التجربـة التركيـة فى التعميـر

التجربـة التركيـة فى التعميـر2019-12-10T12:53:48+00:00

التجربـة التركيـة فى التعميـر

أخبار اليوم  4/8/1985

 

التجربة التركية سواء فى مجال التنمية الإقتصادية الإجتماعية أو التنمية السياحية أو التنمية العمرانية تجربة جديرة بالدراسة والتحليل لشعب واجهته نفس الظروف التى تمر بها مصر وإستطاع أن يخطو إلى مصاف الدول المتقدمة صناعياً وزراعياً وعمرانياً .. بل إمتد نشاطه إلى العديد من الدول العربية مقدماً خبراته فى مجال التشييد والبناء منافساً للدول الغربية والشرقية على السواء .

 عندما كنت أدير الندوة العلمية التى نظمتها منظمة العواصم والمدن الإسلامية فى أنقرة العام الماضى حول موضوع التعمير فى الدول الإسلامية سألنى أحد الصحفيين الأتراك عما إذا كنت أرى مدينة أنقرة مدينة إسلامية ، وهى مدينة حديثة العهد ليس فيها من الآثار الإسلامية ما يمنحها هذه الصفة .. فكان جوابى عليه فى كلمتى فى نهاية الندوة محييا مدينة أنقرة المسلمة بمآذنها .. المسلمة بنظامها .. المسلمة بجمالها .. المسلمة بأشجارها .. المسلمة بالمعاملة الطيبة من أهلها .. المسلمة بإنتاجها المقدم ، المسلمة بالوسطية فى تعميرها دون إسراف أو تقتير ودون مبان شاهقة الإرتفاع وأخرى منخفضة .. هذه هى مضامين القيم الإسلامية للمدينة الإسلامية .. وما القباب والعقود والبواكى إلا شكليات أملتها من قبل الظروف البيئية والإمكانيات التكنولوجية فى البناء ، هكذا كان الرد على سؤال الصحفى التركى .

ومن أهم سمات التعمير حول أنقرة إن مشروعات الإسكان دائماً ما ترتبط بمشروعات الإنتاج وذلك لربط مكان العمل بمكان السكن حتى لا تتعدد الوحدات السكنية أو تهدر الطاقة فى الحركة أو التنقل ، فمكان العمل هنا يأتى كأساس لمكان السكن فليس الأمر هو توفير كماً من الوحدات السكنية فى أى مكان بقدر ماهو خلق لتجمعات السكنية متكاملة بأحجامها المختلفة ، وبهذا الإسلوب إنتشرت التجمعات السكنية حول أنقرة ومع هذه الإنجازات تطورت صناعة البناء المحلية كما تطورت أساليب التشييد التى تتناسب مع العمالة ومواد البناء المحلية  كما إنتظمت شركات التنمية العمرانية إدارياً وفنياً وظهرت إنجازاتها فى مشروعات الإسكان المتكاملة حول المدن الكبرى ثم أخذت تغزو الأسواق العالمية بخبراتها الفنية وعمالتها المدربة المنضبطة المتجانسة الزى .

 وفى وسط المدينة أنقرة أخذ الإنسان التركى حقه فى التنمية العمرانية فجاء الإهتمام بالإنسان قبل الإهتمام بالسيارة .. فألغى المرور من العديد من الشوارع التجارية فى وسط المدينة لتتحول إلى مناطق للمشاه ، يجد الإنسان التركى فيها نفسه وآدميته من خلال تنسيق المواقع بالتشجير والنافورات وأماكن الجلوس والحركة الآمنة . وأنقرة بذلك تواكب حركات التعمير فى المدن المتقدمة فكان استثمار الاراضى فى وسط المدينة مبنى على اساس العائد الصحى والإجتماعى والحضارى للإنسان التركى قبل العائد المادى الذى تفشى فى العديد من المدن المختلفة .. هذا بالإضافة إلى المحافظة التامة على المناطق الاثرية وصيانتها ، وإبعاد حركة السيارت السريعة عنها وتجنب إنشاء المنشآت المشوهة للقيم الحضارية حولها ، وهكذا جاءت حركة التعمير التركية مواكبة لحركة بناء الإنسان التركى ، الذى إنتظم فى حركة الحياة العامة فى الإنتاج المتميز والسلوك المنضبط والعناية بكل ما يقام أو ينشأ من منشآت .

لقد اشار مساعدى التركى إلى بعض المساكن المبنية على سفح إحدى الهضاب فأظهرت إعجابى بها وبنظامها التلقائى وبنظافتها وتجانس ألونها وإحاطتها بالأشجار ، وإذا بمساعدى التركى يستطرد أن هذه المساكن العشوائية التى تبنى حول المدن دون تخطيط أو مرافق .. وإن دل ذلك على شىء فإنما يدل على إدراك الإنسان التركى البسيط بالقيم الحضارية فى التنمية العمرانية وقدرته على التفاعل مع البيئة الطبيعية حتى فى اصعب الظروف .. وكذلك قدرته على البناء الذاتى لمسكنه …

هذه بعض جوانب التجربة التركية فى التعمير .. وقد أصبحت تجربة رائدة بالنسبة لما يقام أو يتم بناؤه فى مصر .. لقد تكررت هذه التجربة فى دول عربية كثيرة من حولنا خاصة فى الأردن والعراق برغم الظروف التى تمر بها .. وتونس البيضاء بالرغم من محدودية مواردها .. والدور الأول الآن أمام المسئولين عن التعمير والإسكان فى مصر ليستوعبوا هذه الدروس ويتعلموا من هذه التجارب بعد أن وصلت الحالة العمرانية فى مصر إلى أدنى درجاتها الحضارية .. فلسنا أقل من غيرنا خبرة أو قدرة وإن كان معظم خبرائنا قد هاجروا إلى حيث يمكنهم العطاء .. لقد أصبحنا أقل من غيرنا تقديراً للقيم الحضارية وإحتراماً لأدمية الإنسان وأقلهم تنظيماً لإدارة عمليات التنمية والتعمير ، فعندما فقد الإنسان المصرى هويته الحضارية  فقدت المدينة المصرية هويتها المعمارية ..قال صديقى الأستاذ بإحدى الجامعات العربية المشتاق لزيارة القاهرة الذى قضى تعليمه الجامعى فيها ، أن أصدقاؤه قد نصحوه بألا يزور القاهرة الآن حتى لا يتألم مما أصاب عمرانها .. وهكذا خسرنا سائحاً عربياً .. فى الوقت الذى جذبت فيه حركة التعمير فى تركيا آلاف الزائرين .. هذا هو الفرق .

word
pdf