التوازن الاجتماعي في المجتمعات العمرانية

التوازن الاجتماعي في المجتمعات العمرانية2019-11-21T13:08:05+00:00

التوازن الاجتماعي في المجتمعات العمرانية

للدكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

كبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية سابقا

رئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس سابقا

 

 

 

الحديث الشريف: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في جامع الكلم عن حقوق الجار عامة” من أغلق بابه دون جاره مخافة علي أهله وماله فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه، أتدرى ما حق الجار؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه.. وإذا مرض عدته.. وإذا أصابه خير هنأته.. وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته.. و لا تستطيل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه و لا تؤذه بقتار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وان اشتريت فاكهة فاهد له.. فان لم تفعل فادخلها سرا.. و لا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده”
رواه الخرائطي من مكارم الأخلاق – عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (صلي الله عليه وسلم ) والحديث مروى عدة روايات مختلفة وكثرة الطرق تكسب الحديث قوة – الترغيب والترهيب – الجزء الثالث صفحة236.

يهدف هذا الحديث إلي بناء المجتمع والمتوازن اجتماعيا دون تفرقة بين كبير وصغير أو غني وفقير وبالتالي بناء المجتمع المتوزان عمرانيا دون تفرقة بين مناطق إسكان الكبار ومناطق إسكان الصغار أو مناطق إسكان الأغنياء ومناطق إسكان الفقراء كما هو الحال في النظريات العمرانية السائدة التي تؤدى إلى الانفصال الاجتماعي والثقافي بين الطبقات كما تؤدى إلى الصراعات بين فئات الدخل المختلفة.. وإذا كانت هذه النظريات قد انتشرت في المجتمعات الرأسمالية.. وذلك علي النقيض من النظريات التي طبقت في المجتمعات الاشتراكية التي ساوت اجتماعيا وماديا بين جميع الطبقات وبالتالي ساوت بين المناطق السكنية التي اتخذت طابعا عمرانيا واحدا يتساوى فيه الجميع، الأمر الذي يخالف الطبيعة البشرية فقد خلق الله الناس شعوبا وقبائل للتعارف والتعايش ولكن في الحدود التي رسمها الإسلام في إطار الوسطية وكفالة التعايش والتكافل بين الطبقات غنيها وفقيرها.. كبيرها وصغيرها.. مع المساواة في الحقوق والواجبات.. فجميعهم أمام الله كأسنان المشط لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوى.
وإذا كانت النظرية الرأسمالية في التنمية العمرانية قد فصلت بين الطبقات فصلا تاما وخصصت مناطق الفيلات والقصور للأغنياء من القوم بعيدا عن مناطق الإسكان المتوسط من ناحية ومناطق إسكان ذوى الدخول المعدومة من ناحية أخرى، الأمر الذي أدى إلي العديد من الأمراض الاجتماعية والنفسية التي أدت في النهاية إلي انتشار الجريمة التي أصبحت ظاهرة عامة في بعض هذه المجتمعات الرأسمالية. وإذا كانت النظرية الاشتراكية في التنمية العمرانية قد ألغت النظام الطبقي ووضعت جميع أفراد المجتمع في صف واحد كالقطيع واختفت بين أفراده حوافز العمل والإنتاج والإبداع وضاعت بينهم مقومات البحث والإتقان والتنافس، فان المنظور الإسلامي للنظرية العمرانية سعي الي إيجاد الصيغة المتوازنة في البناء الاجتماعي للمجتمعات وبالتالي التوازن في البناء العمراني الذي يعبر عن البناء الاجتماعي المتوازن، وذلك بتطبيق منهج الوسطية والتعايش والتعاون بين الطبقات وبتطبيق ما جاء في الحديث النبوي الشريف من توصيات لبناء المجتمع السليم اجتماعيا وبالتالي المجتمع المتوافق عمرانيا، وتنطبق هذه النظرية في البناء العمراني للمجاورة السكنية الصغيرة التي حددها الحديث النبوي الشريف بأربعين دار جار أو المجاورة الأكبر التي حددها الحديث