الانتحار ببطء

الانتحار ببطء2019-11-24T14:14:14+00:00

الانتحار ببطء

 دكتور عبد الباقي إبراهيم 

           رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية         

                                                             وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمران                                                            

       وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس سابقا   

 

 

المتتبع لحركة التعمير في مصر وامتداداتها الأفقية علي الأراضي الزراعية بمعدلات تفوق امتداداتها علي الأراضي الصحراوية يشعر بالألم والحسرة علي المصير القاتم الذي قد تصل إليه الحالة المصرية عند منتصف القرن الحادي والعشرين، حيث ينتظر أن تختفي جميع الأراضي الزراعية في مصر تحت أقدام الأعمدة الخرسانية التي تأكل اللون الأخضر. ولنتصور ونحن نتجول في المناطق علي جانبي شارع الهرم وشارع الملك فيصل أو في مدينة المهندسين أو في شبرا والمطرية والمرج إننا نسير علي أراضي زراعية خصبة كانت في يوم من الأيام سلة الطعام التي تغذي القاهرة بالإضافة إلي غيرها من سلال الطعام التي اختفت تحت الامتدادات العمرانية لكل المدن وكل القرى.. والظاهرة المفزعة أن معظم القرى المصرية التي تم إعداد صورها الجوية عام 1986 بهدف تحديد حيزها العمراني الذي لا يجب أن تخرج عن نطاقه حسب القانون قد امتدت علي الأراضي الزراعية خارج نطاقها العمراني وتضاعفت مساحتها المبنية ولا تزال مخترقة بذلك كل الحواجز القانونية والإدارية، والدولة بكامل أجهزتها الزراعية والتخطيطية والعمرانية تقف عاجزة عن مواجهة هذا السرطان الذي الكل الخير بشراهة متزايدة… وإذا كانت هذه الظاهرة قد تفاقمت علي مدى الأربعين عاما الماضية ولا تزال تتفاقم فأن المحرك لها هم من المواطنين المصريين الذين لا يدركون عاقبتها السوداء ومن خلفهم مجالس محلية وإدارة محلية. إذ لا يدرك صاحب القرار مغبة استقطاع ألف فدان لبناء جامعة إقليمية تنشأ في عهده، إذ سوف تستقطب أنشطة أخرى حولها تزيد الطين بله علي بله، ولا يدرك صاحب القرار مغبة بناء مصنع أو مطبعة علي الطريق الزراعي – أي طريق زراعي سوف – يجذب إليها بالتالي أنشطة أخرى تنمو عشوائيا حولها.

ومن جانب آخر قد لا يدرك رجل الخير الذي يتبرع بمنطقة أرض زراعية لبناء مدرسة أنه يقدم خيرا و يمنع غيره… يقدم مساحة للعلم يزيل بها مساحة للطعام، ومثله الذي يتبرع بأرض زراعية لبناء مركز صحي أو اجتماعي أو حتى لبناء مسجد لا يدرك أنه يقدم حسنة ويزيل بها حسنة غيرها… وإذا كان البناء علي الأرض الزراعية في سبيل الخير هو عمل ظاهره صالح، ألا أن عواقبه ضاره بمستقبل المجتمع علي المستوى القومي، والبديل هو زرع الخير لتعمير الأرض الموات وإحيائها.. من هذا المنظور الإسلامي تتحد استراتيجية التنمية العمرانية لمجتمع يبني ويقيم ويعيش علي 5% فقط من الأرض التي منحها له الله ولم يحسن استثمار وتعمير النسبة الباقية من الأراضي الصحراوية الجرداء كما أمر… والمجتمع بكل أفراده وفئاته وأحزابه وقياداته مسئولون عن هذه الظاهرة دون أي تدخل أجنبي وكأنه مقبل علي عمليه انتحار بطئ دون أن يدرى أو يشعر.

