الإسكان في إطار التنمية القومية

الإسكان في إطار التنمية القومية2019-11-24T14:47:59+00:00

الإسكان في إطار التنمية القومية

 دكتور عبد الباقي إبراهيم 

 

 رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية     

   

      وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمران 

     

وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس سابقا   

 

 

بدأت مشكلة الإسكان تطفو مرة أخرى علي السطح بعد أن أخذت الأهمية الثانية في خطاب التكليف للوزارة الجديدة كما ظهرت من قبل عند إنشاء وزارة خاصة بالإسكان منذ أكثر من عام. والمشكلة بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والتشريعية لم تتعدى حيز التقارير والدراسات و التوصيات كما لم تتعدى حيز المقترحات بقوانين سواء أكانت نابعة من لجنة الإسكان بمجلس الشعب أو من أجهزة وزارة الإسكان. والمتتبع لما يقال في الندوات والاجتماعات ولما ينشر من مقالات وتعليقات لا يرى إلا أبخرة تصدر عن حرارة الانفعال بالمشكلة وقد ظلت هذه الأبخرة معلقة في الهواء لم تتكاثف بعد في خطة عمل أو برامج تنفيذية علي المدى القريب أو البعيد وفي إطار استراتيجية قومية واضحة. وإذا كانت الخطط الخمسية المعتمدة تصدر في صورة جداول رقمية توضح حجم الاستثمارات في القطاعات المختلفة ومواعيد تنفيذها إلا أن البعد المكاني لا وجود له في هذه الصورة. وهو البعد الذي يهدف إلي إعادة توزيع السكان خارج الوادي الضيق وهو البعد الذي يحكم عمليات التنمية القومية فالتكدس السكاني هو المولد الأساسي لمشاكل الإسكان كما هو المولد الأساسي لمشاكل المرافق والخدمات العامة والأمن والصحة وكل ما تتعرض له البلاد من مشاكل. وإذا كان الوقت لم يساعد علي توجيه استثمارات الخطة القائمة إلي خارج الوادي الضيق فان الوقت الآن يساعد علي ذلك والدولة تعد للخطة الخمسية التالية فلم يعد العامل الاقتصادي هو الموجه الأساسي للخط القومية بل لابد لها من موجه آخر هو العامل المكاني، حيث يقاس جدوى المشروع ليس بمدى ما يحققه من أرباح ولكن بمدى ما يحققه من نشر السكان خارج الوادي الضيق, ويدخل في ذلك بطبيعة الحال قطاع الإسكان.

والإسكان كغيره من القطاعات لا يمكن معالجته إلا بالتكامل مع القطاعات الأخرى خاصة قطاع الإنتاج فالمسكن مرهون بمكان العمل وكلما زادت فرص العمل في مكان زاد الطلب علي السكن في نفس المكان وهنا تنشأ المشكلة إذا كانت طاقة المكان لا تتحمل الطلب علي الإسكان فيه. والذين اقترحوا بناء المدن الجديدة كهدف لجذب الفائض السكاني من الوادي الضيق لم يضعوا مستقبل هذه المدن في إطار الاستراتيجية العمرانية التي تسعي إلي تفريغ المجتمعات القديمة من الأنشطة الاقتصادية أو علي الأقل إيقاف تزايدها وتوجيهها إلي المجتمعات الجديدة بكافة الطرق والتشريعات واللوائح، فالمدن الجديدة تنمو وكأنها مشروعات تتبع جهاز مركزي لبنائها دون إيجاد علاقة عمل بينهما وبين المجتمعات القديمة حيث تبقي التجمعات الجديدة مناطق جذب في نفس الوقت الذي تزداد فيه عوامل الطرد من المجتمعات القديمة. والمجتمعات الجديدة في المفهوم العلمي ليست مدينتين أو ثلاثة… ولكنها نسيج من التنظيم الإقليمي لمجتمعات متعددة الأحجام والأغراض تربطها صيغة لإقليمية معينة، الأمر الذي لم تتأكد صورته في مصر بعد مع أن خبراؤنا يقدمون نفس الفكر في غيرها من دول العالم.

