الإسلام والحياة

الإسلام والحياة2019-11-24T14:31:07+00:00

الإسلام والحياة

 النظرية الإسلامية لوحدة الجوار في المجتمعات الجديدة

 دكتور عبد الباقي إبراهيم 

 

 رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية     

   

      وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمران 

     

وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس سابقا   

 

 

الحديث النبوي الشريف: يقول الرسول الكريم – صلي الله علية وسلم – في رواية كعب بن مالك “ألا أن أربعين دارا جار و لا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه”

” حق الجوار إلي أربعين دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا، يمينا ، ويسارا ، وأماما، وخلفا”.

يعتبر الحديث الشريف أساسا علميا للنظرية المعاصرة لتحديد وحدة الجوار التي تمثل الخلية الحية في جسد المدينة الإسلامية، فبالإشارة إلي ما تبع الحديث الشريف من إيضاح لوضع الدور المكونة لوحدة الجوار بأنها تمتد في الاتجاهات الأربعة، فإن عددها يصل إلي 160 دارا يمكن تشكيلها حيث تقع أربعون دارا في الشمال ومثلها في الشرق والغرب والجنوب, في مجموعات تكون كل منها حارة مغلقة النهاية وتلتقي عند مركز يضم المسجد مع الخدمات التعليمية والاجتماعية والتجارية، وقد ينشأ الجدل حول مفهوم الدار وهل هي سكن لأسرة واحدة تتكون من خمسة أفراد فيصبح حجم وحدة الجوار 800 فرد او لأسرة مركبة تتكون من عشرة أفراد فيصبح حجم وحدة الجوار 1600 فرد، وإذا كانت الدار تضم- افتراضا – مجموعة من خمس أسر، فان حجم وحدة الجوار في هذه الحال يصبح 4000 فرد. وهكذا يتراوح حجم وحدة الجوار من 800 إلي 4000 فرد. ومن ناحية أخرى تتحدد مساحة وحدة الجوار تبعا للمساحة المخصصة للدار الواحدة وبافتراض أن متوسط المساحة للدار يبلغ 400م2 تضاف إليها الطرقات لتصبح المساحة الخالصة لوحدة الجوار 80000م2 أي حوالي 20 فدان سواء كانت تستوعب 800 فرد (أي 40 فرد للفدان) أو 4000 فرد (أي 200 فرد للفدان).

وهنا يختلف عدد الأدوار من دور في الحالة الأولي إلي خمسة أدوار في الحالة الثانية كحد أعلي.

بهذا المفهوم ومع هذه الافتراضات الواقعية، فإن حجم وحدة الجوار بمكوناتها تختلف باختلاف عدد السكان مع ثبات المسطح كما تختلف بالتبعية باختلاف كثافة البناء. ويمكن بذلك استعمال مساحة وحدة الجوار الكبيرة وهي 20 فدان كخلية عمرانية في بناء المدينة الجديدة، أما في حالة اتخاذ الأربعين دارا جار كوحدة صغيرة للجوار حجمها يتراوح يين 200 فرد و 1000 فرد ففي هذه الحالة تنخفض مساحة وحدة الجوار إلي 20000م2 أي حوالي 5 أفدنه بنفس الكثافة السكانية وهي الحدود المناسبة للكثافة الصافية في المناطق السكنية. هنا تتأكد وحدة الجوار أسريا بين الأربعين دار كما تتأكد اجتماعيا في مضاعفتها أربع مرات، الأمر الذي يعبر بدقة عن مفهوم الحديث النبوي الشريف ” ألا أن أربعين دارا جار ” وتصبح المساحة التي تبلغ 20000م2 أي حوالي 5 أفدنة هي الخلية العمرانية أو الوحدة التخطيطية في جسد المدينة يمكن أن تستوعب العديد من الأنشطة والاستعمالات السكنية وغير السكنية. وفي هذه الحالة يقترب حجم وحدة الجوار المكونة من أربعين دارا إلي حجم الحارة في المدينة القديمة والتي تشكلت علي أساس من القربى والتآخي والمودة بين السكان. ويمكن تجميع وحدة الجوار الصغيرة في وحدات أكبر كل منها مكونة من أربع وحدات تلتقي عند مركز الخدمات استكمالا لتفسير الحديث النبوي الشريف ويتم في إطارها توزيع الخدمات المحلية لكل من هذه المستويات. هكذا يصبح الحديث النبوي الشريف أساسا علميا للنظرية الجديدة للمجاورة السكنية.

