الاسكان العشوائي واستثمار الطاقات الشعبية

الاسكان العشوائي واستثمار الطاقات الشعبية2019-12-04T09:50:55+00:00

الاسكان العشوائي واستثمار الطاقات الشعبية 

د. عبد الباقي إبراهيم 

الأهرام الاقتصادى 25/11/1991

 
تمثل مناطق الاسكان العشوائي التي تفشت بصورة سرطانية حول المدن والقرى المصرية ظاهرة تنبئ بالخطر نظراً لتدهور الحالة العمرانية والاجتماعية والامنية والصحية للمجتمعات التي تعيش فى هذه المناطق الامر الذي سوف يؤدي بالتبعية إلى افرازات اجتماعية خطيرة من الارهاب والتطرف والعداء الطبقي وهذا ماجذب انتباه المنظمات الدولية وسارعت إلى تقديم المعونة للدولة فى محاولة لمواجهة هذا الخطر الكبير وذلك فى صورة عدد من مشروعات الارتقاء بالبيئة العمرانية لعدد قليل من هذه المناطق ولم يتعدى هذا النشاط حدود هذا العدد القليل .. واستمرت هذه الظاهرة تتفشى بسرعة رهيبة تكاد تخنق المدن والقرى المصرية ، ومع ذلك لم تأخذ هذه الظاهرة الخطيرة العناية والاهتمام الذي تستحقه واتجهت اجهزة الدولة بكل طاقاتها إلى بناء الاسكان الاقتصادي لذوي الدخل المحدود للعديد من المناطق المتاخمة للمدن عسى أن تواجه بذلك هذه الظاهرة الخطيرة أو تصد زحفها على ارض الدولة أو توقف انتشارها فى جميع الارجاء .

ومع ذلك لم تتوقف هذه الظاهرة واستمر تفاقمها على درجة يصعب معها مواجهة مخاطرها وتقف اجهزة الدولة بعد ذلك عاجزة عن مقاومتها حتى أصبحت واقعاً حتمياً لا بد من مواجهته ليس فقط بالعناية بهذه الظاهرة والارتقاء بمستواها الحضاري ولكن وقبل كل شئ استثمار جوانبها الايجابية فهي تثبت أن المجتمعات الفقيرة قادرة على بناء مساكنها بنفسها وقادرة على توفير المرافق العامة لها من مياه وكهرباء ووسائل الصرف الصحي البسيطة . كما ثبت ان مستوى البناء فى هذه المناطق العشوائية يفوق فى بعض الحالات مستوى البناء الذي يقوم به القطاع العام والتي تتساقط اسقفه وأعمدته فى العديد من الحوادث المؤسفة. 

ان استثمار الجوانب الايجابية لظاهرة الاسكان العشوائي أو غير الرسمي ـ على حد تعبير البعض ـ يتطلب دراسة وافية للعوامل المولدة لهذه الظاهرة الخطيرة واولها حب التملك ولو بوضع اليد على أراض لا تستثمرها الدولة وثانيها الهجرة الجماعية فى مجموعات متقاربة فى المستوى الثـقافي والمهني تجمعها أواصر القربى أو المنشأ سعياً وراء فرص العمل السرطاني الذى توفره الانشطة الاقتصادية والاجتماعية فى المدينة او القرية وثالثها توفر متطلبات الايواء السكني الذي يتناسب مع الامكانيات و المدخرات المتوفرة لدى هذه المجتمعات دون ان تتحمل اعباء قيمة الارض خاصة فى المراحل الاولى من عمليات التعمير .. وهكذا تستطيع العائلة أن تستقطع المساحة المناسبة لها من الارض للبناء عليها فتظهر تقسيمات الاراضي بصورة تلقائية او عفويه تعبر عن الاحتياجات او المتطلبات السكنيـــــــــة العشوائية المختلفة فى المجتمع ونتيجة لذلك تظهر شرايين الحركة بين قطاعات الاسكان العشوائي بصورة تلقائية غير منتظمة وهذا فى واقع الامر تعبير واقعي نابع عن الحركة الطبيعية للحياة فى هذه التجمعات الامر الذي يعطي هذه المجتمعات خصوصيتها التخطيطية والعمرانية وهذا ما لا توفره المخططات الرسمية المقيدة للحركة العمرانية الطبيعية للمجتمع . ورابع هذه العوامل قدرة المجتمع على المساهمة فى عملية البناء بالجهود الذاتية وباستعمال مواد البناء الرخيصة المتاحة أو باستثمار العمالة الفنية المتاحة فى أعمال البناء و التركيبات الصحية أو الكهربائية البسيطة . وهكذا استطاعت هذه الجماعات الوافدة أن توفر لها السكن المناسب لمراحل الايواء الاولي ثم تحاول تحسينه والاضافة عليه بعد ذلك فى مرحلة بعد أخرى كلما توفرت لها المدخرات أو زادت فيها الاحتياجات والمتطلبات . وهكذا تشعر العائلة بالذاتية والخصوصية الاجتماعية كما يزداد شعورها بالانتماء للمكان الذي تبنى فيه عشها الجديد طوبة بعد طوبة .