الشريف بتطبيق وحدة الجوار الصغيرة في الجهات الأربعة التي تستوعب مستويات الدخل المختلفة في مجاورة واحدة يجد فيها الغني متطلباته المعيشية كما يجد فيها الفقير متطلباته الحياتية دون تطاحن أو تشاحن ودون تفرقة أو تفريق.. لا يخشى الجار جاره ولكن إذا استعانه أعنه وإذا افتقر عاد إليه، لا يستطيل عليه البنيان فيحجب عنه الريح إلا إذا استأذنه، وهنا تتأكد الصلات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد فتختفي الجريمة في المجتمع و لا يغلق الجار داره مخافة علي أهله وماله من هذا المنطلق يمكن تصميم وحدة الجوار بحيث تتضمن مستويات الإسكان المختلفة لمستويات الدخل المختلفة دون تباين أو تفاخر في المظهر الخارجي الذي يخضع للقيم التي ترتضيها الجماعة، مع التباين أو التنوع المظهر الداخلي الذي يخضع للقيم التي يرتضيها الفرد، وهكذا يتأكد التوازن الاجتماعي العمراني للمجتمع وتتأكد الوسطية كمنهج للعلاقات الإنسانية، ويتبع ذلك في هذه النظرية ما يتبع من كثافات بنائية وخدمات اجتماعية وثقافية وتعليمية وتجارية تتوفر لمختلف الطبقات الاقتصادية المتوافقة في إطار وحدة الجوار كما رسمها الحديث النبوي الشريف، كما تتوفر لهم شبكات المرافق العامة والطرق الممرات والمناطق المفتوحة التى تتوفر للخاصة داخل أفنية منازلهم أو للعامة بين مجموعات مبانيهم.. وهنا تدخل القيم الإسلامية موجهة لتنسيق المساحات وزرعها بالأشجار والعناية بالطريق والحفاظ علي حرمته واستئذان صاحب المبني الجديد من جاره للموافقة علي المظهر الخارجي للبناء الجديد وعدم التطاول عليه بالبنيان.. كما يتم تطبيقة حاليا في بعض المجتمعات المتحضرة مثل اليابان وكان الأفضل أن تطبق هذه المبادئ في المجتمعات التي تتخذ من التعاليم الإسلامية منهجا حياتيا لها. هنا تلتقي النظرية التخطيطية بالنظرية المعمارية النابعة من التعاليم الإسلامية. في هذا الإطار تزداد الكثافة البنائية التي تستوعب إسكان أصحاب الدخول القليلة علي طول المحور التجاري وتقل هذه الكثافة تدريجيا لتستوعب إسكان أصحاب الدخول المتوسطة ثم إسكان فوق المتوسط إلي أن تصل إلي أقل حد لها لتستوعب إسكان الدخول العالية، بحيث تتجه الحركة المحلية داخل وحدة الجوار بمفهومها الإسلامي إلي أن تصل إلى القصبة وهي المحور الرئيسي الذي تقام علي جانبيه الأنشطة التجارية ويتوسطه ميدان المسجد والخدمات المتصلة به، كما تتجه الحركة الآلية إلي خارج وحدة الجوار حتى تصل إلي شرايين الحركة السريعة، وهكذا تنخفض إرتفاعات المباني علي المحيط الخارجي لوحدة الجوار ويزداد ارتفاعها تدريجيا إلي الداخل حتي تصل إلي أعلي ارتفاع مسموح عند مركز الوحدة وعلي طول قصبة النشاط التجاري والإداري وذلك بعكس النظرية الغربية التي تطبق علي المدن المصرية. وقد استحدثت هذه النظرية من خلال الممارسة العلمية في عدد من المدن العربية حتي أصبحت مهيأة للتطبيق.

وهكذا قد ثبت أن فى التعاليم الإسلامية من خلال الآيات القرآنية الكريمة أو الأحاديث النبوية الشريفة منهلا خصبا لجميع القيم التى تسعى إلى البناء المتوازن للإنسان والتي بالتالي يمكن تطبيقها على البناء المتوازن للعمران وهو الغلاف الذي يعيش فيه وخارجه المجتمع الإسلامي. ولا يقف التوجيه عند هذا الحد بل يمتد إلى الاستثمار الأمثل للبناء بما يحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الإسلامي والحث على البناء بالجهود الذاتية خاصة بالنسبة للمستويات الفقيرة بمعاونة أصحاب الدخول الكبيرة لتحقيق التكامل الاقتصادي والاجتماعي لسكان أو وحدة الجوار.

لقد قامت منظمة العواصم والمدن الإسلامية بإصدار موسوعة معمارية تخطيطية توضح مدى إمكانية تطبيق هذه المبادئ على المدينة المصرية، وكان أول مثلا يحتذي به ويتم إعداد مثيلا له فى العديد من الدول

العربية والإسلامية .

والله من وراء القصـــد.

word
pdf