التطور الإسلامى للنظرية المعمارية

التطور الإسلامى للنظرية المعمارية2019-11-20T08:07:56+00:00

التطور الإسلامى للنظرية المعمارية

المدخل لإعادة التوازن العمرانى للمدينة العربية

د. عبد الباقى إبراهيم
رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية ـ القاهرة

 

 

لاتزال إشكاليات التحديث والتأصيل في التجارب المعمارية المعاصرة في البلدان العربية وتجليات الإغتراب في العمران العربى المعاصر محلا للجدل والنقاش مع كثير من المفكرين والمعماريين . وكثيرا ما طرحت هذه الإشكاليات في العديد من المؤتمرات والندوات التى حاولت أن تسعى إلى القاء الضوء على المؤثرات الثقافية الواردة من الغرب على موروثنا الحضارى والعمرانى . والعمارة كغيرها من الفنون تعرضت إلى موجات متلاحقة من الغزو الثقافى الغربى منذ العصر العثمانى وخلال عصور الإحتلال وما واكبه من نفوذ أجنبى بدأت بوادره تظهر في عصر إسماعيل باشا في مصر حيث حاول ان يجعل من القاهرة قطعة من أوروبا بدعوته للمعماريين الفرنسيين والإيطاليين لبناء وتعمير إمتداد القاهرة غرب المدينة التاريخية فشقت الشوارع العريضة على النمط الباريسى فأقيمت العديد من العمائر التى تحمل طراز عصر النهضة والباروك ومعها تغيرت الأزياء الرسمية وشاع الزى الغربى في الأوساط الراقية كما أقيمت الأوبرا لتقدم الأنغام السيمفونية والأوبرالية . كما نفذت الثقافة الأوربية إلى الآداب والفنون بكافة انواعها .. وهكذا تغيرت ملامح الإنسان كما تغيرت ملامح العمران .. وانقطع تيار التواصل الحضارى مع الماضى الزاخر بإبداعاته الفكرية والأدبية والفنية والمعمارية . ودخلت مصر في حقبة جديدة من الحضارة المعاصرة عززها الإرتباط المعرفى بارسال البعثات من مختلف التخصصات إلى أوروبا وأفرزت بالتالى العديد من قادة الفكر والأدب والعمارة الذين تأثروا بالحضارة الأوربية ونقلوا ملامحها إلى مصر الأمر الذى أدى بقليل من المفكريين والأدباء والمعماريين إلى الدعوة للبحث عن الذات والعودة إلى التراث في جميع المجالات ومنها العمارة فبدىء بالنقل الحرفى من العمارة الفرعونية في بعض المبانى العامة والنقل الحرفى من العمارة الإسلامية في غيرها مع التبسيط والتنميط .

من هنا بدأ الحوار الساخن بين المؤيدين للتفاعل مع العمارة العالمية والمؤيدين للتعامل مع العمارة المحلية واختلطت المفاهيم كما اختلطت المدارس الفكرية الأمر الذى انعكس بالتالى على المناهج المعمارية ومن ثم على المنتج المعمارى الذى حول المدينة إلى كرنفال من الأشكال والألوان والطرز المعمارية . وفقدت المدينة شخصيتها العمرانية . وانتقلت العدوى بالتالى إلى المدن في الدول العربية ، وظهرت هذه العدوى في عمارة الخمسينات والستينات في الكويت والمملكة العربية السعودية وسوريا والعراق وغيرهما من الدول العربية . إلى أن بدأت أموال النفط تجذب المعماريين من الغرب إلى المنطقة العربية مرة اخرى فأقيمت العمائر التى تعكس في معظمها العمارة الغربية الحديثة وأصبحت المنطقة العربية مثل السيرك يحاول المعماريون من الغرب ان يعرضوا  فيه لعباتهم المختلفة فاختل التوازن العمرانى للمدينة العربية مرة اخرى وساعد على ذلك قناعة الكثير من اصحاب المال والعديد من المعماريين العرب بهذا التيار الجارف بحجة أن العالم قد اصبح قرية صغيرة لا مكان فيها للأصالة في عصر التكنولوجيا المتقدمة الواردة من الغرب . وأمام هذا التيار الجارف قام قلة من المعماريين العرب في بداية الستينات إلى الدعوة لتأصيل القيم الحضارية في بناء المدن العربية المعاصرة وظهر منهم حسن فتحى وعبد الباقى إبراهيم في مصر ومحمد مكية ورفعت الجادرجى في العراق وسباشير في الكويت وأخذوا على عاتقهم حملة التنوير الثقافى المعمارى سواء بالكتابة أوالنشر أو بالإنتاج المعمارى الذى يربط الأصالة بالمعاصرة .. وامتدت هذه الحملة تنتشر في البلاد العربية وتصل إلى قناعة متخذى القرار فيها من أصحاب رؤوس الأموال  والمعماريين وبدأت صحوة جديدة تحاول ان تعيد إلى المدينة العربية وجهها الحضارى الذى فقدته على مدى قرن من الزمان .

