التوزيع الجغرافي والقطاعي للاستثمارات

التوزيع الجغرافي والقطاعي للاستثمارات2019-12-11T14:05:26+00:00

التوزيع الجغرافي والقطاعي للاستثمارات

وأثره في رسم خريطـة مصـر

 

دكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية 

21/11/1982

من الواضح أن معظم الاستثمارات في الموازنات السنوية أو الخطط الخمسية توجه إلى مختلف القطاعات الإنتاجية أو الخدمية حيث توجد الكثافات السكانية العاليــة في الوادي الضيق.. وذلك من منطق إيصال الخدمات والمشروعات إلى حيث يوجد السكان وليس إلى حيث يجب أن يوجدوا.. وبهذا المنطق توزع الاستثمارات على مشروعات الطرق والمرافق والكهرباء والغاز أو المشروعات التعليمية للجامعات والمعاهد العليا أو للصناعات ومراكز الإنتاج فى الوادي الضيق فهناك اقتناع عام بأن معظم هذه المشروعات يساعد على حل المشاكل الملحة للجماهير.. وأن العائد منها سريع يساعد على ارتفاع معدلات الدخل القومي.. من هذا المنطلق تتبارى المحافظات فى الوادي الضيق فى إنشاء مشروعاتها الاستثمارية وإقامة الخدمات والمرافق العامة حتى تظهر آثارها سريعا أمام الجماهير ويمتص مشاكلهم القائمة.. وتكون النتيجة استقرار الكثافات السكانية فى أماكنها الحالية وزيادتها حيث لا يجب أن تكون.. ومع هذه الزيادات المستقرة تتفاقم المشاكل بعد فترات قصيرة من الزمن بحيث يصعب حلها.. أو مواجهتها بكل الإمكانيات.

