البعد المكاني لخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية

البعد المكاني لخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية2019-12-11T14:22:03+00:00

البعد المكاني لخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية

دكتور عبد الباقي إبراهيم

 رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية 

وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية 

 وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس سابقا

21/11/1982 

من الواضح أن معظم الاستثمارات في الموازنات السنوية والخطط الخمسية توجه إلي مختلف القطاعات الإنتاجية أو الخدمية حيث توجد الكثافات السكانية العالية في الوادي الضيق.. وذلك من منطق إيصال الخدمات والمشروعات إلي حيث يوجد السكان وليس إلي حيث يجب أن يوجدوا وبهذا المنطق توزع الاستثمارات علي مشروعات الطرق والمرافق والكهرباء والغاز أوالمشروعات التعليمية للجامعات والمعاهد العليا أو للصناعات ومراكز الإنتاج في الوادي الضيق فهناك اقتناع عام بأن معظم هذه المشروعات يساعد علي حل المشاكل الملحة للجماهير.. وان العائد منها سريع يساعد علي ارتفاع معدلات الدخل القومي.. من هذا المنطلق تتباري المحافظات في الوادي الضيق في إنشاء مشروعاتها الاستثمارية وإقامة الخدمات والمرافق العامة حتى تظهر آثارها سريعا أمام الجماهير ويمتص مشاكلهم القائمة.. وتكون النتيجة استقرار الكثافات السكانية في أماكنها الحالية وزيادتها حيث لا يجب أن تكون.. ومع هذه الزيادات المستقرة تتفاقم المشاكل بعد فترات قصيرة من الزمن بحيث يصعب حلها أو مواجهتها بكل الإمكانيات.

وعلي الجانب الآخر تظهر أهمية الاستراتيجية العمرانية القومية والتي تهدف إلي رسم الخريطة الجديدة لمصر وذلك بالخروج من الوادي الضيق إلي أطرافه في المناطق المتاحة له شرقا غربا أو إلي جيوب التنمية المتكاملة في المناطق البعيدة عنه الأمر الذي يتطلب أسلوبا مناسبا لتوزيع الاستثمارات جغرافيا لتحقيق هذه الاستراتيجية العمرانية. وهنا يبدأ الجدل في هذا الشأن من حيث عائد المشروعات في مناطق التنمية الجديدة والتي تحتاج إلي استثمارات كبيرة لتوفير البيئة الأساسية لتنميتها.. وإذا صح هذا المنطق علي مستوى المشروع فهو ليس صحيحا علي المستوى القومي للمشروعات المتكاملة في مناطق التنمية الجديدة إذ يساعد هذا الاتجاه علي زيادة العائد من مشروعات التنمية و البنية الأساسية القائمة فى المناطق القديمة.. الأمر الذي يتطلب تغيرا جزريا في المنطق التخطيطي علي المستوى القومي والإقليمي والمحلي وذلك للخروج بالسكان من الوادي الضيق إلي أطرافه والي جيوب التنمية البعيدة عنه لتحقيق الاستراتيجية العمرانية القومية. فاستمرار المنطق التخطيطي بصورته الحالية يساعد علي تكدس المشاكل وتراكمها مع الزيادة المستمرة في الكثافة السكانية علي جزء محدود من الأرض.

