الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية

الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية2019-12-17T13:27:55+00:00

الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية

بين النظريــة والتطبيــق
“ورقة عمل”
 مقدمة من :-

   الأستاذ الدكتور عبد الباقي إبراهيم 
– رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية. 
-ورئيس تحرير مجلة عالم البناء .
-ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس سابقا. 
 -وكبير الخبراء بالأمم المتحدة سابقا.

1- مقدمة:-
لقد أسهبت النظريات فى شرح الجوانب النظرية والفنية للحفاظ على الآثار والمعالم القديمة فى المدينة العربية وعقدت لها المؤتمرات والندوات وإتخذت بشأنها التوصيات والقرارات كما نشرت عنها الكتب والمجلات وأصبح الحديث فيها معادا قد يصل حد الاستطراد دون أن يوصل النظرية بالواقع. فالنظرية التخطيطية قد ثبتت أركانها والأسس المعمارية قد تحددت أبعادها، وامتد نطاق الدعوة الجادة إلى ضرورة الحفاظ على خصائص المدينة العربية، وشارك غير العرب فى هذه الدعوة عندما أيقنوا أن يد التغريب قد أصابت المدينة العربية فى الصميم العمرانى كما أصابتها فى الصميم الاجتماعي والثقافي حتى أصبح الحفاظ على خصائص المدينة العربية أمرا يصعب تحقيقه إلا فى أضيق الحدود. والمشكلة هنا لم تصبح ضمورا فى الفكر أو قصورا فى النظرية أو عجزا فى الإمكانيات ولكنها أصبحت مشكلة ثقافية أو حضارية فى المقام الأول. فالمدينة على مر العصور كانت إفرازا للقيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، وعندما تتغير هذه القيم تتغير صورة المدينة ويشهد على ذلك كل مدينة عربية تحاول أن تحافظ على تراثها القديم بعد عجزها عن الاستمرارية به فى تراثها المعاصر. فالدعوة إلى تأكيد الطابع المعمارى للمدينة العربية المعاصرة لم يتعد نطاقها فى كثير من المدن العربية حدود الكلمات ولم يتم حتى الآن نقل هذه الكلمات إلى لوائح أو قرارات تنفيذية سواء فى نطاق العملية التعليمية للمعماريين والمخططين أو فى إطار لوائح وتراخيص البناء والتشييد أو فى محتوى التأليف والنشر المعمارى والتخطيطي أو فى الهياكل التنظيمية لإدارات المدن الأمر الذى يحتاج إلى دفعات فعالة من أصحاب القرار فى التعليم المعمارى ومن أصحاب القرار فى إصدار اللوائح والقرارات ومن أصحاب القرار فى مجال التأليف والنشر ومن أصحاب القرار فى مجال إدارة المدن، وذلك لتنفيذ القرارات والتوصيات التى صدرت أو تصدر عن الندوات والمؤتمرات والتى تسعى جميعها إلى الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية بكل الأساليب العلمية والفنية. لقد امتلأت ملفات هذه الندوات والمؤتمرات بالعديد من الدراسات والبحوث التى يحلم فيها أصحابها بالصورة الحضارية أو الوردية للمدينة العربية، وهم يدركون أن تحقيق هذا الحلم لا يتحقق بنتائج الدراسات والتمنيات ولكن بالعمل الجاد والقناعة التامة سواء من أصحاب القرار أو من المتأثرين بهذا القرار من أفراد المجتمع.
من هذا المنطلق تفقد هذه الورقة صفتها البحثية والأكاديمية لتمثل ورقة عمل يندرج تحتها عرض الإجراءات العملية الواجب تنفيذها حتى تنتقل الكلمات والدعوات والتمنيات إلى واقع ملموس وعمل محسوس سواء فى المناهج المعمارية والتخطيطية أو فى القرارات واللوائح التنظيمية أو فى البحث والتأليف والنشر أو فى الهياكل التنظيمية للإدارات المسئولة عن المدن القديمة أو الجديدة، وذلك باعتبار أن الدعوة إلى الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية هى دعوة شاملة لا يتقيد بها المعماريون أو المخططون ولكن يحتضنها أصحاب الفكر والفن والأدب كما يؤمن بها أصحاب القرار فى البناء والتشييد سواء على المستوى العام أو المستوى الخاص.

2- الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية من خلال التعليم المعمارى والتخطيطي:-
لقد أجمع المفكرون على أن التعليم المعمارى فى الدول العربية قد تأثر كثيرا بالفكر المعمارى الغربي سواء بطريق مباشر أو غير مباشر من خلال الأساتذة الذين يكملون دراساتهم بالخارج للحصول على درجات أعلى كالماجستير أو الدكتوراه أو من خلال الكتاب والمجلة التى تنقل الفكر المعمارى الغربي مباشرة للمتلقى العربي، هذا مع العلم بأن الفكر المعمارى الغربي لا ينتقل من الغرب إلى الشرق منفصلا عن القيم الحضارية الأخرى بل ينتقل معها متغلغلا بذلك فى وجدان إنسان المدينة العربية.. فى عاداته وتقاليده وسلوكياته، فى مأكله ومشربه، فى زيه وإسلوب حياته حتى أصبحت اللغة الأجنبية هى لغة التعبير المعمارى والتخطيطي عند الأساتذة والدارسين. وإذا كان البعض لا يجد ضررا فى ذلك أسوة بالمعماريين المسلمين من غير العرب الذين يتحدثون باللغات الأجنبية ولهم عذرهم لأنهم فقدوا لغتهم الأم وخضعوا للغة الغير.. ومع ذلك فقد أدركوا هذه الحقيقة وجعلوا من اللغة العربية – لغة القرآن- هى لغتهم الثانية لتكون لغتهم الأولى بعد ذلك.. فهي الأبقي للمسلمين من اللغات الأخرى حضاريا وثقافيا.. وبالمثل بدأ بعضهم فى العودة إلى اللغة المعمارية الأم المتمثلة فى مفردات وجمل تراثهم المعمارى الأمر الذى لابد وأن ينعكس على العملية التعليمية فى مجال العمارة والتخطيط العمرانى، سواء فى دراسة تاريخ النظرية المعمارية فى العالم العربي منذ فجر التاريخ حتى العصر الحديث بعيدا عن الخط الحضاري الغربي الذى يبدأ من اليونان ثم الرومان ثم العصور الوسطي ثم عصر النهضة فى عصر الثورة الصناعية حتى العصر الحديث بما فيه من معماريين ومخططين صاغوا نظرياتهم بما يتلاءم مع متطلباتهم المعيشية وخصائصهم البيئية والاقتصادية والاجتماعية، وبقى المعماريون العرب متلقون لكل ما يقدمه لهم الغرب من فكر، ففقدوا بذلك ثرائهم وتراثهم. فالدعوة هنا للأصالة هى دعوة للتقدم وليست دعوة للتخلف، هكذا يراها الغربيون أيضا.
إن إدخال موضوع الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية فى المناهج المعمارية والتخطيطية لا يقتصر على مادة تاريخ النظرية المعمارية للمدينة العربية بل يتعداه إلى مادة النظرية المعمارية نفسها بعيدا عن النظريات الغربية التى لا تزال تتغلغل فى المناهج المعمارية بالرغم من عدم جدواها التطبيقي فى المشروعات المعمارية، كما تغطى المناهج أيضا مواد إنشاء المبانى المرتبطة بالبيئة المحلية من ناحية وبالمشاركة الشعبية من ناحية أخرى، فالتركيز هنا على مادة عمارة العامة أكثر منه على عمارة الخاصة. وتمتد المناهج التعليمية لتغطى أيضا مادة التنمية العمرانية فى المجتمعات العربية ومادة تكنولوجيا البناء المتوافقة مع المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية ومادة البحث فى العمارة المحلية مع مادة نظم ولوائح البناء ومادة إدارة المدينة ومادة الثقافة المعمارية التى تعالج العمارة فى الإطار الثقافى المتكامل للمجتمع من فنون وآداب واجتماع، ضف إلى ذلك مادة التشكيل المرئي المرتبطة بالموروث من التشكيلات الفنية والعمارة ثم مادة اقتصاديات البناء ومادة الارتقاء بالبيئة العمرانية فى الريف والحضر، ومادة الحفاظ على المبانى التراثية وثائقياً ومعمارياً.. ومادة تنسيق المواقع الذى يستمد جذوره من تنسيق الفراغات الداخلية أكثر منه للفراغات الخارجية مع ما يرتبط بكل هذه المواد بالتقنية الإنشائية والتجهيزات الفنية وخصائص المواد ومصادرها المحلية أكثر من مصادرها الخارجية، ثم هناك الرفع المعمارى الذى يتم للموروث المعمارى الضخم الذى تضمه المدينة العربية.