وعلي الجانب الآخر تظهر أهمية الإستراتيجية العمرانية القومية والتي تهدف إلي رسم الخريطة الجديدة لمصر وذلك بالخروج من الوادي الضيق إلي أطرافه في المناطق المتاخمة له شرقا وغربا أو إلي جيوب التنمية المتكاملة في المناطق البعيدة عنه الأمر الذي يتطلب أسلوبا مناسبا لتوزيع الاستثمارات جغرافيا لتحقيق هذه الإستراتيجية العمرانية.وهنا يبدأ الجدل في هذا الشأن من حيث عائد المشروعات في مناطق التنمية الجديدة والتي تحتاج إلى استثمارات كبيرة لتوفير البنية الأساسية لتنميتها… وإذا صح هذا المنطق علي مستوى المشروع فهو ليس صحيحا علي المستوى القومي للمشروعات المتكاملة في مناطق التنمية الجديدة إذا يساعد هذا الاتجاه علي زيادة العائد من مشروعات التنمية والبنية الأساسية القائمة في المناطق القديمة الأمر الذي يتطلب تغيرا جزريا في المنطق التخطيطي علي المستوى القومي والإقليمي والمحلي وذلك للخروج بالسكان من الوادي الضيق إلي أطرافه والي جيوب التنمية البعيدة عنه لتحقيق الاستراتيجية العمرانية القومية. فاستمرار المنطق التخطيطي بصورته الحالية يساعد علي تكدس المشاكل وتراكمها مع الزيادة المستمرة في الكثافة السكانية علي جزء محدود من الأرض.
وإذا كانت الاستراتيجية العمرانية القومية تهدف إلى الامتداد العمراني علي المناطق المتاخمة للوادي الضيق شرقا وغربا وبنفس العلاقات الوظيفية بين التجمعات السكنية القائمة بأحجامها المختلفة أو إلى جيوب التنمية المتكاملة في سيناء والوادي الجديد والساحل الشمالي أو ساحل البحر الأحمر فإن الأمر يستدعي توفير عوامل الجذب المناسبة في المناطق الجديدة بالتوازي مع توفير عوامل الطرد في المناطق القديمة. وهو ما لا يوفره المنطق التخطيطي القائم. فقد بدأ هذا المنطق يدعو إلى تنمية الريف الحالي وتوفير الخدمات والمرافق العامة فيه وذلك بهدف الحد من الضغط السكاني بسبب الهجرة علي المدن الكبيرة وعلي القاهرة بصفة خاصة… ونتيجة لهذا المنطق ظهرت العديد من مشروعات التنمية الإقليمية في المحافظات… مدنها وقراها… فظهر مشروع كهرباء الريف… وتوفير مياه الشرب كمشروعات قومية… تبعتها مشروعات الجامعات الإقليمية وتنمية الصناعات المحلية الأمر الذي أدي إلى تفاقم مشاكل الخدمات والمرافق العامة باستقرار السكان في ريف ومدن المحافظات وهو ما يحتاج إلي استثمارات كبيرة لمواجهتها. كما استمر الامتداد العمراني علي الأراضي الزراعية بمعدلات أكبر فشلت القوانين واللوائح في كبح جماحها كما ظهرت مشروعات الإسكان علي مشارف المدن تضيف أعباء أخرى علي المرافق والمواصلات والخدمات. كما بدأت مشروعات الأنفاق والكباري في المدن الكبرى لحل المشاكل المؤقتة للنقل والمرور… وتستوعب في نفس الوقت الفائض من إعداد المركبات والسيارات حتي تتكدس المشكلة مرة أخرى… فترتفع الطرق العلوية بعد ذلك لتواجه المشاكل المؤقتة ولتضيف أعباء أخرى لمساعدتها علي استقرار التكدس السكاني وذلك بخلاف ما ينتج عنها من تلوث للبيئة التي تؤثر علي صحة الإنسان ومعدلات إنتاجه كما تؤثر أيضا علي طاقة البنية الأساسية لتحمل كل عوامل الضغط عليها. وتستمر العجلة بالمنطق التخطيطي القائم لمواجهة المشاكل المؤقتة دون التبصر بالآثار المستقبلية علي المستوى القومي. وذلك لتعود العجلة مرة أخرى بعد فترة من الزمن لنواجه مشاكل أكثر تعقيدا وأصعب حلا عندما بدأ مشروع توسعة الطريق الزراعي في أوائل الخمسينات لربط القاهرة بالإسكندرية واصلا بعض مدن الدلتا دون اختراقها كان من الصعب إقناع المنطق التخطيطي لهذا المشروع في حينه مع توجيه الاستثمارات المخصصة له إلي توسعة الطريق الصحراوي لاجتذاب الأنشطة الاقتصادية إليه خارج الرقعة الزراعية. وكانت النتيجة الحالية التي تحول فيها الطريق الزراعي إلي طريق صناعي أقامت عليه الدولة والقطاع الخاص عددا كبيرا من المصانع وجذب إليه عددا من الأنشطة الخدمية والاستثمارية فظهر في بدايته نعمة وأصبح في نهايته نقمة. واتجهت الاستثمارات بعد فوات الأوان إلي توسعة الطريق الصحرواى. وبنفس المنطق يبدأ مشروع مترو الأنفاق بالقاهرة لحل عشرين في المائة من مشكلة المرور في القاهرة بعد عشرة أعوام علي أقصي تقدير وفي نفس الوقت يستقطب أعداداً أخرى من السكان ليزيد من الضغط علي مرافق المدينة وخدماتها العامة. ولن تدور العجلة مرة أخرى بعد ذلك بل سوف تتوقف الحياة. وذلك بغض النظر عما يتطلب مثل هذا المشروع من تشغيل وصيانة وتجديد وهو في باطن الأرض لا نلمحها علي وسائل النقل الأخرى التي تسير علي ظهر الأرض… وبنفس المنطق يبدأ مشروع ميناء دمياط ليحل مشكلة قائمة ويضيف أعباء مستقبلية علي الأرض الزراعية.

ان منطق الاستراتيجية العمرانية القومية يعتبر الوادي الضيق إقليما زراعيا في المقام الأول بمقوماته الطبيعية والسكانية لا يتحمل إلا الاستثمارات التي تساعد علي هذا المفهوم… وما غير ذلك يتجه إلي أطراف الوادي أو جيوب التنمية المتكاملة. وهنا لابد من تقدير العائد من المشروعات في المناطق الجديدة علي أساس العائد القومي الطويل الأجل. وليس علي أساس العائد المباشر للمشروع.

الأمر الذي يتطلب تدخل الدولة لتقديم العون للموازنة بين العائد علي المستوى القومي والعائد علي مستوى المشروع لما فيه صالح المستثمرين الذين يطمحون في العائد السريع أو القصير الأجل. كما يتطلب الأمر البحث في توفير كل وسائل الطرد من المناطق القديمة حتي تحقق الخطط القومية أهدافها في أقرب وقت ممكن. فالتحمل لبعض الوقت للراحة طول الوقت أفضل من الراحة بعض الوقت والمعاناة طول الحياة وهذه مهمة القيادات السياسية بحيث لا تعمل علي الإرضاء الوقتي للمواطنين. بقدر ما توضح لهم مخاطر المستقبل الذي يواجههم ويواجه الأجيال القادمة من بعدهم حيث الغالبية العظمي لا ترى إلا علي بعد يومها وتترك مستقبلها إلى الأقدار… ولكن لابد من الأخذ بالقاعدة الإسلامية التي تقول أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.

word
pdf