وإذا كان العنف قد تفشي في كثير من دول العالم كما تفشي الفساد والتناحر إلا أنه لا توجد في العالم دولة تعيش علي 5% من أرضها التي تحمل معظم خيراتها، ويظهر أن مفهوم الاستراتيجيات طويلة الأمد لم يدخل بعد القاموس السياسي الذي يتعامل مع الإجراءات والمتغيرات الجارية والوقتية دون اعتبار لأن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا وأن تعمل لأخرتك كأنك تموت غدا… ويظهر أن المجتمع لا يدرك مصيره وقد جرفته مجريات الأحداث اليومية مع التكالب والتزاحم علي حصد ما يمكن أن تصل إليه كل يد. فتضخمت ثروات البعض حتى وصلت إلي البلايين بينما انحدرت دخول الآخرين حتى وصلت إلي الملاليم… وهنا يفقد المجتمع قيمة الإسلامية في التكافل الاجتماعي كما يفقد أرضه الزراعية التي يلتهمها يوميا دون توقف أو رادع فقد أصبحت المدن والقرى المصرية كالإخطبوطات تأكل الزرع والخير حتى التهمت المدن ما حولها من قرى وتضخمت القرى لتلتهم ما حولها من عزب. وإذا استمر الحال علي هذا المنوال فلن يجد الشعب قوته بعد خمسين عاما من الزمان حيث سيزداد تعداده ليتعدى المائة مليون.

أن جذب السكان إلي مناطق التعمير الجديدة لن يتم بمثل هذه الإجراءات البدائية التي تتمثل في تأجيل تسديد أقساط الوحدات السكنية في المدن الجديدة أو في بيع ألاف الأفدنة المتاخمة لها وبدون تخطيط غلي حيتان المتاجرة في الأراضي دون قيام شركات للتنمية الاقتصادية الاجتماعية العمرانية للمستوطنات البشرية الجديدة بأحجامها المختلفة التي تتحدد في إطار التخطيط الإقليمي وفي إطار توجيه الاستثمارات في الخطط الخمسية إلي حيث ما يجب أن يكون الناس وليس إلي حيث ما هم مكدسون… إن حركة السكان من الوادي الضيق إلي قطاعات التنمية الجديدة لا تتم بنقل بعض الأنشطة الضارة من داخل المدن إلي خارجها، ولكنه يعتمد أساسا علي تحريك السكان في صورة متكاملة بكل مقوماتهم الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية مثل نقل الشجرة بكل جذورها من مكان لآخر يماثل بيئتها الأولي حيث يتم رعايتها والعناية بها حتى تثبت جذورها وتمتد وتصبح قادرة علي الحياة والإثمار… وهكذا بالنسبة لنقل المجتمعات من المناطق القديمة المزدحمة إلي المناطق الجديدة فقد تطور الفكر التخطيطي من صورته التقليدية الجامدة إلي صورته التنموية التي تدفعها الإدارة القادرة، الأمر الذي يغيب عن الحالة المصرية التي امتلأت مكاتب أجهزتها التي تعاني الازدواجية بالعديد من البحوث والدراسات والتوصيات والاجتهادات والقرارات والتشريعات دون أن تجد التنظيمات الإدارية والمالية التي تدفعها إلى حيز الواقع, ومع كل الجهود التي بذلت إلا أن الحال يسير كما هو بنفس المنوال، وتبتلع المدن والقرى ما تبقي من الأراضى الزراعية متحدية كل القوانين والتشريعات إذ لا تجد لها الآليات التي تنقل الاستراتيجيات والقرارات من حيز الكلام إلي حيز التطبيق والتنفيذ أن دخول القرن الواحد والعشرين الذي اقتربت أبوابه لن يتم إلا بإعادة النظر في آليات التنمية القومية وأساليب اتخاذ القرارات، حتى لا تترك الأمور، إلي التوجيهات الشخصية التي تحمها المصالح الخاصة. وإذا كان عبور رمضان قد تم بالحكمة والتخطيط ثم الاعتماد علي الله مع ما صاحبة من تضحيات وشهداء ، فإن العبور إلي القرن الواحد والعشرين  لابد وأن يتم بنفس الإسلوب وان صاحبه بعض التضحيات من القادر قبل الفقير.. والكبير قبل الصغير.. هنا يتسع الطريق إلي مستقبل أفضل.

 

word
pdf