وليس الهدف هنا هو التسمية الجديدة أو المناسبة للمواد التى تدخل فى مناهج التعليم المعمارى والتخطيطي ولكن الأهم هو تحويل هذه المسميات إلى المحتوى العلمي لكل مادة وإسلوب تدريسها بحيث تتكامل فى المادة التصميمية التى يقوم بها الطالب فى مراحل تطوره العلمية، بحيث تتكامل هذه المواد ولا تنفصل عن بعضها فى المشروعات التطبيقية، والعملية التعليمية هنا تعتمد على إتقان الحرفة من ناحية وإثراء الموهبة من ناحية أخرى. فالعمارة فن وعلم ولكل طالب محدودياته الاستيعابية فى كلا الجانبين الأمر الذى يجب تداركه فى العملية التعليمية بإعطاء الحرية للطالب فى الاختيار بين المواد العلمية خاصة فى السنتين الأخريين من المناهج الدراسية، والمهم هنا هو قناعة القائمين على العملية التعليمية فى المجال المعمارى والتخطيطي وتقبلهم للتغيير والتطوير واستعدادهم لنبذ النظريات الأجنبية واستبدالها بالنظرية المحلية التى تزخر بالقيم الجمالية لعمارة العامة من الناس وليس عمارة الخاصة منهم، وهذه مهمة شاقة إلا على الباحثين والغيورين من أساتذة العمارة المؤمنين بالتغيير والتطوير، وطلبة العمارة والتخطيط العمرانى الذين يمثلون الشق الثاني فى العملية التعليمية التى تضم الأساتذة والكتاب، أما الكتاب فيدخل فى إطار التأليف والنشر المعمارى.

3 – الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية من خلال حركة التأليف والنشر المعمارى والتخطيطي:
تعتبر حركة التأليف والنشر المعمارى والتخطيطي هى الحركة لعملية التطوير العلمي لمناهج التعليم المعمارى والتخطيطي وحتى يكون للفكر العربي والإسلامي فى هذا المجال مراجعه العلمية الموثقة وحتى يزيد المخزون التشكيلي عند المعماريين العرب ويقل تدريجيا الاعتماد على المراجع الأجنبية إلا بما يرتبط بالجوانب التقنية. هذا هو الوقت الذى تعانى فيه المكتبة العربية ضمورا كبيرا فى مجال التأليف والنشر سواء فى الاتجاه النظري أو الاتجاه التطبيقي. وإذا كان هناك عدد من مراكز البحوث فى الإسكان والبناء والتخطيط إلا أن نتاج هذه المراكز لا يزال حبيس الأدراج لم يجد طريقه إلى قاعات الدرس والتصميم والتخطيط، كما لم يجد طريقه إلى ما ينفذ من مشروعات عمرانية على المستويين الرسمى أو الخاص، وأصبح البحث عن الطريق إلى الدكتوراه أهم من البحث عن الطريق للارتقاء بالبيئة العمرانية للمدينة العربية بالفكر واللوائح ودلائل الأعمال والتدريب والتجارب. فهبط بذلك المستوى العلمي للمعماريين العرب الذين يلجأون غالبا إلى المراجع الأجنبية ليستقوا منها ما فيها من علم لا ينفع البيئات الإسلامية والعربية بل يزيد من مساحة الغزو الثقافى لها.
إن مسئولية التأليف والنشر هنا تقع فى المقام الأول على أساتذة الجامعات المنشغلين بالدرس والتعليم. كما هى مسئولية الجهات المسئولة عن نشر الثقافة وهى أيضا مسئولية المعاهد والمنظمات المتخصصة فى العالم العربي، وإذا كان بعضها يشجع التأليف والنشر بتقديم الجوائز والحوافز , إلا أن عملية التأليف والنشر تحتاج إلى تمويل كبير لا يقدر عليه المؤلف أو الناشر خاصة إذا كان للكتب المعمارية والتخطيطية مستواها المرتفع من الإخراج والطباعة. إن الزائر إلى معارض الكتب العربية يشاهد الفرق الهائل بين ما تقدمه المطابع للأدباء والمفكرين فى مجالات الأدب والتاريخ والفنون والعلوم والتراث، وما تقدمه فى مجال العمارة والتخطيط اللهم إلا لفئة من أدعياء العلم من المهندسين وأساتذة الجامعات الذين يترجمون ما يستطيعون من كتب الغرب أو ما ينقلونها روحا ونصا ويضعون عليها أسمائهم دون احترام لحقوق التأليف أو النشر، الأمر الذى يزيد من هبوط المستوى الفكري عند المعماريين فمنهم من يصدر كتبا لأنماط للمساكن من العمارة الغربية يقدمونها إلى المعماريين والقراء للاسترشاد بها فى تصميم مبانيهم الخاصة، والإعلام المعمارى هنا عاجز على التصدي لهذه الظاهرة أو لغيرها من الأنشطة التى تعمل على هبوط المستوى العلمي والفكري لدى المعماريين العرب.
وإذا كان قلة من المعماريين فى العالم العربي قد أخذوا على عواتقهم التصدي لهذه الظاهرة بنشرهم بعض الكتب الجادة سواء باللغة العربية لحسابهم الخاص أو باللغة الإنجليزية لحساب دور النشر الغربية إلا أن هذه الكتب لا تزيد عن أصابع اليدين فى الوقت التى تضيق المكتبة الغربية بالكتب والمراجع الجديدة والمتجددة بتجدد الحركة المعمارية فى بلادها، هذا بالإضافة إلى ما يصدر عنها من العديد من المجلات المعمارية والتخطيطية تقابلها فئة قليلة جدا من المجلات المعمارية العربية .
إن تحقيق الحفاظ على الشخصية الحضارية للمدينة العربية يتطلب قيام أحد المؤسسات العلمية العربية باحتضان هذا المجال من مجالات التأليف والنشر المعمارى والتخطيطي وتدعو إليها من لديه القدرة على العطاء وتوفر له كل الإمكانيات المادية والأدبية لإخراج أمهات الكتب للمعماريين والمخططين العرب. وبدون ذلك تبقى الحالة كما هى عليه وتفقد المدينة العربية شخصيتها الحضارية.

