التنمية واتخاذ القرار

التنمية واتخاذ القرار2019-12-01T10:55:48+00:00

التنمية واتخاذ القرار

مشاكل تواجهها الدول النامية

د. عبد الباقي إبراهيم

جريدة الوفد 22/5/1994

 

 

حجم وعدد المحافظات الحالية – فيما عدا القاهرة الكبرى – لم يعد الحجم المناسب لإدارة التنمية الاقليمية كما لا يعقل أن تدار القاهرة الكبرى كإقليم تخطيطى إدارى تضم خمسة عشر مليون نسمة بنفس الأسلوب الذى يدار به إقليم تخطيطى وإدارى آخر. لقد حان الوقت أن يصبح للقاهرة الكبرى التى تضم مدينتى القاهرة والجيزة والأجزاء الجنوبية لمحافظة القليوبية جهازا خاصا يتبعه عدد من البلديات المحلية توكل إليها الإدارة العمرانية للأحياء المختلفة. مع اعتبار القاهرة الكبرى إقليما طاردا أكثر منه جاذبا كما هو عليه فى الوقت الحاضر. وهنا تدخل الضرائب المحلية وتكاليف الخدمات عنصرا هاما فى دفع السكان إلى المناطق الجديدة التى تعفى من الضرائب وحيث تتوفر فرص السكن والعمل معا على أن نتوقف تماما فى إقليم القاهرة الكبرى. فمن يريد أن يتمتع بمزايا القاهرة الكبرى من وسائل النقل العام أو الصرف الصحى أو المياه أو الجامعات. والمدارس والمستشفيات أو المراكز الادارية والتجارية والترفيهية فليدفع نصيبه كاملا فيها ويعفى بذلك المواطنون المقيمون فى المناطق الأخرى من أعبائها تحقيقا لعدالة توزيع الخدمات والاستثمارات. فالقاهرة التى تضم 20% من سكان الدولة تمتص 40% من الموارزنة العامة … وعلى الجانب الآخر من الصورة فإن قوانين الإسكان الجديدة التى تسعى إلى توازن العرض والطلب على الاسكان سوف تعمل على جذب السكان إلى المناطق الجديدة حيث تمنح الأراضى للبناء ويقوم الأهالى بمد المرافق العامة فيها من فائض مدخراتهم بنفس الآليات التى أفرزت المناطق العشوائية ولكن بأسلوب أكثر تنظيما وتخطيطا.

وهناك مستوى آخر من مستويات إدارة التنمية يقع بين المستوى المحلى ومستوى المشروع وهو مستوى مناطق التنمية التى تضم نوعيات متجانسة من المشروعات المتكاملة سياحية وترفيهية وفندقية أو إدارية وسكنية وتجارية أو سكنية وصناعية وزراعية أو فى ذلك من المجموعات المتكاملة من المشروعات فى قطاع مكانى واحد وفى هذا المستوى تتم إدارة التنمية من خلال هيئات خاصة بالتنمية المتكاملة التى تتعامل مع أكثر من نوعية واحدة من الاستثمار كما هو الحال بالنسبة للشركات المتخصصة. وهناك كثير من الامثلة لإدارة التنمية المتكاملة على مستوى القطاع المكانى مثل هيئة تنمية منطقة مينا ولندن القديم (دوكلاند) – وهيئة تنمية جانب نهر الميرزى فى ليفربول أو هيئة تنمية البيلك فى جنوب تركيا والتى تضم 26 مشروعا أو هيئة تنمية حوض نهر التنسى فى أمريكا… وغيرها العديد من هيئات التنمية التى بدأت تنتشر مثيلاتها فى دول النمور الخمس فى جنوب شرق آسيا وتدار بالمفهوم التنموى الاستثمارى وهو ما يمكن تطبيقه على بعض المدن الجديدة أو على مناطق التنمية الساحلية أو مناطق التنمية الصحراوية أو محاور التنمية الوديانية.. أو غيرها… حيث ترتبط إدارة التخطيط بإدارة التنفيذ مباشرة بمنهج استثمارى اجتماعى فى إطار الاستراتيجية القومية وبعيدا عن الروتين الحكومى.

