التنسيق الحضري أمل لم يتحقق

التنسيق الحضري أمل لم يتحقق2019-11-10T14:10:07+00:00

التنسيق الحضري أمل لم يتحقق
دكتور/ عبد الباقي إبراهيم

 

 

في مايو 1994 قدم الفنان فاروق حسني مذكرة لمجلس الوزراء متضمنة مشروعاً بإنشاء الجهاز القومي للتنسيق الحضاري (ويقصد التنسيق الحضري) – جاء فيها:
إن التطور الشامل الذي تمر به البلاد حالياً يتطلب وضع ضوابط بصرية للشخصية البيئية المعمارية للدولة، يتم معها تحديد للقيم الفنية والجمالية الواجب توافرها في شكل المنشآت وطابعها المراد تحقيقه، مع وضع أسس للتعامل مع الشكل والتكوين الفراغي والجمالي للشوارع والميادين والأرصفة والإنارة والحدائق ووسائل الإعلان والتشجير وذلك لكل منطقة على حدة، ووفقاً لمعايير ومقاييس جمالية تخضع لقواعد التقنية والمعرفة والجمال تحقيقاً للمناخ والطابع العام لمناطق الدولة المتعددة. والمراد تأكيده هو المحاكاة بين متطلبات الوظيفة وتناسق النسب، فيتأكد المعمار البيئي المصري بصورة تحقق تنميته وتهذب فراغات استخداماته وتنسق أشكاله .. يواكب هذا التقنين الجمالي الجهود التي تهدف إلى تحضير الدولة لصناعة السياحة حيث يعد ذلك أولى مطالب وعوامل نجاحها، وتتأصل معه الملامح الجمالية للبيئة المصرية، وما سوف يعكسه ذلك من تنمية اجتماعية واقتصادية وسلوكية وثقافية عامة تشبع مقتضيات الحس والتذوق الفني العام بشكل يولد مشاعر الرضا والانتماء لدى المجموع ويؤثر حتماً على رقي السلوك العام.
وعليه فإن إنشاء الجهاز القومي للتنسيق الحضاري يصبح ضرورة ومطلباً جوهرياً بحيث يتولى هذا الجهاز وضع الضوابط المتعلقة بالقيم الجمالية للشكل الخارجي للأبنية وأسس النسيج البصري للمدينة لكافة المناطق العمرانية بالدولة. لذا يتم تمثيله في الأجهزة المعنية بالدولة مع إشراكه في تخطيط المدن الجديدة ليضفي الطابع والمعايير الفراغية الجمالية، مع تأكيد البيئة الطبيعية لكل منطقة ومتطلباتها فيكون هذا الجهاز

هو جهة الاختصاص التي تعطي التصريح للقيمة الجمالية الفنية في إقامة المباني والتشكيل الفني لها من خلال العناصر المحيطة بها.
لا يختص هذا الجهاز بمنح تصاريح البناء ولا بدراسة التفاصيل أو التصميمات الداخلية التي تخضع أصلاً لضوابط وقوانين البناء، وتقوم الإدارة الهندسية بالمحليات بدراستها واستصدار تراخيصها .. وإنما يلزم الحصول على ترخيص الجهاز القومي للتنسيق الحضاري أولاً للأعمال المطلوب إقامتها بناءً على مدى تحقيقها للقيم الجمالية والضوابط المطلوبة للشكل واللون الخارجي لها مع مدى ملاءمة المبنى للشكل العام.

وعليه فإن إحدى ثمرات تواجد هذا الجهاز هي إفراز أعمال معمارية بارزة تتمشى مع البيئة وتصبح علامات في تاريخ التطور الثقافي والحضاري.
وفي أغسطس عام 1996 قدم الدكتور/ عبد الباقي إبراهيم عضو اللجنة الوزارية لإعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والتي كان السيد وزير الثقافة مقرراً لها مذكرة عن توجيه وتنظيم أعمال البناء في مناطق المدينة المختلفة جاء فيها:

صدر القانون 106 لسنة 1976 في شأن توجيه وتنظيم أعمال البناء ولائحته التنفيذية شاملاً توجيه استثمارات أعمال البناء وتنظيم المباني والعقوبات والأحكام العامة والختامية ومحدداً لعروض الطرق والكثافة البنائية والارتفاعات وما يخص الإضاءة والتهوية والأفنية والسلالم والبروزات. وبعد ذلك تحدد اللائحة التنفيذية بعض الأحكام العامة ثم توصيف للأجهزة والتركيبات الصحية وأعمال توصيل المياه والصرف الصحي واشتراطات تأمين المبنى ضد الحريق ثم جاء القانون رقم 101 لسنة 1996 موجهاً إلى الجوانب الإجرائية في استخراج تراخيص البناء. مع إضافة الفقرة الخاصة بزيادة الحد الأقصى للارتفاع الكلي للبناء إلى مرة ونصف بدلاً من مرة وربع، وتنص باقي مواد القانون على الاشتراطات البنائية الخاصة بالتصميم المعماري بالنسبة لعروض الغرف ومسطح الفتحات وارتفاع الدرابزينات وسلالم الهروب وتركيب المصاعد واشتراطات الأفنية والبروزات. كما صدرت قرارات رئيس مجلس الوزراء بأرقام 2104، 2105، 2106 لسنة 1996 تحدد ارتفاعات البناء في بعض مناطق القاهرة والإسكندرية والجيزة، وذلك لمحاولة الحفاظ على الطابع العمراني لهذه المناطق التي تم البناء على معظم الأراضي فيها.
من مراجعة بنود هذه القوانين واللوائح التنفيذية يتضح أنها تطبق على جميع المناطق في المدن المصرية دون تمييز بين النسيج العمراني للمناطق المختلفة في المدينة الواحدة وأن كثيراً من شروط البناء يمكن أن يكون محلها الكود المصري وهي الشروط التي تحدد مواصفات الأعمال والتركيبات كما أنها تحدد التشكيل المعماري بشكل لا يتوافق مع البيئة أو القيم الفنية ولا تضع ضوابط تحدد الطابع المعماري للمناطق المختلفة في المدينة.