4 – الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية من خلال دلائل الأعمال:
مع الرغبة الشديدة عند بعض المسئولين عن المدينة العربية للحفاظ على خصائصها الحضارية ومع الرغبة الشديدة عند بعض المعماريين العرب لتحقيق نفس الهدف الذى تدعو إليه المؤتمرات والندوات وتقدم عنها النماذج والمحاولات إلا أنه يبقى أن يستند الجميع إلى الكيفية التى يمكن بها تحقيق هذه الأهداف، فالمعمارى بطبيعة تكوينه الفكري ينحو نحو الفردية فى التعبير ولا يقبل التوجيه إلى خلاف ما يتصوره كما أن الإنسان العربي بطبيعة تكوينه الاجتماعى ينحو نحو الفردية الشخصية وهو هنا يلتقى مع المعمارى فى التمسك بالفردية حيث يتبارى فى إظهار الفردية فى العمارة فالمعمارى يغرى صاحب العمل بأنه يقدم له ما لم يقدمه أحد غيره، بل يتباهى بعض المعماريين بأنهم دائمى البحث عن تشكيلات معمارية جديدة وفى المجلات الأجنبية ضالتهم المنشودة دائما فهى بالنسبة لهم مصدر الإلهام. وهناك من المعماريين من يلتزم بمنهج خاص لا يريد أن يتزحزح عنه سواء فى القناعة بالعمارة العالمية أو فى القناعة بالعمارة العربية الإسلامية، الأمر الذى يصعب معه الوصول إلى صيغة مشتركة بين المعماريين لإضفاء الطابع المعمارى على المدينة، كما أنه من الصعب الوصول إلى صيغة مشتركة بين مهندسي تراخيص البناء وليس كلهم من المعماريين لتقويم التصميمات التى تقدم لهم خاصة بالنسبة للشكل أو الطابع. ويزيد من هذه الصعوبة اختلاف المستويات الاقتصادية والاجتماعية للسكان ومن ثم للعمارة سواء فى الأحياء الراقية أو المتوسطة أو الفقيرة الجديدة منها والقديمة. ومنها العمارة الرسمية أو العمارة الفردية.. ومنها العمارة فى المناطق الهامة من المدينة ومنها العمارة فى المناطق المختلفة.. ويزيد من هذه الصعوبة مرة ثالثة إمكانية تحقيق التوجيهات التى تصدر إلى المصممين ومن يضمن تنفيذها فى الواقع العملي.. وهل توجد العمالة أو المواد التى تضمن تنفيذ هذه التوجيهات ؟ . وهل يدخل ذلك عاملا مؤثرا فى اقتصاديات البناء خاصة فى عمارة الغالبية العظمى من محدودى الدخل؟ .. كل هذه التساؤلات لابد من الإجابة عليها فى صورة دلائل للأعمال تكون مرجعا لدى المصمم من ناحية ومهندس التراخيص من ناحية أخرى، وهذه الدلائل لابد وأن تحظى بأكبر قدر من الاتفاق العام حتى يمكن إستصدار التشريع الذى يضمن تنفيذها.
ويمكن إعداد دلائل الأعمال من المفردات المعمارية التى تظهر من واقع التجارب المعمارية المتميزة التى يسعى أصحابها لإضفاء طابع معمارى خاص فى مكان خاص ولمجتمع خاص. وهنا يمكن الاستفادة من البحوث والدراسات التى تقدم فى هذا المجال. فليس المهم أن يقدم الباحث بحثا علميا أكاديميا، ولكن الأهم أن يتوخى الباحث الواقعية فى تنفيذ أفكاره ومرئياته. وليس المهم أن يقدم المعمارى تجاربه وخبراته فى هذا المجال، ولكن الأهم أن يوضح مدى إمكانية تطبيق هذه التجارب فى المستويات المختلفة للإسكان أو المبانى العامة بصورة واقعية بعيدا عن العاطفة أو الرومانسية. فجدية البحث هنا لا تقتصر على إظهار الإمكانيات الشخصية للباحث فى العمل ولكن أيضا على إمكانية تحقيق المجتمع للنتائج التى يتوصل إليها. فالبحث هنا ليس عملا فرديا بقدر ماهو هدف إجتماعى.