ومع هذه الصحوة الجديدة التى ظهرت آثارها في الثمانينات والتسعينات تسللت دعوات غربية تطرح من جديد النظريات الغربية المعاصرة حيث أن الفكر المعمارى في الغرب هو دائما في حالة تفاعل مستمر مع الإنجازات التكنولوجية المتلاحقة التى تصدر بعد ذلك إلى العالم العربى لتؤثر مرة اخرى على المنتج المعمارى الأمر الذى دعى بعض المعماريين وكان على رأسهم حسن فتحى للدعوة إلى ضرورة البحث عن تكنولوجيا للبناء متوافقة مع البيئة المحلية والإمكانيات البشرية . وظلت هذه الدعوة حبيس الأدراج ولم تظهر آثارها بعد على العمارة العربية المعاصرة .
ومع كل هذه التقلبات الفكرية كانت العمارة الإسلامية هى المنهل الرئيسى لتأصيل القيم الحضارية في بناء المدينة العربية وبدأ التعامل مع التراث المعمارى الإسلامى بغية الحصول على صيغة معمارية ملائمة تتواكب مع المنجزات الحضارية والتكنولوجية المعاصرة . وانقسم المنهج في هذه الإتجاه إلى ثلاث إتجاهات الأول وجد أن أنماط العمارة الإسلامية التى ثبتت قيمها ونسبها الجمالية وابداعاتها المعمارية يمكن إعادة صياغتها نصا وروحا في العمارة المعاصرة . وقد ظهر هذا الإتجاه جليا في مجموعة كبيرة من المساجد التى انشأت أخيرا في مدن المملكة العربية وتقبلها الرأى العام بالترحاب مع مافيها من تناقضات انشائية لاتتمشى مع العصر ـ أما التوجه الثانى فظهر في أعمال العديد من المعماريين الذين دأبو على تحليل المفردات المعمارية التراثية بهدف الإقتباس منها في صياغة العمران المعاصر مع استثمار المنجزات التكنولوجية الحديثة في البناء .

أما التوجه الثالث فيرى انه لايجب اعتبار العمارة الإسلامية هى المتمثلة فقط فيما انتج من معمار في فترة تاريخية محددة وهى العصور الإسلامية وفى حيز مكانى واحد هو المنطقة الممتدة من شرق العالم الإسلامى إلى غربه . الأمر الذى يخرج المفهوم الإسلامى عن مضمونه الذى يعتبر في الإسلام حضارة لايحدها زمان أو مكان . وأن بها مضامين معمارية ثابتة لاتتغير بتغير المكان و الزمان وان كان فيها الشكل هو العامل المتغير بتغير المكان والزمان . ويحاول هذا التوجه إعادة المنهج إلى البحث عن العمارة في الإسلام وليس البحث عن العمارة الإسلامية بمفهومها التقليدى المتعارف عليه ، من هذا المنطلق بدأ البحث في الأصول والآليات التنظيمية التى كانت سائدة في العصور الإسلامية والتى أثرت على البناء المعمارى في هذه العصور كما بدأ البحث في مراجعة آيات القرآن الكريم والسنة المحمدية وكتب السلف الصالح بهدف استخلاص القيم التى تبنى الإنسان وأخذها بالقياس في بناء العمران مع الأخذ بأساليب البناء الحديثة والمتطلبات المعاصرة.
من هنا يجىء المنظور الإسلامى للنظرية المعمارية لمواجهة النظريات المعمارية التى تتدفق تباعا من الغرب معتمدة على تراثه العلمى وانجازه التقنى الذى يقف أمامه الفكر العربى والإسلامى جامدا ومنبهرا دون ان يقدم البديل . والبديل هنا لاتقع مسئوليته على المعماريين فقط بقدر ماتقع على المفكرين والأدباء والعلماء والمثقفين والفنانين الذين يعبرون عن وجدان المجتمع الإسلامى العربى . ويهدف هذا البديل إلى تحقيق الأهداف التالية :