وإذا كانت الاستراتيجية العمرانية القومية تهدف إلي الامتداد العمراني علي المناطق المتاخمة للوادي الضيق شرقا وغربا وبنفس العلاقات الوظيفية بين التجمعات السكنية القائمة بأحجامها المختلفة أو إلي جيوب التنمية المتكاملة في سيناء والوادي الجديد والساحل الشمالي وساحل البحر الأحمر فأن الأمر يستدعي توفير عوامل الجذب المناسبة في المناطق الجديدة بالتوازي مع توفير عوامل الطرد في المناطق القديمة. وهو ما لا يوفره المنطق التخطيطي القائم. فقد بدأ هذا المنطق يدعو إلي تنمية الريف الحالي وتوفير الخدمات والمرافق العامة فيه وذلك بهدف الحد من الضغط السكاني بسب الهجرة علي المدن الكبيرة وعلي القاهرة   بصفة خاصة.. ونتيجة لهذا المنطق ظهرت العديد من مشروعات التنمية الإقليمية في المحافظات.. مدنها وقراها فظهر مشروع كهرباء الريف وتوفير مياه الشرب كمشروعات قومية.. تبعتها مشروعات الجامعات الإقليمية وتنمية الصناعات المحلية الأمر الذي أدى إلي تفاقم مشاكل الخدمات والمرافق العامة باستقرار السكان في ريف ومدن المحافظات وهو ما يحتاج إلي استثمارات كبير لمواجهتها. كما استمر الامتداد العمراني علي الأراضي الزراعية بمعدلات اكبر فشلت القوانين واللوائح في كبح جماحها كما ظهرت مشروعات الإسكان علي مشارف المدن تضيف أعباء أخرى علي المرافق والمواصلات والخدمات. كما بدأت مشروعات الأنفاق والكباري في المدن الكبرى لحل المشاكل المؤقتة للنقل والمرور وتستوعب في نفس الوقت الفائض من إعداد المركبات والسيارات حتى تتكدس المشكلة مرة أخرى فترتفع الطرق العلوية بعد ذلك لتواجه المشاكل المؤقتة ولتضيف أعباء أخرى لمساعدتها علي استقرار التكدس السكاني وذلك بخلاف ما ينتج عنها من تلوث للبيئة التي تؤثر علي صحة الإنسان ومعدلات إنتاجه كما تؤثر أيضا علي طاقة البنية الأساسية لتحمل كل عوامل الضغط عليها وتستمر العجلة بالمنطق التخطيطي القائم لمواجهة المشاكل المؤقتة دون التبصير بالآثار المستقبلية علي المستوى القومي. وذلك لتعود العجلة مرة أخرى بعد فترة من الزمن لنواجه مشاكل أكثر تعقيدا وأصعب حلا.
عندما بدأ مشروع توسعة الطريق الزراعي في أوائل الخمسينات لربط القاهرة بالإسكندرية وأصلا وبعض مدن الدلتا دون اختراقها.

كان من الصعب إقناع المنطق التخطيطي لهذا المشروع في حينه بتوجيه الاستثمارات المخصصة له إلي توسعة الطريق الصحراوي لاجتذاب الأنشطة الاقتصادية إليه خارج الرقعة الزراعية. وكانت النتيجة الحالية التي تحول فيها الطريق الزراعي إلى طريق صناعي أقامت عليه الدولة والقطاع الخاص عددا كبيرا من المصانع وجذب إليه عددا من الأنشطة الخدمية والاستثمارية فظهر في بدايته نعمه وفى نهايته نقمه. واتجهت الاستثمارات بعد فوات الأوان إلى توسعة الطريق الصحراوي . وبنفس المنطق يبدأ مشروع مترو الأنفاق بالقاهرة لحل عشرين في المائة من مشكلة المرور في القاهرة بعد عشرة أعوام على أقصى تقدير وفى نفس الوقت يستقطب أعدادا أخرى من السكان ليزيد من الضغط على مرافق المدينة وخدماتها العامة. ولن تدور العجلة مرة أخرى بعد ذلك بل سوف تتوقف الحياة .. وذلك بغض النظر عما يتطلب مثل هذا المشروع من تشغيل وصيانة وتجديد وهو في باطن الأرض لا تلمحها على وسائل النقل الأخرى التي تسير على ظهر الأرض .. وبنفس المنطق يبدأ مشروع ميناء دمياط ليحل مشكلة قائمة ويضيف أعباء مستقبله على الأرض الزراعية. إن منطق الاستراتيجية العمرانية القومية يعتبر الوادي الضيق إقليما زراعيا في المقام الأول بمقوماته الطبيعية والسكانية لا يتحمل إلا الاستثمارات التي تساعد على هذا المفهوم.. وما غير ذلك يتجه إلى أطراف الوادي أو جيوب التنمية المتكاملة. وهنا لابد من تقدير العائد من المشروعات في المناطق الجديدة على أساس العائد القومي الطويل الأجل.. وليس على أساس العائد المباشر للمشروع.. الأمر الذي يتطلب تدخل الدولة لتقديم العون للموازنة بين العائد على المستوى القومي والعائد على مستوى المشروع لما فيه صالح المستثمرين الذين يطمحون في العائد السريع أو القصير الأجل. كما يتطلب الأمر البحث في توفير كل وسائل الطرد من المناطق القديمة حتى تحقق الخطط القومية أهدافها في أقرب وقت ممكن. فالتحمل لبعض الوقت للراحة طول الوقت أفضل من الراحة بعض الوقت والمعاناة طول الحياة. وهذه مهمة القيادات السياسية بحيث لا تعمل على الإرضاء الوقتي للمواطنين يقدر ما توضح لهم مخاطر المستقبل الذي يواجههم ويواجه الأجيال القادمة من بعدهم حيث الغالبية العظمى لا ترى إلا على بعد يومها وتترك مستقبلها إلى الأقدار.. ولكن لابد من الأخذ بالقاعدة الإسلامية التى تقول اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.

word
pdf