لقد لجأت بعض المدن فى الدول الغربية التى تتميز بطابع معمارى خاص إلى إصدار دلائل عمل خاصة بالطابع المعمارى فيها يلتزم به المعماريون المصممون ومهندسى التراخيص. وتوضح هذه الدلائل المفردات المعمارية ومواد البناء وأساليب المعالجات الخارجية مع توفير الحرية الكاملة للإبداع فى التصميم – وهذه صيغة من صيغ التوسطية التى يدعو إليها الإسلام – فلا حرية مطلقة ولا قيود مطلقة.. ولكن حرية فى إطار القيود التى يحددها القرآن والسنة المحمدية أو ترضى عنها جماعة المسلمين. والعمارة كغيرها من جوانب الحياة الأخرى تخضع إلى القاعدة التوسطية كما تخضع إلى قاعدة لا ضرر ولا ضرار. وهنا قد تظهر صيغة جديدة لعمارة المسلمين تجمع بين الفردية والجماعية: وهى أن العمارة من الداخل ملك للفرد ومن الخارج ملك للمجتمع. من هذا المنطلق يتوجه الفكر المعمارى فى التصميم الأمر الذى يمكن إيضاحه فى دلائل الأعمال المعمارية والتخطيطية وإلا يصعب تحقيق الهدف من الحفاظ على الشخصية الحضارية للمدينة العربية. والحفاظ هنا ليس بمفهوم المحافظة أو التقيد بنصوص العمارة التاريخية ولكنه بمعنى الحفاظ على القيم الحضارية المستخلصة منها فى ضوء المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية.. ويعنى ذلك الاستمرارية والتقدمية. وتوضح دلائل الأعمال المعمارية والتخطيطية الكيفية العملية للتعبير عن هذه القيم.
ويبقى التساؤل عن من يضع هذه الدلائل لكل مدينة من المدن العربية وهذا ما نلقى به على معهد إنماء المدن العربية للإجابة عليه أو على غيره من المنظمات العربية التى ترعى العلوم والثقافة المعمارية.