أما بالنسبة لأسلوب إتخاذ القرار فهو لابد وأن ينبع أساسا من السياسة العامة للدولة ونظام إدارة الحكم فيها على المستويات المختلفة. من هنا كانت الدعوة لديمقراطية القرار النابع من القاعدة الشعبية خاصة فيما يرتبط برغبات المجتمع ورؤيته المستقبلية والتى تختلف باختلاف مستوى ثقافته والوعى التخطيطى لديه. الأمر الذى يتطلب قدرة المخطط على توعية الفئات المستهدفة حتى لا يختلف القرار الفنى عن القرار السياسى أو يتعارض معه. إذ كثيرا ما يكمن اتخاذ القرار فى شخصية القيادة مفردة الأمر الذى كثيرا ما يفقد الأجهزة الفنية قدرتها على العمل أو الإنتاج أو حتى على التفكير خاصة عندما تتغير القيادات وتأتى القيادة الجديدة تحاول أن تفرض قراراتها التى تتعارض مع قرارات القيادة السابقة ويبقى الجهاز الإدارى والفنى الدائم منفذا للأوامر وليس محركا للأمور. وفى كثير من الأحيان تقف الأجهزة الإدارية الدائمة عاجزة عن الحركة وفاقدة القدرة على التقدم أو الاجتهاد أو حتى إبداء الرأى.. وهنا يختلط القرار السياسى بالقرار الفنى وتصبح القيادة هى المحرك الوحيد للأمور سياسيا وفنيا بالرغم من عدم التخصص فى معظم الأحيان . وإنفراد القيادة بتحريك الأمور بهذه الصورة يضعها فى نظر الإدارة العاجزة وكأنها صاحبة الأمر والنهى وإليها ترجع كل الأمور الأمر الذى يتطلب إعادة النظر فى تطوير أسلوب اتخاذ القرار سواء بالمشاركة الفكرية الجماعية وذلك من خلال برامج التدريب والتمرس والمحاكاة قبل الانتقال إلى واقع الممارسة العملية. كما تعنى به المؤسسات الأجنبية التى تعمل على تأهيل القيادات الفنية والسياسية من خلال برامج علمية وعملية خاصة فى برامجها التعليمية. كما يظهر ذلك فى برامج التربية الأساسية للنشء فى شكل جماعات المناقشة وكذلك فى البرامج التليفزيونية فى شكل حوارات تعمل على ترسيخ ديمقراطية القرار أو الشورى فى القرار.

إن تطور آليات إدارة التنمية وتنظيم أسلوب إتخاذ القرار على المستوى القومى والاقليمى والمحلى هو مفتاح الدخول فى القرن الحادى والعشرين. وهو الضمان لاستمرارية الآثار الإيجابية للإصلاح الاقتصادى وهو السبيل لمواجهة المتغيرات الشرق أوسطية أو الدوافع الآسيوية الغربية. بل هو السبيل لاستقرار الأمن والأمان الأمر الذى لا يتطلب انتظار لما سوف تسفر عنه الدراسات والبحوث وإعداد المجلدات والجداول والخرائط والتوصيات بقدر ما تتطلب القرار السياسى لاعتماد المنهج والأسلوب وأسس بناء الآليات القادرة على دفع  التنمية على المستوى القومى والإقليمى والمحلى تخطيطا وتنفيذا فقد استمرت البحوث والدراسات المستفيضة عشرات السنين فى موجات متلاحقة لم تترك وراءها إلا الزبد إذا لم تكن موجهة فى البداية إلى متخذ القرار السياسى بشأنها أولا حتى تستمر وتجد سبيلها للتنفيذ ولذلك فقدت قوتها الدافعة. لقد آن الآوان لاستصدار القرار السياسى أولا بالنسبة للمنهج والأسلوب حتى يمكن أن تتم بعد ذلك الإجراءات والخطوات التنفيذية لوضع الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير ورسم خريطة مصر المستقبل.

word
pdf