ويتضح من مراجعة بعض بنود القانون 106 ولائحته التنفيذية أنها تقف حجر عثرة في سبيل إنتاج عمران متميز يعكس حضارة مصر وطابع مناطقها المختلفة. الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في هذه البنود وغيرها من بنود قانون التخطيط العمراني وإعادة صياغتها بالشكل الذي يسمح بالإبداع المعماري مع توفير العناصر التي تضمن تجانس الشكل الخارجي الذي هو ملك المجتمع قبل أن يهم الفرد. الأمر الذي يختلف من منطقة إلى أخرى في المدينة الواحدة. من هذا المنطلق يمكن تطوير اللائحة الخاصة بتوجيه وتنظيم أعمال البناء بالأسلوب الذي يضمن إعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية للمناطق المتجانسة في

المدينة الواحدة سواء منطقة الوسط أو المناطق الفقيرة أو المناطق الأثرية أو مناطق الإسكان ذات المستويات المختلفة أو المناطق ذات الطبيعة الخاصة.
وفي مارس 1997 قامت هيئة التخطيط العمراني بوزارة الإسكان بإعداد مشروع دعت إليه المكاتب الاستشارية يهدف إلى الحفاظ على تراث مدينة القاهرة ووضع القواعد والضوابط التي يتعين مراعاتها لإعادة البيئة العمرانية للاتزان لتصبح بيئة عمرانية سليمة جديرة بموروثات حضارتنا العريقة محتفظة بطابعها ونسيجها على مر العصور وذلك بتخفيض الكثافة العمرانية في وسط المدينة والسيطرة على الأطراف العمرانية وتحديث المدينة والمحافظة على التراث والهوية والنسيج العمراني والاحتفاظ بتنوع وشخصية الأحياء. وبصفة عامة فإن السياسات العمرانية يجب أن تقوم على قواعد واشتراطات واضحة ومحددة وبحيث لا تؤدي إلى كبح الابتكارات أو إلغاء الحريات إذ يجب أن تكون داخل إطار قابل للتطور والملاءمة وليست مجرد قواعد جامدة، بحيث يمكن للموهبة أن تزدهر وتتواءم في ظل المحددات العامة- كما ينص خطاب الدعوة.

وفي مايو 2000 صدر قرار مجلس الوزراء بإنشاء الجهاز القومي للتنسيق الحضاري (الحضري) لنفس الهدف الذي صدرت من أجله المذكرات السابقة وهكذا تتكرر الأهداف والقرارات التي تصدر من مختلف الجهات مع ما سبقها من مذكرات بإنشاء لجان للطابع المعماري في محافظات القاهرة والإسماعيلية وأسوان في الثمانينات، ومع ذلك لم يتم شيء وكانت النتيجة مزيداً من التدهور العمراني والعشوائيات التي لا تتوقف فكل مسئول يرى أن هذا الموضوع من اختصاصه الشخصي تماماً كما حدث بالنسبة لمشروع تطوير القاهرة التاريخية .. هكذا دون العمل بنظم إدارة العمران التي تتضمن توفير الآليات وبناء القدرات مع إحكام التنظيمات الإدارية والتشريعية التي تستطيع أن تتحقق من خلالها أهداف هذه المذكرات حتى لا تضيع فيها المسئوليات بين وزارة الثقافة والإسكان والتخطيط والمحافظات إن التنسيق الحضاري (الحضري) المزمع لن يتحقق إلا بعودة نظام البلديات القادرة بكوادرها وآلياتها الفنية والتنفيذية على تحقيق هذا الهدف كما جاء في المذكرة التي أعدها أحد خبراء اللجنة الوزارية لإعادة التوازن للبيئة العمرانية والمعمارية.
وهكذا تستمر الأحوال دون استقرار. والمدن المصرية في حالة احتضار عمراني كمنتج اجتماعي فقد هويته المعمارية نتيجة لفقدان الهوية الثقافية للمجتمع. ولن ينقذ عمران المدن والقرى المصرية إلا تدخل القيادة السياسية والدعوة العاجلة لعقد مؤتمر قومي يبحث في مستقبل العمران في مصر قبل أن يفوت الأوان.

word
pdf