من الإسراف في التحديد الجزافي للأتعاب, وإذا اتفق الطرفان في التعاقد على تطبيق نظام النسبة المئوية التي يرتضيها الطرفان, فان ذلك لابد وأن يتم مع التوصيف الدقيق للإنتاج الاستشاري سواء الجانب الابتكارى والفكري أو الجانب التنفيذي منه حفاظا على مستوى الأداء المهنى. 

وفى كثير من الأحيان يلجأ الاستشاري إلى حساب الأتعاب الاستشارية مرة بحساب تكاليف الإنتاج الموصف بكل دقة وذلك باستعمال أسلوب (الرجل/شهر) والتجهيزات والطباعة وغيرها من المصروفات الإدارية والنثرية والأرباح, ومرة أخرى الحساب بأسلوب النسبة المئوية سواء بالنسبة لتكاليف الوحدات الأساسية أو المتكررة مضافا إليها نسبة أخرى تغطى الأتعاب الخاصة بإعداد الدراسات الاستطلاعية أو الاقتصادية أو الاجتماعية بالأسلوب السابق والتي يصعب احتسابها على أساس النسب المئوية, وبذلك يمكن المقارنة بين قيمة الأتعاب في الحالتين ثم التقريب بينهما أو أخذ أحدهما أساسا لتقديم العطاء أو أساسا للتعاقد حيث تسهل المحاسبة على أساس النسب المئوية من قيمة العطاءات. وهنا يمكن فصل أتعاب الدراسات عن أتعاب التصميمات. وفى كل الحالات لابد من التوصيف المفصل للمحتوى العلمي والفني للإنتاج الاستشاري تبعا للأصول العلمية والمهنية دون أي تراخ من طرفي التعاقد, وهذا ما دعا العديد من المنظمات المهنية في العالم إلى وضع صيغة العقد الاستشاري المعتمد منها والذي لا يمكن الاعتداد بغيره قانونا إلا إذا تم اعتماده من المنظمة المهنية المسئولة وذلك في الحالات الخاصة أو الاستثنائية, وينظم أسلوب التعاقد الاستشاري الدولي المعروف باسم (الفيديك) هذا الموضوع بكل وضوح وموضوعية حفاظا على حقوق كل من الاستشاري وصاحب العمل والمقاول, وهو النظام الذي تعتمده وتقره هيئات التحكيم الدولية خاصة في العقود الدولية, وإذا أمكن تطبيق هذا النظام في مصر فان ذلك يؤهل المكاتب الاستشارية المصرية للخروج إلى السوق الاستشارية الخارجية والتنافس مع غيرها من المكاتب الاستشارية العالمية. 

إن التحول الاقتصادي الذي تتبلور ملامحه في مصر في الوقت الحاضر يدعو إلى ضرورة مراجعة الأتعاب الاستشارية دعما للاقتصاد القومي وارتقاء بمستوى المهنة وتوفيرا لفرص أكثر للخبراء والاستشاريين والعمالة الفنية والمهنية. 

word
pdf