الأعمال الاستشارية وتجارة المواشي

الأعمال الاستشارية وتجارة المواشي2019-12-11T12:28:40+00:00

الأعمال الاستشارية وتجارة المواشي

دكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية 

 وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية 

 وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس سابقا

 

تهتم الدول المتقدمة بتنظيم الأعمال الاستشارية فيها وهي بذلك تفتح لها أسواقا خارجية تغطي الساحة الدولية فهي تصٌدر الخبرة كما تصٌدر منتجاتها الصناعية والزراعية والحيوانية … ويظهر أن مفهوم مساواة الخبرة الاستشارية بتجارة المواشي قد انطبع في ذهن المشرع المصري من هذا المنطلق فأصدر بذلك القانون رقم 9 لسنة 1983 الخاص بتنظيم المناقصات والمزايدات ولائحته التنفيذية والذي جاء في المادة (5) منه بما يلي خاصة بالممارسة:
يكون التعاقد عن طريق الممارسة في الأحوال التالية:

  1. الأشياء المحتكر صنعها أو استيرادها.
  2. الأشياء التي لا توجد إلا لدى شخص بذاته.
  3. الأشياء التي يمكن تحديدها بمواصفات دقيقة.
  4. الأعمال الاستشارية أو الفنية التي يتطلب بحسب طبيعتها إجراؤها بمعرفة فنيين أو اخصائيين أو خبراء معينين.
  5. الحيوانات والطيور والدواجن علي اختلاف أنواعها المطلوبة لأغراض غير التغذية.
  6. التوريدات ومقاولات الأعمال ومقاولات النقل وتقديم الخدمات التي تتصف بالاستعجال….إلخ

ومعروف أن هذا القانون قد صدر في غفلة من الزمن فأصاب قطاع المقاولات كما أصاب قطاع الاستشارات أكثر مما أفادها باعتبارها من أعمال المقاولات أو من أعمال التوريدات أو كتجارة المواشي والطيور والدواجن, ويظهر أن الأمر قد اختلط علي المشرع ولم يعد يميز بين هذه النوعيات, وأن مطبخ التشريعات لم يعد لديه الطاقة الكافية إلا لسلق القوانين ولوائحها التنفيذية وهكذا تتأخر البلاد خطوة أخرى إلي الوراء.. بل ويصاب الاقتصاد القومي بنكسات أخرى من نوع آخر.. فأن أرخص الأسعار الاستشارية سوف ينجم عنه أقل مستوى من الإنتاج الفني أو العطاء العلمي الأمر الذي لا يسيء فقط للمهنة الاستشارية بل إلي الناتج النهائي بعد تنفيذ الأعمال. خاصة وأن الدولة ليس بها جهاز لتقييم المكاتب الاستشارية أو تصنيفيها كما في كل بلاد العالم. واقرب الأمثلة علي ذلك يمكن الرجوع إليها في الدول العربية المحيطة بنا التي أصبح تنظيم الأعمال الاستشارية فيها مواكب لأكثر الأنظمة تطورا وبما يتناسب مع الأوضاع المهنية والتشريعية السائدة, وهذا ما يمكن أن تطرقه أجهزة وزارة التخطيط بعد أن أصبح التعاقد مع المكاتب الاستشارية المحلية والعالمية يتم من خلالها.

وعلي الجانب الأخر يظهر أن الجهات الإدارية المسئولة هي أيضا لا تتوافر لها القوائم المصنفة والمقيمة للمكاتب الاستشارية حتى تحدد سلفا من يتقرر اشتراكهم في الممارسة بين المقيدين في سجلاتها. كما أنه ليس لديها الكوادر الفنية العالية التي تستطيع تقييم الخبراء والفنيين الذين تتوافر لديهم الكفاءة والخبرات الفنية التي تتلاءم مع طبيعة وأهمية موضوع التعاقد كما جاء في رأي السيد الدكتور وزير المالية في هذا الشأن والذي يقول بالحرف الواحد:
” أن المادة (7) من القانون رقم (9) لسنة 1983 قد أجازت التعاقد بطريق الاتفاق المباشر فيما لا تزيد قيمته علي 2000 جنيه بالنسبة للتعاقد علي مثل هذه الأعمال, وبالتالي فيمكن التعاقد مع المكاتب الاستشارية والتخطيطية والمعمارية بطريقة الاتفاق المباشر في هذه الحدود وفي الحالات التي تقضي بذلك”.

