التشكيك في توشكى

التشكيك في توشكى2019-11-07T14:35:05+00:00

التشكيك في توشكى

دكتور عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية سابقاً

 

ظهرت في الأيام الأخيرة حملة واسعة للتشكيك في مشروع توشكى، ونشر عنه ما نشر فتناولته الأقلام كما تناولته الأقاويل .. وإما أن يكون ذلك راجع إلى عدم الإلمام الدقيق بأبعاد المشروع وأهدافه القومية ومراحله المتكاملة، وإما بسبب عدم القناعة بأولويته في التنمية القومية، وإما أن يكون في رغبة البعض في إثارة الشك في اقتصادياته وأبعاده التنموية، في ضوء ما تيسر لهذا البعض من معلومات خاصة بالمقومات التخطيطية للمشروع. ومع كل ما نشر أو قيل عن المشروع، فقد رد السيد رئيس الجمهورية على هذه الحملة بهدوء شديد خلال اجتماعه بالمثقفين في معرض الكتاب، ودعا كل من عنده معلومة ثابتة وموثقة عن أي قصور في الدراسات الخاصة بالمشروع أن يتقدم بها للمراجعة والتقويم ، على أساس أنه لا حياء في العلم وأن الصالح العام دائماً هو الهدف، وهكذا فتح الرئيس الباب على مصراعيه للديموقراطية في اتخاذ القرار ومشاركة كل العلماء والخبراء في مختلف شؤون التنمية القومية.

لقد عانت الدولة كثيراً من التزاحم البشري الشديد في الوادي الضيق بالرغم من النداءات المتكررة التي أطلقت في بداية الستينات داعية إلى ضرورة الاتساع بالعمران المصري خارج هذا الوادي، والتي تمخضت نتائجها في إنشاء المدن الجديدة مثل العاشر من رمضان و6 أكتوبر والسادات و15 مايو وغيرها.. مع أن اختيار مواقع هذه المدن الجديدة لم يتم في إطار من التخطيط الإقليمي للمناطق الجديدة، والذي يخرج بمنظومة متكاملة من التجمعات السكنية المتدرجة الأحجام والوظائف كما تنص عليه نظريات هذا العلم. ومع ذلك أقيمت المدن الجديدة في تلك المواقع، وقد تسارعت تنميتها العمرانية بمعدلات مختلفة، فمنها ما

تحاول أن تحقق أهدافها التخطيطية، ومنها ما تعثرت، ومنها ما بدأت تلتقط أنفاسها في النمو.
لقد أطلقت النداءات في منتصف الثمانينات بضرورة إعداد الخطط القومية الخمسية في أبعادها المكانية على المستوى القومي و الإقليمي وهو الأمر الذي بدأت نتائجه تظهر في منتصف التسعينات بوضع الخريطة العمرانية للدولة والتي تحدد أبعاد التنمية القومية في إطارها المكاني.

وإذا كانت الظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بها مصر في الفترة السابقة لم تساعد على البدء في المشروعات القومية مثل مشروع توشكى أو شرق التفريعة أو خليج السويس أو مشروعات سيناء وغيرها فإن هذه المشروعات قد بدأت تنطلق بقوة وعزم حتى يمتد العمران المصري ليغطي 25% من الأرض بدلاً من 5%. وعندما أثيرت الشكوك حول مشروع توشكى سارع الأستاذ عصام رفعت رئيس تحرير جريدة الأهرام الاقتصادي بالتصدي لها فعقد لها ندوة خاصة في التليفزيون وكان مشروع توشكى هو الموضوع للمناقشة. كما سبق وأن تحرك سيادته سريعاً إلى مكان الحدث دون ترتيب لمشاهدة الأمور في واقعها

