التوجيـه الإسلامى للعمران المضمون الإسلامي للعمارة

التوجيـه الإسلامى للعمران المضمون الإسلامي للعمارة2019-11-20T09:04:36+00:00

التوجيه الاسلامي للعمران المضمون الاسلامي للعمارة

د/ عبد الباقي إبراهيم

 

 

يعتبر المضمون- كتعبير علمي- أكثر شمولية وأعم وصفاً من تعبير الوظيفة المحكومة بمحددات هندسية وفنية واقتصادية بهدف الوصول إلى الاستغلال الأمثل للمكان في المباني المختلفة. والوظيفة في النظرية المعمارية هي أقرب إلى الآلية في الأداء، أما المضمون فهو تعبير يضم المتطلبات الوظيفية بجانب المتطلبات الإنسانية والاجتماعية، وهو بالنسبة لعمارة العصور الإسلامية يرتبط بالقيم والتعاليم الإسلامية الواجب توافرها فى النوعيات المختلفة من المباني. فالمضمون تعبير يضم الجوانب الوظيفية والعقائدية معاً وهو بذلك يعتبر المدخل الرئيسي للمنظور الإسلامي للعمارة بحيث يستكمل بعد ذلك بالقيم التشكيلية المرتبطة بالبيئة الطبيعية والثقافية والتراثية للمكان. ويعنى ذلك أن المضمون هو الجانب الثابت في المنظور الإسلامي للعمارة، لا يختلف باختلاف المكان أو الزمان وهو بذلك يكتسب صفة العالمية، أما الشكل فهو الجانب المتغير فيها وله صفه المحلية وبذلك يصبح المضمون هو المحرك الحقيقي للفكر المعماري في كل زمان ومكان.

ويتحدد المضمون الإسلامي للعمارة بتعاليم القرآن الكريم والسنة المحمدية مباشرة أو بالقياس. وإذا كان المنهج الإسلامي يهدف إلى بناء الإنسان على أسس واضحة وقيم محددة فإن الأمر يمكن أن ينطبق بالقياس على بناء العمران. فإذا كانت القيم الإسلامية لبناء الإنسان تحدد سلوكياته الاجتماعية كفرد يرتبط بالمجموع كما تحدد سلوكياته الفردية كفرد له خصوصياته فإن العمارة بالقياس تصبح تعبيراً اجتماعياً من الخارج كحق للمجتمع، كما هي تعبير فردى من الداخل كحق للفرد. وهكذا يظهر الاختلاف الفردي من الداخل في إطار الوحدة الاجتماعية من الخارج. والوحدة الإجتماعية من جانب آخر هي انعكاس للنظم الإقتصادية والقيم للمجتمع الإسلامي. وإذا ما أستقر المضمون الإسلامي في تحديد الأشكال والفراغات المكونة للعمل المعماري وتنظيم العلاقات الوظيفية بينها فلا يبقى إلا التعبير الفنى عن العمل المعماري جامعاً لعنصر الإنشاء ومواد البناء مضافاً إليها القيم الفنية المتوارثة محلياً فى المجتمع. وإذا كانت هذه المقالة تسعى إلى استيعاب القيم التشكيلية في عمارة العصور الإسلامية فى زمان محدد ومكان معين، فإن ذلك يأتى فى المقام التالى لاستيعاب المضامين الإسلامية الثابتة على مر كل العصور وكل الأمصار.

من هنا يمكن القول بأن الشكل فى عمارة المسلمين يفرزه المضمون فى البداية وتجسده مواد البناء وطرق الإنشاء وتكمله القيم الفنية والثقافية المتوارثة والتى لا تتعارض مع المضمون، وبمعنى آخر فإن عمارة المسلمين تعتبر عمارة محلية ترتكز على مضامين إسلامية.

إذا كانت عمارة المجتمع الإسلامي قد استمدت مصادرها فى بداية العصور الإسلامية من روافد حضارية بالمنطقة، فإنها ما لبثت أن استكملت صورتها لتعكس القيم الإسلامية للمجتمع الذى نشأت فيه وهى القيم المستمدة من كتاب الله وسنه رسوله الكريم. فالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف هما المصدران الأساسيان للتشريع والعقيدة، وبالقياس تستمد منهما المضامين التصميمية للعمارة. فقد تناول القرآن الكريم فى محكم آياته مجمل أمور البشر فى الدنيا والآخرة حيث قال تعالى ” ما فرطنا فى الكتاب من شىء ” الأنعام سورة (6)، الآية (38) وقال تعالى ” ولقد صرفنا فى هذا القرآن للناس من كل مثل ” الكهف سورة (18) الآية (54).