5 – الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية من خلال تبادل الخبرات والمعارض الدورية:
كثيرا ما يتحدث المعماريون العرب عن الأصالة والمعاصرة.. وعن الطابع والشخصية فى كلمات نظرية فضفاضة دون أن يكون لها مضمون عملي يبرز من واقع التجربة والإنتاج المعمارى والتخطيطي. وإذا كان هناك قلة قليلة من المعماريين العرب ممن إلتزموا بالمنهج الإسلامي أو المحلى فى العمارة، ولهم فى ذلك تجاربهم ومشروعاتهم فلا أقل من إجتماعهم لتقدير أعمالهم بالكلمة والصورة.. فى ندوة مصحوبة بمعرض معمارى يتنقل بين المدن العربية يزوره المعماريون والمواطنون معا.. حتى يلتقى الفكر المعمارى بالفكر الاجتماعى. فالتوعية هنا لا توجه للمعماريين والمخططين بقدر ما توجه إلى المجتمع إذا إعتبرنا أن العمارة هى إفراز إجتماعى فى المقام الأول.
وإذا كان للعالم إتحاد للمعماريين يرعى مثل هذه اللقاءات والمعارض والمسابقات فلا أقل من أن يكون للمعماريين العرب إتحاد يرعى لقاءاتهم ومعارضهم ومسابقاتهم.. فالمعماريون العرب لا يزالوا متخلفين عن الركب العالمي فى هذا المجال. وإذا كان للفنانين التشكيلين من يرعى لقاءا تهم ومعارضهم فى العالم العربي فالأجدى أن يلقى المعماريون العرب نفس الرعاية والاهتمام، والمبادرة دائما ما تأتى من المنظمات العلمية والثقافية التى تستطيع تنظيم وتمويل مثل هذه اللقاءات والمعارض. ونحن هنا لا نريد أن نثقل على منظمة المدن العربية فهي الجهة الوحيدة فى العالم العربي التى بدأت هذا النشاط فى تنظيمها للجوائز المعمارية للمشروعات المعمارية والتراث المعمارى والمهندس المعمارى. فلا يبقى إلا وضع ما توفر لديها من نماذج معمارية فى صيغة موحدة تصلح للمعرض المتنقل بحيث تستضيف كل عاصمة أو مدينة هذا المعرض وتقوم بالدعاية له ورعايته لفترة محددة من الزمن سنويا.. وهناك من المعماريين من لديهم الإستعداد للمشاركة بأعمالهم فى هذه المعارض كما شاركوا بها فى معارض دولية خارج الوطن العربي ومع كل معرض كتيب خاص يجمع ما يعرض فيه من أعمال يظهر فى طباعة أنيقة ويوزع على رواد المعرض، وهو ما يمكن أن تتولى تمويله كل مدينة عربية من باب الدعاية والإعلام.. أو وزارات الثقافة التى ترعى الموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية ولا تعطى العمارة أدنى رعاية أو عناية. ومنظمة المدن العربية هنا هى المحرك الوحيد لهذه الحركة الفكرية على مستوى العالم العربي بإمكانياته الثقافية والحضارية والمعمارية والفنية.
6 – الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية من خلال اللوائح والتشريعات:-
مع كل ما ينتج عن تطور العملية التعليمية فى العمارة والتخطيط العمرانى ومع كل ما يقدم من فكر فى التأليف والنشر ومع كل ما يظهر من دلائل للأعمال المعمارية والتخطيطية ومع كل ما يعرض من إنتاج معمارى أو تخطيطى. يبقى التنفيذ معلقا باللوائح والتشريعات التى توضع لوضع كل ذلك فى حيز التنفيذ، وهنا يمكن الدور السياسى والثقافي لمتخذى القرار ليس من المعماريين أو المخططين ولكن فى الأجهزة والمجالس المحلية، فقد إتخذت بعض المجالس المحلية فى مدينتين (الإسماعيلية و أسوان) فى جمهورية مصر العربية قرارا بعدم منح تراخيص للبناء إلا إذا إلتزم التصميم بالطابع المعمارى المحدد لكل مدينة. وكانت البداية لوضع الأسس الفنية لتحديد هذا الطابع. وذلك بعد قناعة أعضاء المجالس المحلية بأن الطابع ليس مجرد إتجاه ثقافى أو جمالى ولكن له مردوده الاقتصادى فى الجذب السياحى كما له مردود إجتماعى فى إلتزام المجتمع بالقيم العامة التى تجمعه وتؤكد شخصيته وإعتزازه وإنتمائه بالبيئة التى يقيم فيها.
إن التشريعات العمرانية لا تصدر إلا إذا صحبتها اللوائح التنفيذية سواء فى قوانين التخطيط العمرانى أو قوانين المبانى – الأمر الذى يتطلب مراجعة من أصحاب البحوث والدراسات عن مدى ملاءمة التشريعات العمرانية والمعمارية القائمة فى تأكيد الشخصية الحضارية للمدينة العربية خاصة وأن معظم هذه التشريعات وضعت مستقاه من التشريعات التى وضعت للمدن الغربية والتي تختلف عن المدن العربية بيئيا وإقتصاديا وإجتماعيا. وأول هذه التشريعات ما يرتبط بنظرية المجاورة السكنية وطبيعتها الإسلامية فى وحدة الجوار. وثانى هذه التشريعات ما يرتبط بتقسيم الأراضى ونظم البناء بما يساعد على توجيه المبانى إلى الداخل أكثر منه للخارج.. ويسوى بين الارتفاعات ويفاضل بين المساحات تبعا للإمكانيات الاقتصادية للفرد وذلك بهدف عدم التطاول فى البنيان لمن لديه القدرة المالية ومواجهة ذلك بالبناء على مسطح أكبر لقطع الأراضى مع الإلتزام بالتجانس فى الارتفاع. وهذه هى الصبغة التى تميزت بها المدينة الإسلامية. ويمكن أن تتوحد التشريعات العمرانية التى تحافظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية لتطبق على كافة المدن العربية بحيث يكون الاختلاف المرتبط بكل مدينة فى اللوائح التنفيذية لهذه التشريعات. فهناك وحدة التشريع مع اختلاف أساليب التنفيذ، الأمر الذى يربط بين الخصائص الحضارية للمدينة العربية ويمد بين بعضها البعض فى التفاصيل التخطيطية والتصميمية.