  1. البحث عن الذات كبديل للتبعية الثقافية والفكرية في العمارة والعمران .
  2. إعادة اكتشاف التراث الثقافى والعلمى الإسلامى وتوظيفه في النظرية المعمارية المعاصرة .
  3. تأكيد المرجعية الفكرية الإسلامية واحيائها في العمران المعاصر .
  4. مواجهة الغزو الثقافى الغربى بإعادة الأعتبار للغة العربية .
  5. وضع النظرية الإسلامية في العمارة وتقديمها للعالم نظرية عالمية .
  6. اطلاق الحرية في التعبير والإبداع في اطار القيم الإسلامية ومن خلال الموروثات المعمارية .
  7. التأكيد على ان العمارة في الإسلام هى منتج اجتماعى أكثر منه انجاز فردى .
  8. ولتحقيق هذه الأهداف لتقديم البديل الفكرى للعمارة الإسلامية العربية لابد من تحديد الحقائق الآتية :

1. التقدم التكنولوجى الذى أفرزه الغرب في فترة الضعف التى انتابت العالم الإسلامى خلال مراحل         الإستعمار وضعف القدرة على مسايرته حتى أصبحت المراجع الغربية هى الموجه للفكر المعمارى المحلى .

  1. الموروث المعمارى في فترات العصور الإسلامية كان بعيدا عن الارتباط العضوى بين الإنسان والعمران الأمر الذى ظهر في حركة النمو العضوى للمدن وفى التجانس الشكلى للعمارة .
  2. اختلاط النظرية الغربية بالمنظور الإسلامى للنظرية المعمارية أثار الكثير من التناقضات الفكرية بدخول الإسلام كدين عنصرا أساسيا في النظرية .
  3. الغرب يقدم النظريات المعمارية السابقة ويغزو بها الفكر المعمارى الإسلامى في الوقت الذى لم يقدم فيه المعمارى المسلم النظرية البديلة فأصبح تابعا ومتلقيا قبل أن يكون مبتكرا أو مفكرا .
  4. النظرية الغربية لاتتضمن الجانب العقائدى أو الدينى في الوقت الذى يدخل فيه الإسلام عنصرا هاما في بلورة الفكر المعمارى الإسلامى .
  5. الانسان هو العنصر الغائب في النظرية المعمارية الغربية التى تعتمد على الإبداع الفردى دون مشاركة الجماعة أو المجتمع بكل مستوياته في الإنجاز العلمى للعمارة .
  6. الجدل الفكرى لايزال قائما بالنسبة لتعريف العمارة بالإسلامية وهل يصح أن يطلق عليها عمارة المسلمين أو انهاء هذا الجدل بتعريف العمارة في الإسلام إذا كان هو السند الحضارى للمجتمع .
  7. من هذه الحقائق الثابتة تنطلق النظرية المعمارية من الثوابت التالية :
  8. 1ـ الإسلام لايحده زمان أومكان ويهدف إلى ماينفع الإنسان في حياته الدنيوية والأخروية ويدعو إلى التقدم العلمى وأعمال الفكر والتمعن في أسرار الكون بما يحدد المضامين الثابتة في العمران الإسلامى ، أما الإبداع في الشكل والتشكيل يتغير بتغير الزمان ويرتبط بالجذور الثقافية للمكان وتبقى المفاهيم الإسلامية هى الدافعة لحركة المجتمع .
  9. 2ـ الإسلام حضارة كل العصور يبنى الإنسان كما يبنى العمران وفيه كل مقومات النظرية العمرانية التى لم يستكمل إكتشافها بعد وهو المرجعية الثقافية البديلة للمرجعية الغربية المنهج والفكر والعطاء التى لاتزال تواجه الفكر العربى .
  10. 3ـ الإبداعات المعمارية في حركة مستمرة وقبولها يرتبط بفاعليتها من الجوانب الثقافية والبيئية والوظيفية والإقتصادية والإجتماعية التى تمثل مقومات النظرية الإسلامية في العمارة . من هنا يظهر القوام الإجتماعى أو الجماعى للنظرية التى يتمثل في كون العمارة من الداخل ملكا للفرد ومن الخارج ملكا للمجتمع الذى يعيش بين جوانبها . الأمر الذى يثير الجدل بين الفردية في الإبداع والجماعية في التلقى أو اشكالية العمارة بين الفردية والجماعية بما يمثله منهج الوسطية الأمر الذى ينعكس بدوره على عملية بناء الفكر المعمارى والعملية التعليمية .