عادة ما يدور الحوار حول الهيكل العمراني لوحدة الجوار سواء من الناحية التخطيطية أو التصميمية أو مرحلية التنفيذ مع ما يرتبط بذلك من قيم تشكيلية أو حضارية مع الإشارة السريعة إلي الجوانب الاجتماعية أو السكانية دون تخطيط أو تصميم للبناء الاجتماعي الإسلامي الذي يؤكد مفهوم الجوار، فوحدة الجوار في التخطيط عادة ما ينظر إليها كوعاء يحتوى مجموعة من السكان وليس كمضمون اجتماعي إسلامي له أبعادة التربوية والثقافية والإنسانية. إن بناء المضمون الاجتماعي الإسلامي خاصة في المجتمعات السكنية الجديدة لا يقل أهمية عن بناء الوعاء العمراني الذي يحتويه بل ربما يعادله في الأهمية وإلا تفقد وحدة الجوار مضمونها الإسلامي لمقومات الجيرة أو الجوار التي حض عليها الإسلام. وهنا يتم التساؤل حول أسلوب تسكين المستويات الاجتماعية المختلفة، وهل يتم تسكين كل فئة في منطقة محددة أو في وحدة جوار واحدة وهل تقاس الجماعات بمستوى الدخل أو بالمستوي الثقافي, إذ يوجد تعارض كبير في هذه التقسيمات فهناك من مستوى الدخل المنخفض من هم في المستوى الثقافي المرتفع وهناك من مستوى الدخل المرتفع من هم في المستوى الثقافي المنخفض, وهذه ظاهرة ابتليت بها الدول النامية والإسلامية بصفة خاصة بعد أن انفصل الدين عن أمور الدنيا, فقد كانت الثقافة الدينية هي الغالبة علي كل مستويات المجتمع غنيها وفقيرها فلا فرق بين عربي و أعجمي إلا بالتقوى، لذلك فإن من أهداف تسكين المجتمعات الجديدة هو تسكينهم اجتماعيا وثقافيا مع إسكانهم عمرانيا علي أساس من القيم والتعاليم الإسلامية دون تفرقة بين الفئات أو الجماعات، الأمر الذي يساعد علي التوازن الاجتماعي والثقافي بين السكان وهو ما ينعكس بالتبعية علي تعايشهم مع العمران وفي العمران. وقد يكون ذلك الاتجاه غريبا عن الممارسة في مجال التنمية العمرانية التي تتعامل فقط مع الأرقام ثم المكان والزمان بهدف بناء العمران دون التطلع إلي بناء الإنسان الذي سوف يعيش فيه ويتعلم ويمارس حياته اليومية في الشارع وفي المدرسة و في مكان العمل وفي مراكز الخدمات. وإذا كان الهدف هو بناء العمران الإسلامي فان ذلك لن يتحقق إلا ببناء المجتمع الإسلامي من البداية وإلا استمرت الدعوة لبناء العمران الإسلامي دعوة جوفاء بلا مضمون ولا يظهر منها إلا الشكل في الخارج والداخل.