عندما تتدخل الدولة لحل المشكلة اذا استطاعت وهذا غير متيسر فى كثير من الاحيان تبدأ بتوفير المرافق والخدمات العامة لهذه المجتمعات العشوائية التي تمثل فى كثير من الاحيان رصيداً هاماً فى أصوات الانتخابات وما تلبث الدولة أن تصدر القوانين التي تمكن سكان هذه المناطق باستهلاك الارض بأعتبار هذه الحالة أمراً واقعاً .. وهي بذلك تفتح أبواب الامل لاسكان عشوائي جديد لا يلبث أن يصبح أمراً واقعاً وتصدر له القوانين التى تؤكد وجوده لتبدأ مرحلة أخرى وهكذا تساعد الدولة على استمرار الاسكان العشوائي بعد أن تضخمت أحجامه و تثبتت أقدامه . والدولة بذلك تزيل حملاً من على أكتافها لتوفير الوحدات السكنية لكل هؤلاء الذين يبنون اضعاف اضعاف ما تبنيه الدولة لغيرهم فى نفس المستوى . والدولة من ناحية أخرى تتخوف من اقتحام المشكلة أو حتى اقتحام هذه المجتمعات العشوائية حتى ولو حاولت دخولها بنية حسنة . فهي لا تعرف تعداد سكانها وأين يعملون وما يحملون من بطاقات توضح شخصيتم أو مواطنهم الاصلية .. وهي لا تستطيع بذلك الحد من الانشطة الاقتصادية والاجتماعية التي تستقطبهم او حتى توجيه هذه الانشطة خارج المدن والقرى حتى يجر معها المجتمعات العشوائية . واذا كانت الدولة قد أنشأت هيئة عامة للمجتمعات الجديدة تسعى إلى بناء المدن الجديدة فهي حتى الان لم تنشئ هيئة عامة للمجتمعات العشوائية التي تفوق بأعدادها وحجمها كل المدن الجديدة أو حتى توجيه اختصاصات الهيئة العامة للمجتمعات الجديدة لمواجهة ظاهرة الاسكان العشوائي باستثمار نفس الاساليب التي أدت إلى قيامها ولكن بصورة أكثر تنظيماً بما يحقق الاستراتيجية العمرانية للدولة . وكان فى التجمعات السكنية الجديدة التي تقام حول القاهرة فرصة نادرة لتطبيق نفس الاساليب التي أدت إلى قيام المجتمعات العشوائية ولكن يظهر أن الامر يحتاج إلى تنظيمات إدارية وشعبية خاصة لا تقدر عليها أجهزة الدولة فتلجأ إلى نظام بناء القوالب المتكررة من نماذج الاسكان الاقتصادي بواسطة المقاولين ومقاولي الباطن وباطن الباطن بدلا من البناء بالجهود الذاتية التي أثبتت المجتمعات العشوائية قدرتها عليها دون تدخل من الدولة وكل ما ينقصها هو توفير مواد البناء بالنظام التعاوني ومساعدة المستوطنين الجدد لأختيار مساحات الاراضي التي يرغبون فيها دون مقابل إلى ان تتم عمليات البناء بالجهود الذاتية فيتم تمليكها بعد ذلك بأسعار رمزية .

word
pdf