ويبقى التساؤل هنا أيضا عن مسئولية وضع هذه اللوائح أو على الأقل أطرها العامة بحيث يمكن لكل مدينة أن تضع لها لوائحها التنفيذية. الدعوة هنا موجهة أيضا لمنظمة المدن العربية كما هى موجهة لمنظمة العواصم والمدن الإسلامية ثم للمجالس المحلية والتنفيذية للمدن. الأمر الذى يتطلب ندوة علمية خاصة بهذا الشأن تقدم فيها الصيغ التشريعية المختلفة لبناء المدينة العربية المعاصرة تخطيطيا وتصميميا وإداريا فكلما تقيدت الندوة بموضوع محدد بعدت الأوراق المقدمة إليها عن العمومية.
7 – الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية من خلال إنشاء هيئات لتطوير المناطق الأثرية:-
تحتاج اللوائح والتشريعات التى تنظم المدينة العربية بحيث تحافظ على خصائصها الحضارية إلى الأجهزة القادرة على تنفيذها ومراقبتها ومتابعتها وتقويمها بين الحين والأخر وهذا ما تفتقر إليه المدن العربية. إن إصدار الكتب والمجلات وإعداد دلائل الأعمال وتطوير العملية التعليمية لابد وأن يكون لها صداها على المستوى التنفيذي فى نطاق الهياكل التنظيمية لهذه الأجهزة الأمر الذى يتطلب برامج خاصة بتدريب الكوادر المختلفة والإرتقاء بها لمواجهة هذه المتطلبات الحضارية. فقد تعرضت المدينة العربية إلى العديد من البحوث والدراسات من قبل المكاتب الاستشارية الغربية، ولم تترك فيها الأجهزة القادرة على تحقيق نتائج هذه البحوث وهذه الدراسات والإستمرار بها وتقويمها بين الحين والأخر وذلك حتى يكون للفكر الغربي اليد العليا دائما فى تقديم المعونة والاستشارات الفنية للدول النامية.
وإذا صح هذا الإتجاه بصفة عامة لتطوير إدارات المدن العربية فإنه من الأجدى أن يطبق على تنمية المناطق الأثرية فيها والمحافظة على آثارها القديمة التى تعد ثروة حضارية كما هى ثروة حضارية كما هى ثروة إقتصادية وثقافية فى نفس الوقت. ويمكن مراجعة هذا الإتجاه فى الهيئات المناط بها تطوير المناطق الأثرية فى كل من فاس بالمغرب وصنعاء باليمن. سواء من الناحية التنظيمية أو المالية أو الإدارية أو الفنية.. ومدى كفاءتها حتى تكون مرجعا للمدن العربية التى تسعى إلى الحفاظ على مناطقها الأثرية، إذا أن تداخل الاختصاصات بين وزارات الأوقاف وهيئات الآثار وأجهزة المحافظة والأملاك والهيئات المسئولة عن النقل والمرور والمرافق والخدمات العامة يعيق عجلة التنمية العمرانية للمناطق الأثرية، الأمر الذى أدى ويؤدى إلى إستمرار تدهورها وتداعى مبانيها الأثرية سنة بعد أخرى والقاهرة القديمة شاهد على ذلك. الأمر الذى يستدعى إنشاء هيئات خاصة بتطوير هذه المناطق تنقل إليها إختصاصات وزارات الأوقاف وهيئات الآثار والتنظيم والمرور والخدمات والمرافق العامة بحيث يكون لها إختصاصاتها الإدارية والتنظيمية ومصادرها التمويلية وكوادرها الفنية بحيث تعمل متحررة من الروتين والمعوقات الإدارية والمالية، ويكون لها كل الصلاحيات التى تضمن الإرتقاء بهذه المناطق والحفاظ على مبانيها التاريخية سواء من الناحية المعمارية أو الاستثمارية أو السياحية وذلك على أسس الجدوى الاقتصادية. وهذا هو الإتجاه السائد فى معظم مدن الدول المتقدمة التى تسعى إلى تطوير المناطق المتخلفة بها.
وحتى يمكن نقل هذه التمنيات إلى الحيز التنفيذي فى المدن العربية المختلفة فإن لمنظمة المدن العربية دورا هاما فى هذا المجال وهو إعداد دراسة متكاملة عن تنظيم وإدارة مثل هذه الهيئات فى ضوء التجارب الجارية فى صنعاء وفاس وفى ضوء ما يتم فى غيرها من مدن العالم ثم تقديم هذه الدراسة مع توصياتها بالمساهمة والمعونة الفنية لإنشائها فى المدن العربية حتى تكون دافعا للأجهزة القائمة على هذه المدن والمسئولين فى دولهم لتبنى هذا الاتجاه العملى الذى يضمن الحفاظ على تراث المدينة العربية فى مناطقها الأثرية. وربما يتم طرح هذه الدراسة المتكاملة فى ندوة خاصة يحضرها المختصون والمتخصصون والمسئولون عن التطور العمرانى للمدن العربية.
إن النظرية الفكرية تفقد مضمونها إذا لم تتحول إلى إسلوب للعمل التنفيذي الذى يستطيع أن يحقق أهدافها. إن الدراسة تفقد صلاحيتها إذا لم تتطرق إلى البعد العملى أو التنفيذي الذى يحقق نتائجها.