وإذا كانت الدولة تسعي إلي توفير آلاف الوحدات السكنية سنويا تاركة الحمل الأكبر من هذا العمل علي عاتق القطاع الخاص فهي لابد وأن توفر كل الإمكانيات أمام هذا القطاع ليقوم بدوره في حرية كاملة لا تحدها اللوائح والتشريعات المعقدة حتى ولو ظهرت بعض التجاوزات من قبل عدد من المجازفين فالشعب سوف يدرك باليقظة كيف يتعامل مع غيرهم ويحافظ علي حقوقه قبلهم فليس بكثرة التشريعات وتعقيداتها يسترد الإنسان حقوقه بل قد يكون في كثرتها زيادة في تعقيد الأمر، والوحدة السكنية هنا كأى سلعة أخرى تخضع في التعامل معها للقوانين وصياغتها ليست هدفا في حد ذاته ولكن الهدف الأساسي هو كيف يمكن دفع القطاع الخاص علي البناء في الإسكان بأكبر قوة دافعة ممكنة وإن تحملت الدولة بعض الأعباء لدعم الإسكان لذوى الدخول المنخفضة. وموضوع الدخول لم يعد يقيم بنفس المفاهيم السابقة فقد اختلت الموازين فزادت الدخول لطبقات لا تزال تخضع للتقييم السابق وقلت الدخول لطبقات أخرى كانت في مستوى أعلي وهكذا. من هنا لابد من إعادة الأوزان في ضوء الواقع القائم حاليا وقبل كل شيء في إطار الاستراتيجية القومية وزيادة الدخل القومي, وهنا يظهر موضوع الإنتاج عاملا هاما في توجيه خطط الإسكان بمفهوم أن الدولة تساعد من يساعدها وتبني لمن يعمل وتدعم من ينتج، وربط السكن بمكان العمل في ضوء الاستراتيجية القومية يصبح هو المحرك الأساسي لخطط الإسكان فالضغط علي المجتمعات السكنية القديمة لا يتحمل مزيدا من الضغط السكاني ومن ثم لا يتحمل مزيدا من الضغط الإسكاني، فالهجرة إلي الداخل تسعي وراء الرزق وفرص العمل فتزيد من الضغط السكاني علي المدن والقرى القائمة ومن ثم تزيد من الطلب علي الإسكان وتستمر الحلقة المفرغة وتتضخم مشكلة الإسكان بل وكل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الأخرى.

من هذا المنطلق لابد من ربط السكن بمكان العمل خارج المجتمعات القديمة, ويعني ذلك إنشاء مستوطنات بشرية تجذب إليها الإسكان كعامل لجذب العمل ويعني ذلك أن الدولة تدعم أو تساعد علي الإسكان من ينتقل بعمله إلى المستوطنات الجديدة وعلي الجانب الآخر تكون الدولة مستعدة تخطيطيا لتوفير المكان بمرافق العمل ومرافق السكن معا الأمر الذي يمكن أن يتم في إطار العمل التعاوني بحيث يرتبط الإسكان التعاوني بمستوياته المختلفة بالإنتاج والخدمات التعاونية بمستوياتها المختلفة في أسلوب متكامل من التنمية التعاونية بحيث يرتبط مكان السكن التعاوني بمواقع الإنتاج والخدمات التعاونية بمعني ألا يقتصر الإسكان التعاوني علي مجرد تجميع لبعض الأفراد من المنضمين إلي منظمة قومية معينة لتسعي للحصول علي أرض للبناء أو وحدة سكنية, ولكن يتطور المدخل التعاوني حتى يهدف إلي بناء تجمعات سكنية تعاونية متكاملة السكن والعمل ويمكن أن تشارك مختلف الفئات في هذه المشروعات بحيث يرتبط السكن التعاوني للتاجر بالمحل التجاري والسكن التعاوني للموظف بالمبني الإداري للمرفق المناسب له والسكن التعاوني للعامل بالورشة والسكن التعاوني للطبيب بالوحدة الصحية أو المستشفي وهكذا، فالتعاون هنا ليس من أجل الإسكان فقط ولكنه من أجل الإنتاج ثانيا ثم من أجل تحقيق الانتشار السكاني ثالثا، الأمر الذي يتطلب فكرا جديدا للمفهوم التعاوني المتكامل بحيث يتحمل القطاع التعاوني 50% من حجم الإسكان ويترك 40% للقطاع الخاص و 10% للإسكان الذي توفره الدولة كهدف قومي.