لقد سبقنا العديد من التجارب في بناء التجمعات السكنية الجديدة وكانت معظمها تسعي إلي الارتقاء بالمستوى الاجتماعي للسكان الجدد وذلك باستضافتهم فترة زمنية محددة في وحدات سكنية نموذجية يتم فيها رعايتهم وتوجيههم إلي أنسب أساليب التعامل مع البيئة العمرانية الجديدة, ومن يتجاوب منهم مع هذه الإرشادات ينتقل إلي مسكنه الجديد. وهنا يظهر دور الثقافة الجماهيرية عند استقبال السكان الجدد والثقافة الجماهيرية هنا ليست عرضا للأعمال الفنية التشكيلية أو المسرحية أو الغنائية ولكنها في عرضها للتعاليم الإسلامية سواء في التعامل مع الطريق أو في السلوك الاجتماعي في الأماكن العامة أو في رعاية الشجرة والعناية بنظافة المكان أو في صيانة المال العام أو في بث روح التعاون والتكافل بين الأفراد أو في احترام خصوصية الجار أو إتباع منهج لا ضرر ولا ضرار في إدارة الشارع أو الحي, أو الأخذ بنظام المحتسب في صورة معاصرة يقوم به من يرى المجتمع أهليته لهذا الدور دون أن يفرض عليه آخر من خارجة تأكيدا للمشاركة الشعبية في التنمية العمرانية وتثبيتا لنظام الشورى بين المسلمين علي المستويين المحلي للحي والشارع، وهذا لا يمنع من توفير بعض الأنشطة الرياضية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية أو الإنتاجية التي تساعد علي إثراء روح الترابط والتعارف بين الأفراد, وذلك بدءا من المراحل الأولي للتنمية العمرانية وبما يتناسب مع أعداد السكان في كل مرحلة بحيث تنشأ هذه الأنشطة من دافع داخلي عند السكان بفئات السن المختلفة سواء في مجال الرياضة أو الثقافة أو الإرشاد الاجتماعي أو الإنماء الصناعي والحرفي والتجاري الذي يتناسب مع احتياجات المجتمع الوارد للمجتمعات الجديدة، مع توفير كل هذه الأنشطة كما يحض علهيا الدين الحنيف وما تمليه تعاليمه ويعني ذلك استحضار القيم الإسلامية في كل الموجهات الحياتية للمجتمع، فليس في ذلك تقييدا لحركة المجتمع بل توجيهها في مسارها الصحيح وليس في ذلك تحديدا لحرية الإنسان ولكن انطلاقا بحريته الخلاقة في الحدود التي يرسمها الإسلام للمجتمع ليكون قويا ببدنه وقويا بأخلاقه وقويا بتعاون وتكافل أفراده في وحدة من الجوار التي تنظمها التعاليم الإسلامية.

وكما يتطلب البناء العمراني دراسات ومخططات وبرامج تنفيذية، فإن البناء الاجتماعي يحتاج أيضا وبنفس القدر وعلي نفس المستوى من الأهمية إلي دراسات وبرامج تنفيذية لتحقيقه وإعداد دلائل الأعمال التي تتطلبها أعمال البناء من توجيه وتدريب ورعاية، حيث يبدأ بناء المجتمع في التجمعات السكنية الجديدة – وبالمفهوم السابق – من المسجد ليس كمكان للعبادة والصلاة فقط ولكن كمركز لبناء المجتمع بكل فئاته ومكوناته، فالمسجد هنا والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والصحية والإدارية المرتبطة به يعتبر النواة الأولي في بناء المجاورة السكنية عمرانيا واجتماعيا معا، فهو الذي يستقبل المستوطنين الجدد ويرحب بهم ويسجلهم ويوجههم إلي حيث يقيمون وتبعا لقدراتهم ومتطلباتهم في إطار متقن من التنظيم والإدارة يقبل عليه المواطن الجديد ليس فقط للحصول علي وحدته السكنية ولكن لتلقي الإرشاد والتوجيه والمعاونة سواء بالنسبة للتعامل مع البيئة العمرانية أو للدور الاجتماعي الذي يقوم به في التجمع الجديد أو لأسلوب المشاركة في إدارته أو لطلب المعونة لاستكمال متطلباته المعيشية سواء بالامتداد الأفقي أو الرأسي لوحدته السكنية أو تجهيزها أو تأثيثها وذلك من خلال مركز التشييد والبناء الذي يقام ليغذي عمليات البناء والتجهيز بالجهود الذاتية كقيمة إسلامية.وتقوم مجموعة المسجد المركزي كذلك بمهمة الإعلام للمجتمع الجديد بتنظيم الزيارات الجماعية لكافة المواطنين الراغبين في الإقامة فيه مع تنظيم المعارض والندوات والحفلات والمطبوعات في مركز الاستقبال الخاص بذلك، فالتردد علي المكان الجديد يزيد من التعرف عليه ويولد الألفة معه ، لذلك فإن البناء الجيد لمجموعة المسجد كمركز استقبال مع الارتقاء بأسلوب الاستقبال لابد وأن يتم في إطار المضامين والقيم الإسلامية الصحيحة المجردة من الشكليات المظهرية والمعتمدة علي أحدث الوسائل التنظيمية المؤيدة للدعوة الإسلامية لتعمير الأرض وبناء المجتمعات الجديدة.

word
pdf