والتساؤل هنا كيف يمكن أن هذه الأعمال الاستشارية التخطيطية والمعمارية التي لا تزيد قيمتها عن  2000 جنيه اللهم إلا إذا كان ثمن الورق أو تجليد الدراسات فرحمة بعقل الإنسان المصري.
ويستطرد السيد الدكتور وزير المالية قائلا ليس هناك ما يحول دون قيام الجهات الإدارية المتخصصة بإجراء مسابقات بين المكاتب الاستشارية وبيوت الخبرة أو دعوتها لتقديم سابقة أعمالها وتقييمها وذلك كأجراء تحضيري للتعاقد ويلي ذلك دعوة الناجحين في المسابقة أو الذين تسفر عملية تقييم سابقة أعمالهم عن توافر الكفاءة المطلوبة لديهم للاشتراك في الممارسة للتعاقد مع أفضلهم من حيث الشروط والأسعار حيث أنه في هذه الحالة تكون قد أقرت عناصر الكفاية الفنية المطلوبة هكذا دون أن يكون هناك ضوابط للتقييم أو حتى معرفة متخصصة بأسلوب الدعوة للدخول في هذه المشروعات…. وكم من دعوات أعدتها أجهزة البحوث والدراسات في إحدى الوزارات التي تتعامل مع مثل هذه المشروعات وانتهت إلي إلغاء المشروع نظرا لضحالة محتوى الدعوة التي دائما ما يعدها غير المختصين.

وإذا كان القانون رقم 9 لسنة 1983 يختص بتنظيم المناقصات والمزايدات بما في ذلك الأعمال الاستشارية التي تتساوى مع تجارة المواشي, فان هناك من النقابات المهنية التي تصدر القرارات التي تنظم الأعمال الاستشارية وتضع اللوائح التي تحدد أتعابها في محاولة لتنظيم مهنتها ومع ذلك فلا وجود لهذه القرارات أو هذه اللوائح في التطبيق, بل وإن بعض هذه النقابات هي أول من يخالفها… فكيف إذن تستوي الأمور, وكيف يمكن أن تكون الثقة بين الفرد والمؤسسات المهنية أو التشريعية في هذا الخضم من التناقضات التشريعية و التنظيمية.. وكيف يمكن أن تنبت البذرات الطيبة في هذا المناخ غير المستقر وهذه التربة الضعيفة.. لقد غرقت البلاد في بحر من القوانين واللوائح ويظهر أن البعض يجد أن الخلاص من الغرق في هذا البحر هو في إصدار المزيد من القوانين واللوائح… والنتيجة أن تزيد المياه ويغرق الجميع.

ويزيد من العجب أن المسئولين عن قطاعات المقاولات أو الأعمال الاستشارية لم يكن لهم دور في وضع فقرات هذا القانون الذي صدر في الظلام بين ليلة وضحاها دون أن يشعر به أحد.. وإذا كان هذا هو أسلوب إصدار القوانين بدون دراسة متعمقة أو تطبيق تجريبي لإثبات صلاحيته من حيث الإمكانيات الإدارية والتنظيمية أو من حيث المشاركة الشعبية.. فكيف أذن يرجى لنا التقدم.. ففي عديد من الدول المتحضرة تطرح الاقتراحات القوانين للمناقشة ليست فقط بين أعضاء المجالس التشريعية بل أيضا بين أفراد الشعب والمتخصصين في مختلف المجالات حتى يتكامل الفكر العلمي بالفكر السياسي لتأكيد الديموقراطية في اتخاذ القرار.
وكما تنتهي كل الأمور إلي حيث لا عودة… فإن الأمر مرفوع إلي السيد وزير المالية لاتخاذ اللازم.

word
pdf