كما أن الحديث النبوي الشريف ملزم أيضاً لحركة الإنسان وسلوكه ومعاملاته. قال تعالى ” من يطع الرسول فقد أطاع الله ” النساء سورة (4) آية (80)، وقال تعالى ” وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ” الحشر سورة رقم (59) آية (7)، وحتى يستطيع الإنسان وهو خليفة الله فى أرضه أن يتعامل مع متغيرات الحياة له أن يجتهد بالفكر والمنطق والقياس وذلك فى حدود معرفته بالشريعة والفقه. قال تعالى ” وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة ” البقرة سورة (2) آية (30).

وهكذا يمكن للمعمار أن يتجه إلى كتاب الله وسنة رسوله r ، فهما الإطار والمنهج الذى يضع المفاهيم والأسس ويحدد المضامين الأساسية لعمارة المجتمع الإسلامي، وذلك باعتبار الدين الإسلامي دين حياة قبل أن يكون طقوساً وعبادات، تواكب تعاليمه كل متغيرات الحياة فهو دين كل زمان وكل مكان. والمضامين الأساسية التى تقوم عليها عمارة المجتمع الإسلامي هى الحفاظ على الأسرة والمجتمع ورعاية حقوق الجار، وعدم الإضرار بالآخرين كذلك عدم التطاول فى البنيان وعدم التباهي حتى لو كان للمساجد. بالإضافة إلى كل هذا نجد دعوة الإسلام للاستمتاع بالحياة دون اعتداء على ما حرم الله. وأهم ما يميز عمارة المسلمين- حقاً – هو تأثرها بشريعة الإسلام وسنته.

وللحفاظ على الأسرة وهى لبنة المجتمع، دعى الإسلام للفصل بين الرجال والنساء قال تعالى
” قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون* وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ” النور سورة (24) ( الآيات 30-31). الأمر الذى دعى المصمم المسلم لتوفير الخصوصية لأهل البيت واستخدام المدخل المنكسر، والمشربيات لتوفير الضوء والهواء للمنزل والإطلال على الطريق دون جرح لأهل البيت، إضافة لفصل النساء عن الرجال وهو أمر يستحب أن يتم عمله فى المباني العامة ومباني الخدمات.

كما دعى الإسلام للفصل بين الأطفال فى مضاجعهم لقول الرسول r ” فرقوا بينهم فى المضاجع ” وهو أمر يوفر للطفل خصوصية ويقوى فيه إحساسه بالإنتماء وشعوره بشخصيته. كما أن الإسلام يحبب فى النظافة ويكفى الوضوء خمس مرات فى اليوم استعداداً للصلاة دليلاً على ذلك مما دعى المصمم المسلم لتوفير دورات المياه والحمامات بالمنازل إضافة للحمامات العمومية.
عن ابن عمرو وعائشة رضى الله عنهما، يقول رسول الله r ” مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه” – متفق عليه. والحفاظ على حقوق الجار يشمل أن لا يستطال عليه فى البنيان فيسد عنه الهواء والضوء إلا بأذنه وأن لا يفتح عليه نوافذ فتجرح حرمات بيته.

كما يدعو الإسلام لرعاية حقوق الآخرين وعدم الإضرار بهم فيقول سبحانه وتعالى ” إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ” سورة (16) النحل آية (90) ويقول سبحانه وتعالى ” اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ” النساء سورة (4) آية (36). كما قال رسول الله r ” لا ضرر ولا ضرار فى الإسلام” .

ويدعو الإسلام إلى عدم التطاول فى البنيان فإذا رجعنا إلى الحديث الشريف فيما يرتبط بهذا الموضوع نجد أن التطاول فى البنيان يعتبر من علامات الساعة وذلك بناءاً على ما قاله رسول الله r : ” أن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون فى البنيان ” وذلك فى حديث عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ورواه مسلم. وتفسير ذلك كما ورد فى كتاب جامع العلوم والحكم لزين الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين بن أحمد بن رجب الحنبلي البغدادي من علماء القرن الثامن الهجري. أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه. بمعنى إذا صار الحفاة العراة الشاة وهم أهل الجهل والجفاء رؤساء الناس وأصحاب القوة والأموال حتى يتطاولون فى البنيان فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا، وفى قوله ” يتطاولون فى البنيان ” دليل على ذم التباهي والتفاخر وخصوصاً بالتطاول فى البيان. فلم تكن إطالة البنيان معروفة فى زمن النبي r وأصحابه رضى الله عنهم. بل كان بنيانهم قصيراً بقدر الحاجة.