  11. 4ـ استمرار المد الحضارى بين الماضى والحاضر والمستقبل يصعب إيقافه كليا أو جزئيا ويعتمد في ذلك على قوة الموروث الثقافى للمجتمع المرتبط دائما بالموروث العمرانى فالحفاظ على الأول وتفعيله يرتبط بالحفاظ على الثانى وتطويره في بناء الشخصية المحلية للعمران وان تسابقها بعض المؤثرات الخارجية التى لاتتعارض مع البيئة الإجتماعية أو القيم الإسلامية .
  12. من خلال الحقائق والأهداف والمنطلقات السابقة يمكن عرض بعض جوانب النظرية العمرانية في الإسلام من واقع التوجيهات الإسلامية في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة إبتداء من وحدة الجوار في بناء المدينة الإسلامية المعاصرة أو من التكافل الإسلامى في مشروعات الإسكان أو من تحرير المضامين التصميمية في البناء سواء في المسجد أو في السكن او غيرهما من المبانى ـ لقد نبعت نظرية وحدة الجوار في المدينة الإسلامية من الحديث النبوى الشريف  ” إلا من أربعين دارا جار ” وأشار في ذلك إلى الجهات الأربعة ، من هنا امكن استخلاص شكل وحدة الجوار بأبعادها الثابتة وبكثافتها المختلفة لتصبح بمثابة الخلية في بناء جسم المدينة الإسلامية في مراحل نموها المستمرة بصورة متكاملة . وكان ذلك مدخلا لاستنباط النظرية الإسلامية في التنمية العمرانية شاملة مرحلية الإستيطان البشرى المتكامل مع التكافل في مشروعات الإسكان ومراجعة اسلوب تقسيم الأراضى بما يسمح لهذا التكافل واضفاء الطابع العمرانى المتجانس . كما نبعت نظرية التكافل في مشروعات الإسكان وعدم الفصل بين الطبقات من خلال الآية الكريمة { أهم يقسمون رحمة ربك . نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون } . وفى ذلك دعوة لعدم التفرقة بين الطبقات في التجمعات السكنية وتأكيد المزج الإجتماعى في مناطق الإسكان وتطبيق مبدأ التكافل بين المسلمين حتى يصبح إيواء من لا مأوى لهم جزءا لا يتجزأ في عملية التنمية العمرانية المتكاملة يتحمله الأغنياء عن الفقراء كمصرف للزكاة . وتنتقل النظرية بعد ذلك لتتضمن القواعد الفقهية التى تحكم تصميم المسجد في كل زمان ومكان مع إختلاف القواعد التقنية والجذور الثقافية التى تحكم الشكل في المكان فالقواعد التصميمية الثابتة تحث على عدم قطع صفوف المصلين بكثرة الأعمدة وتوفير رؤية الخطيب واعطاء الصفوف الأولى الأفضلية وكما جاء في الحديث النبوى الشريف ” لو يعلمون مافى الصف المقدم لاستهموا ” . كما ان تصميم المسجد ليس للتفاخر والتباهى ـ في الحديث النبوى الشريف ” لاتقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ” وقال أنس ” يتباهون بها ثم لايعمرونها إلا قليلا ” والمسجد ليس مكان للزخرف كما في الحديث الشريف ” إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار لكم ” يبقى منهج الوسطية هو المتحكم في النظرية . ويصبح مبنى المسجد متكاملا مع النسيج العمرانى للمدينة وليس على أطرافه أو خارجه كما هو متكامل مع النسيج الإجتماعى الذى يلتف حول المسجد كمركز للنشاط الإجتماعى والثقافى والدينى في قلب وحدة الجوار . وكذا تبدأ المحاولات للبحث عن جذور النظرية التخطيطية والمعمارية من نصوص القرآن الكريم والسنة المحمدية ويستمر البحث بعد ذلك في أقوال السلف الصالح وفى النظريات العلمية لعلماء المسلمين كمرجعية ثقافية وفكرية تحرك النظرية الإسلامية وتقدمها للعالم كدليل على قدرة المعمارى المسلم على استنباط النظريات كما يفعل أقرانه في دول الغرب بنفس المنهج والأسلوب مع اختلاف المحتوى والمضمون . الأمر الذى يمثل الإتجاه العلمى لمواجهة اشكاليات التحديث والتأصيل وتجليات الاغتراب في العمران العربى . وحتى تعود للأمة الإسلامية والعربية مقوماتها الحضارية  التى فقدت معظم ملامحها الثقافية والعمرانية خلال فترات الغزوات العسكرية وما تبعها من غزوات ثقافية واقتصادية . وفى ذلك دعوة إلى تأصيل القيم الحضارية في بناء العمران الجديد . والله من وراء القصد .
word
pdf