المبشر بالخير والنماء وتم عرض الصور التي أخذها مع موضوع المناقشة.
إن الدولة وهي في انطلاقها لتحقيق الأهداف التنموية العملاقة بعد مرحلة الإصلاح الاقتصادي والذي تشهده وتؤكده شهادة جميع المنظمات الدولية. لا تتحمل التشكيك في مسيرتها القومية ولكن تتحمل الرأي والرأي الآخر بدون إثارة أو حساسية أو خروج عن الأهداف الوطنية. وحتى لا يتكرر التشكيك بالنسبة للمشروعات القومية الأخرى فإن الأمر يستدعي ضرورة عرض المشروعات الكبرى على الرأي العام بصورة أكثر إيجابية وفعالية من مجرد عرضها من الجانب الواحد الذي يمثله الوزير المختص. ولكن لا بد من عرض هذه المشروعات أولاً على الخبراء للمناقشة أمام الرأي العام قبل الاسترسال في تنفيذها.. بحيث يدعى الخبراء المصريون من كافة التخصصات والاتجاهات للإدلاء بآرائهم والمشاركة بخبراتهم على أن تتوفر لهم مسبقاً جميع الدراسات التي تمت بالنسبة للمشروع المعروض للمناقشة وينشر ذلك بكل وسائل الإعلام على غرار ما يتم في الدول المتقدمة. ويحضرني في هذا الشأن ما تم بالنسبة لمشروع تنمية وادي التنسي في أمريكا في الخمسينات وما تم نشره عنه أو عن غيره من المشروعات الكبيرة التي أقيمت في العديد من الدول وكيف كانت المشاركة الشعبية مع الخبرات المتخصصة فاعلة في اتخاذ القرارات بشأنها ومعبئة للرأي العام لدفعها وإنجازها، بحيث لا يتم عرض مثل هذه المشروعات للمناقشة بعد اتخاذ القرار النهائي بشأنها. كما حدث بالنسبة لمشروع نفق الأزهر، فبعد أن تمت دراسته وعرضه على القيادات العليا واتخاذ القرار بالموافقة على تنفيذه. قام القائمون على التنفيذ بعرض المشروع على الخبراء والعلماء في جمعية المهندسين المصرية. وقد اعترض عليه من اعترض وسكت عنه من سكت بحجة أنه لا فائدة من المناقشة بعد الموافقة على المشروع، مع أن جمعية المهندسين المصرية تعتبر الجهة الفنية الاستشارية للدولة في جميع التخصصات الهندسية والعمرانية والتخطيطية.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإننا نذكر الملاحظات التي أبديت عن محور 26 يوليه سواء من الناحية التصميمية أو التنفيذية وما تبع ذلك من تصريحات وما طرح على صفحات الجرائد من مرئيات معارضة وكلمات مؤيدة. ونذكر أيضاً الملاحظات التي أبديت على مشروع ترميم الجامع الأزهر وما نشر عنه في الصحف الأجنبية، وما أبدته عنه منظمة اليونسكو من تحفظات. كما نذكر أيضاً الملاحظات التي أبديت على تخطيط ما يسمى بالقاهرة الجديدة وعما إذا كان تخطيطها قد تم في إطار من التخطيط الشامل الذي يهدف إلى تخفيف العبء عن القاهرة. وبعد إقرار المشروع اعترض عليه من اعترض من المخططين وأيده منهم من أيد دفاعاً عن النفس. وهكذا الحال بالنسبة لما يتم في مصر من مشروعات كبيرة، فمشروع تطوير القاهرة التاريخية لا تزال تتناقله الوزارات والهيئات، و تنمية ما تبقى من الساحل الشمالي الذي سبق تخطيطه بإحكام لم يؤخذ به في حينه ، أو غير ذلك من المشروعات التي تحتاج إلى المشاركة الشعبية مع الخبراء كل في مجاله، فليس في ذلك انتقاص من خبرة القائمين على أي مشروع، وليس في ذلك نقد موجه لأي منهم، ما دام الجميع يعمل للصالح العام من منطلق الإحساس بالانتماء الوطني، والذي قل عند الأغلبية الصامتة، وليتم عرض المشروعات الكبرى بعيداً عن الحساسيات والتشنجات كما جرى من صغار المسئولين حيث قام البعض منهم للأسف الشديد بإطلاق الإهانات على من اعترض على مشروعاتهم، ووصفوا النقد الموضوعي بالمغالطة والتجني والافتراء والحقد والخروج عن الوطنية والشرعية ، ساعدهم في ذلك المداهنون والمنافقون.

لقد لوحظ في الآونة الأخيرة أن العديد من صغار المسئولين يدلون بتصريحاتهم بأن المشروعات التي يقدمونها هي بتوجيه من السيد رئيس الجمهورية، فهل في هذا إيقاف لأي رأي آخر، أم هو تنصل المسئول من المسئولية وإلقائها دائماً على السيد الرئيس، أم هو إمعان في الحرص على المكان والمكانة. بهذه الأساليب تثار الشكوك حول المشروعات الكبرى وتتقلص ديموقراطية اتخاذ القرار. لقد حان الوقت لإعادة النظر في عرض المشروعات القومية ونشر الدراسات التي تتم بشأنها بتجرد وشفافية أمام الرأي العام بكل وسائل الإعلام حتى ينفعل المواطنون بها ويتفاعلوا معها، وحتى لا تتكرر ظاهرة التشكك في أي مشروعات بعد ذلك.

word
pdf