  • الخلاصة:

لقد عالجت ورقة العمل بهذه الصورة بواقعية شديدة الموضوعات التى تؤثر على الشخصية الحضارية للمدينة العربية وذلك من خلال المجالات التالية
1 –   تطوير العملية التعليمية فى العمارة والتخطيط العمرانى.
2 –   دفع حركة التأليف والنشر المعمارى والتخطيطي.
3 –   إعداد دلائل الأعمال المعمارية والتخطيطية.
4 –   تنظيم الندوات والمعارض المعمارية والتخطيطية.
5 –   مراجعة التشريعات التخطيطية والعمرانية.
6 –   إنشاء الهيئات الخاصة بتطوير المناطق التاريخية.

وإذا كانت ورقة العمل بهذه الصورة موجهة إلى ندوة علمية فهي تخرج عن مفهوم البحث العلمي أو الفنى لتدخل فى صلب المواجهة الواقعية للموضوع. وإذا كانت هذه الورقة معدة للمشاركة فى هذه الندوة إلا أنه يمكن إعتبارها موجهة إلى منظمة المدن العربية من خلال التوصيات التى تصدر بشأنها فى هذه الندوة حتى تتولى المنظمة وضع الخطوات المناسبة لتنفيذ ما جاء فيها من مناهج عملية أو خطوات تنفيذية حتى يكون للحديث عن الحفاظ على الخصائص الحضارية للمدينة العربية مضمونه العملى الواقعى بعيدا عن النظريات والتمنيات القلبية.. والله الموفق.

word
pdf