وفى نفس المجال روى أبو الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : ” قال رسول الله r : لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس فى البنيان” أخرجه البخاري – وأخرج أبو داود من حديث أنس رضى الله عنه ” أن النبي r خرج فرأى قبة مشرفة فقال ما هذه؟ قالوا هذا فلان رجل من الأنصار فجاء صاحبها فسلم على رسول الله r فأعرض عنه وفعل ذلك مراراً فهدمها الرجل ” أخرجه الطبرانى من وجه آخر عن أنس أيضاً وعنه ” فقال النبي r : كل بناء- وأشار بيده هكذا على رأسه -أكثر من هذا وبال ” والتطاول فى البنيان لا يعنى عدد الأدوار وإنما يعنى ارتفاع السقف”. وقال فى حديث ابن السائب عن الحسن ” كنت أدخل بيوت أزواج النبى r فى خلافه عثمان رضى الله عنه فأتناول سقفها بيدي ” وروى عن عمر رضى الله عنه أنه كتب ” لا تطيلوا بناءكم فإنه شر أيامكم ” وقال يزيد بن أبى زياد: ” قال حذيفة رضى الله عنه لسلمان : ألا تبنى لك مسكناً يا أبا عبد الله ؟ قال لم تجعلني ملكاً؟ قال لا، ولكن تبنى لك بيتاً من قصب وتسقفه بالبوارى، إذا قمت كاد أن يمس رأسك، وإذا نمت كاد أن يمس طرفيك، وقال : كأنك كنت فى نفسي “. وعن عمار بن أبى عمار قال ” إذا رفع الرجل بناءة فوق سبعه أذرع نودى يا أفسق الفاسقين إلى أين ” أخرجه كله ابن أبى الدنيا. وقال يعقوب بن أبى شيبة فى مسنده قال : ” بلغني عن ابن أبى عائشة قال: حدثنا ابن أبى شميل قال: نزل المسلمون حول المسجد- يعنى البصرة- فى أخبية الشعر، ففشا فيهم السرق، فكتبوا إلى عمر فأذن لهم فى البراع، فبنوا بالقصب ففشا فيهم الحريق، فكتبوا إلى عمر فأذن لهم فى المدر ونهى أن يرفع الرجل سمكه أكثر من سبعة أذرع وقال : إذا بنيتم فيه بيوتكم فابنوا منه المسجد. قال : ابن أبى عائشة وكان عتبة بن غزوان بنى مسجد البصرة بالقصب وقال : من صلى فيه وهو من قصب أفضل ممن صلى فيه وهو من آجر”. وأخرج ابن ماجه من حديث عن أنس عن النبي r ” لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس فى المساجد “، وعن حديث ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي r : ” أراكم تشرفون مساجدكم بعدى كما شرفت اليهود كنائسها وكما شرفت النصارى بيعها ” ، وروى ابن أبى الدنيا بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن رضى الله عنه قال ” لما بنى رسول الله r مسجده قال: ” أبنوه عريشاً كعريش موسى عليه السلام – قيل للحسن ما عريش موسى ؟ قال إذا رفع يده بلغ العريش – يعنى السقف “.

إلى جانب كل هذا نجد الإسلام يدعو للآستمتاع بالحياه والكثير من أمور العمارة هي من أمور الحياة الدنيا التى ترك لنا الإسلام التصرف فيها للتمتع بما حلل الله دون إسراف أو تقتير ودون تفريط، يقول سبحانه وتعالى فى محكم الذكر ” قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين أمنوا فى الحياة الدنيا خالصه يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ” الأعراف سورة (7)، آية (32). وقال سبحانه وتعالى ” وأتبع فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لا يحب المفسدين ” القصص سورة (28)، آية (77). ويقول سبحانه وتعالى ” إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً ” الإسراء سورة (17)، آية (27) وقال تعالى فى نفس السورة ” ولا تجعل يديك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً ” آية (29). ويقول تعالى ” كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى ” طه سورة (20)، آية (81).

وقد دعى الإسلام للإهتمام بمقومات الحياة حيث جاء فى صحيح البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: ” قال رسول الله r ” ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة “.

إن الإسلام عنى ببناء الإنسان قبل بناء البنيان، ووضع لذلك منهجاً عمرانياً للبناء بقدر الحاجة وذم التباهى والتفاخر بطول البنيان وزخرفته سواء أكان ذلك بالنسبة للمساكن أو حتى بالنسبة للمسجد لما فى البذخ من آثار ضارة فتنهار قوته وحضارته كما إنهارت دول من قبله ومن بعده. وهذا هو مضمون القضية المعمارية ونظريتها. فهى ليست قضية قباب أو أفنية ولا قضية زخارف أو مشربيات، أو قضية أشكال ونسب بل هى قضية إقتصادية إجتماعية، قضية ثقافية حضارية لمجتمع إسلامى ينهج نهج القرآن الكريم والسنه المحمدية.

من هذا المنطلق يمكن البحث عن المضامين التصميمية للنوعيات المختلفة من المبانى العامة والخاصة التى يتعايش معها الإنسان المسلم بصفتها الإطار الفراغى الذى يعيش فيها ويسكن ويعمل ويتعامل مع الناس ويرفه عن نفسه ويمارس كل نشاطاته الحياتية.

word
pdf