وإذا كانت الدولة تسعي إلي مشاركة القطاع الخاص في توفير الوحدات السكنية فلابد وأن تشمل هذه المشاركة جميع الطبقات فالطبقة القادرة يمكن أن تستثمر أموالها في الإسكان بنفس الحرية الاستثمار في المشروعات الأخرى. والطبقة المتوسطة يمكن أن تستثمر أموالها تعاونيا في بناء المستوطنات البشرية، والطبقة المنخفضة الدخل يمكن أن تستثمر جزءا من مدخراتها وجهودها الذاتية في البناء، ولكل مستوى نظامه وأسس تخطيطية وتصميمية، والمشاركة الشعبية هنا تقتصر علي البناء الداخلي للوحدة السكنية إذا ما توفرت لها الغلاف الخارجي، وهنا يمكن للطبقات المتوسطة أو المنخفضة الدخل أن تسعي إلي تطبيق ” اصنعها بنفسك ” في التجهيز الداخلي للوحدة السكنية واستكمالها علي مراحلها تتناسب كل مع حجم مدخراته أو مجهوده الذاتي ما دام هناك حيز للإيواء. من هنا يمكن خفض تكلفة الوحدة السكنية لهذه المستويات المنخفضة إلي النصف الأمر الذي يضاعف الأمل في مضاعفة العدد المطلوب من الوحدات السكنية. وبنفس المنطق يمكن تنفيذ الطرق والمرافق العامة بحيث تكون تكاليفها في المراحل الأولي للتنمية في أدني حد ممكن حتى تبني الطرق والمرافق مع مراحل نمو الضغط عليها ولا تبقي طويلا من الزمن تستوعب أقل من طاقتها. هنا تتم الموازنة بين التكلفة في المرحلة الأولي علي المدى القصير والتكلفة في المرحلة الثانية علي المدى الطويل.

وإذا أخذنا بمبدأ تجزئة عملية البناء فإن الهيكل الخرساني يمكن أن تتولاه الإمكانيات الكبيرة في التشييد علي أن تتولي الإمكانيات الصغيرة استكمال الغلاف الخارجي للوحدة السكنية وتترك التشطيبات الداخلية للساكن تبعا لقدراته الادخارية ومجهوداته الذاتية دون أن يضر بالمظهر العمراني الخارجي وإذا نفذ مفهوم البناء التعاوني لاستكمال الوحدات السكنية بعد إعدادها كمرحلة للإيواء فإن الأمر يتطلب إنشاء مرافق محلية لمواد وتجهيزات البناء كجمعيات تعاونية في كل مستوطنه يجد فيها الساكن العناصر المعمارية التي يستعملها بأسلوب ” اصنعها بنفسك” موضحا عليها الإرشادات الخاصة بالتركيب أو الدهان أو اللصق أو غيرها من العمليات البسيطة.

ويتطلب أسلوب المستوطنات التعاونية أسلوبا جديدا في التعامل مع السكان، متوسط بين التأجير والتمليك توضع له شروطه وضوابطه بحيث يأخذ صيغة التمليك التعاوني الذي يشمل الإدارة والصيانة. الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في الهيكل التنظيمي والإداري للأجهزة التعاونية علي المستوى القومي بحيث يتكامل التعاون الإسكاني مع التعاون الإنتاجي في بناء المستوطنات الجديدة.

وفي ضوء ما سبق يمكن توجيه التشريعات المقترحة لتخدم أهداف معينة فالقوانين القائمة صدرت في أوقات معينة تحت فكر سياسي معين اختلفت تفاصيلها الآن في هذه المرحلة التي تمر بها البلاد وفي ضوء التجارب السابقة علي مدى السنين الماضية، لذلك فأنه لابد من ترك شبكة القوانين القائمة والبحث عن أهداف المرحلة الحالية اقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا وسياسيا، ومن ثم يمكن إيجاد الصيغة التشريعية التي تحقق هذه الأهداف، ومن هذه الأهداف:

  • الاتجاه تدريجيا إلي تحقيق سياسية الاستيطان التعاوني خارج التجمعات السكنية القديمة في الوادي الضيق وتحقيق أهداف الاستراتيجية العمرانية للدولة.
  • الاتجاه المرحلي في بناء الوحدات السكنية لخفض التكلفة الأساسية لأقل حد ممكن.
  • مشاركة فئات الشعب في عمليات البناء مع إتاحة الحرية الكاملة للاختيار بين نظم البناء الحر أو التعاوني أو المدعم من قبل الدولة كل تبعا لإمكانياته المادية أو الذاتية والعمل بمبدأ مساعدة من يساعد علي الإنتاج ويحقق الاستراتيجية العمرانية.
  • التعويض العادل لأصحاب المباني القديمة عن الخسائر التي تكبدوها من جراء تطبيق القوانين السابقة وإعطاء الحافز لتجديد وصيانة عقارتهم القديمة.
  • تطبيق أهداف قانون التخطيط العمراني، بالنسبة لتحديد استعمالات الأماكن المختلفة بالكثافات البنائية المختلفة حتى تنتظم الهياكل العمرانية للتجمعات السكنية التي تتعرض للتحولات السرطانية أفقيا ورأسيا والتى تكاد تقضي علي أواصر المناطق القديمة والجديدة معا.
  • إخضاع عمليات التمليك والتأجير للنظم التشريعية والإدارية التي تضمن حق المالك والمستأجر وحق البائع والمشترى.
  • العمل علي إزالة كل المعوقات التي تجبر الملاك علي تعطيل الوحدات السكنية التي يقيمونها لأسباب خاصة.

من هنا يمكن معالجة المشكلة السكانية بواقعية وفي ضوء التنمية القومية بحيث يأخذ المواطن بقدر عطائة في ضوء سياسة مفتوحة تدخل إلي العمق الاجتماعي للشعب من خلال وسائل الإعلام، فالحملة القومية للإسكان لا تقل أهمية عن الحملة القومية لمعالجة الجفاف… وعالم البناء لا يقل أهمية عن عالم الحيوان فلم تعد المقالات تجدي نفعها علي المستوى الجماهيري ولم تعد المؤتمرات والندوات تؤتي أكلها من خلال التوصيات، لابد وأن يدخل الإعلام في عالم الإسكان يسعى إلي المشاركة في الحل … يضع كل الأمور بوضوح كامل بحلوها ومرها… يجب أن يدرك المجتمع الأبعاد الوخيمة التي تنتظره إذا استمرت الحالة علي ما هي من ضغط سكاني رهيب علي الموارد المتاحة… يجب أن يعطي المواطن المنظار الذي يستطيع أن يرى منه مستقبله علي بعد كما يراه من قرب يجب أن يتعلم كيف يبني لنفسه سواء كان مقتدرا أو متوسطا أو منخفض الدخل، فلا أقل من حملة قومية للإسكان يتعلم فيها المواطن كيف يعيش كما يتعلم كيف يقرأ ويكتب.

ومهما كانت السياسات والدراسات لحل مشكلة الاسكان فإنها سوف تبقي حبيسة الجدران وتملأ التقارير ومحاضر الاجتماعات ما لم تتلقاها أجهزة قادرة علي تحويل الفكر إلي واقع والسياسات إلي برامج، أجهزة تستطيع أن تجمع الارقام الصحيحة من مصادرها الحقيقية كما تستطيع أن تدفع الدراسات وتقدمها في ضوء المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، كما تستطيع أن تضع نماذج الإسكان التى تتناسب مع الانسان والمكان, وتستطيع أن تقدر تكاليف النوعيات المختلفة للبناء فى المناطق المختلفة من الدولة بحيث تلتزم بها الدولة فى خططها الاسكانية. وسوف تستمر المشكلة قائمة مادامت تعالج فى الاجهزة التنفيذية القائمة مركزيا ومحليا وهى تفتقر الى المؤهلات والكفاءات التى تستطيع أن تتعامل مع هذه المشكلة القومية.إن بناء الأجهزة وتأهيلها وتدريبها لابد وأن يصحب برامج الإسكان الطويلة الأجل والقصيرة الأجل على حد سواء, فقد دأبت الوزارات المتلاحقة على وضع برامجها الاسكانية على أساس خطتين للعمل , الأولى قصيرة الاجل والثانية طويلة الأجل , ومع ذلك وفى ضوء الضغوط السياسية يستقر الفكر فى الخطط العاجلة وتبقى الخطط الطويلة قيد الدراسات والنظريات وتتكرر الصورة وتتراكم المشكلة وتبقى مشكلة الاسكان مشكلة عاجلة فى كل وقت وزمان . هنا يكون دور الاجهزة التخطيطية قبل دور الاجهزة التنفيذية المركزية أو المحلية.

 

word
pdf