الدراجة البخارية والتكتيك لحل مشكلة المواصلات

الدراجة البخارية والتكتيك لحل مشكلة المواصلات2019-12-02T11:19:07+00:00

الدراجة البخارية والتكتيك لحل مشكلة المواصلات

   دكتور عبد الباقي إبراهيم

الأهرام الاقتصادى 20/9/1993

 

إذا كانت الدراجة العادية هى وسيلة الإنتقال الشعبية فى المدن الصينية. يستعملها الكبار والشباب على حد سواء بهدف توفير الطاقة بما يتناسب مع قدراتهم المالية مع إعطائهم شحنة كبيرة من النشاط اليومى .. فإن الدراجة البخارية هى وسيلة الإنتقال الشعبية فى دول النمور السبع يستعملها الفتيات والفتيان وهم يلبسون دروع وقاية الرأس كما تنص عليه اللوائح الأمنية ويسيرون بنظام جميل لاضوضاء فيه ولا إزعاج .. وهكذا تحاول هذه الدول وهى فى مرحلة إنطلاقها الحضارى السريع أن توفر من الطاقة المحركة .. وتزيد من الطاقة الإستيعابية للطرق وتحافظ على البيئة من التلوث .. وتعطى هذه الدول تسهيلات كثيرة للحصول على هذه المركبات وهكذا تنظم هذه الدول من شئونها حتى وصلت إلى ما هى عليه الآن كقوة إقتصادية ثالثة فى العالم ما تلبث أن تكون القوة الأولى بعد انضمام الصين إليها ..

وإذا كانت الدراجة البخارية تحمل فرداً أو فردين فهناك من الوسائل الأخرى ما يحقق هذه الغاية ويخدم من لا يملكون سيارات أو دراجات وهى تحويل الدراجة البخارية حتى يتوفر خلفها مقعد لأثنين تظللهم مظلة من أشعة الشمس أو من المطر.. وهى أيضاً وسيلة رخيصة ولا تستقطع حيزاً من الشارع كما تستقطع السيارة العادية ويمكنها أن تدخل الأزقة والحوارى الضيقة دون عناء أو مشقة ـ يسمونها فى تايلاند التكتك ـ هذه شعوب تعرف طريقها للتقدم .. وقد نجحت وتقدمت .. وتلعب القدوة هنا دورها فى توجيه الشعوب بلا فرق بين موظف كبير أو صغير فى إستعمال هذه الوسائل البسيطة .. فأستاذ الجامعة يصل إليها على ظهر دراجته البخارية وهكذا يتبعه تلاميذه .. فلا نجد هذا الكم الكبير بين السيارات الخاصة بالطلبة حول الكليات وخارج الجامعات .. ولكن نجد كماً كبيراً من الدراجات والدراجات البخارية .. ولا نجد تسيب شباب المدينة بسياراتهم الخاصة فى الشوارع العامة وكأنهم فى حديقة “ملاهى” ليس لها صاحب، نظاماً وانتظاماً فى الشارع بلا ضوضاء .. فمتى يدرك الشباب فى مصر هذه الحقيقة.. ومتى يعمل المجلس الأعلى للشباب على تقديم النماذج المشرفة التى يقوم بها شباب الدول المتقدمة فى جنوب شرق آسيا.. وبدلاً من أن نرسل بعثاتنا الشبابية إلى دول الغرب ليعودوا منها بأنماط استهلاكية غريبة عنا ولا تتناسب مع قدراتنا .. فلماذا لا نرسلها إلى دول النمور السبع ليروا كيف انتقلوا من فصيلة القطط والفئران إلى فصيلة النمور والفهود ..هناك المثل الذى ليس فيه أى خلفيات سياسية أو إستعمارية.. بل تربطنا به روابط حضارية وثقافية ودينية قوية لقد آن الآوان أن نعطى ظهرنا للغرب قليلاً لنطلع إلى الشرق إلى دول النمور السبع ..

إن التوسع فى إستعمال الدراجات والدراجات البخارية لا يوفر فقط فى إستهلاك الطاقة ولا يزيد فقط من الطاقة الإستيعابية للطرق.. ولا تتحرك فقط فى الشوارع الضيقة ولا تعلم الشباب رياضة الركوب ولكنها أيضاً سوف توفر كثيراً من مسطحات المواقف فى الجراجات العامة أوالخاصة.. بعد أن تحولت شوارعنا إلى جراجات مكشوفة تحتلها السيارات فى صفوف متراصة وقد طغت فى بعض الأحيان على أرصفة المشاة .. والشوارع فى واقع الأمر مرفق عام ملكاً للدولة فليس من العدل أن يحتل جزءاً منه فرد دون الآخر .. وإذا كانت الظروف قد حكمت بذلك بسبب سوء التصرف أو سوء التخطيط الذى أصاب المدينة المصرية فلماذا لا تؤجر الدولة شوارعها لأصحاب السيارات التى تقف فى هذه الشوارع طوال ساعات الليل .. وهم قادرون على دفع الإيجار المناسب لإيواء سياراتهم فى الجراجات العامة أوالخاصة إذا توافرت.. ولن تتوفر إذا ما ترك الحال على نفس المنوال .. إن تأجير الدولة لشوارعها لإيواء السيارات ليلاً يمكن أن يكون من إختصاص الأجهزة المحلية شريطة أن يتوفر لهذه السيارات الحراسة الليلية والعناية التنظيمية .. بحيث يكون لكل سيارة مكانها وعليه رقمها .. ولكل شارع حراسة.. وأصحاب السيارات سوف يرحبون بهذا الإتجاه إذا ما جرب فى بعض الأحياء.. فمن هو صاحب القرار الجرىء الذى يبدأ بالمبادرة. وإذا وجد أصحاب السيارات من الشباب والشابات غضاضة فى دفع الرسوم فعليهم بالدراجة البخارية التى تتمتع بالمجانية كما تتمتع بقلة الوقود والإعفاء من نصف الضريبة السنوية .. وليتجه الشباب إلى هذا النوع من وسائل الإنتقال دون حرج أو خجل فقد سبقتهم أمم أصبحت فى مصاف الدول المتقدمة.. وإذا كان الشباب حريصاُ على الإرتقاء بالمستوى الحضارى الذى يعيش فيه ويبنى فيه مستقبله فلا أقل من أن يوفر من إنفاقه فى هذا الجانب من متطلبات الحياة ليس فقط فى التوفير فى قيمة الوقود ولا فى مكان الإيواء ولا فى ضريبة السير ولكن أيضاً فى التشغيل والصيانة .. وليوجهوا مدخراتهم بعد ذلك إلى ما ينفع من متطلبات الحياة .. إلى مسكن صغير يأوى اليه أو إلى توفير البيئة الصالحة لاولاده.. واذا كان الشباب سواء الموظف منهم أوالعامل أوالطالب يحاول أن يطور من نفسه فعليه مراجعة أولويات متطلباته وحساب تكاليف إنتقالاته .. فالدراجة البخارية هى وسيلة الإنتقال المثلى ويمكن تطويرها بإضافة مقعد لإثنين مع مظلة لتأجيرها والتكسب منها. وإذا لم يتوافر ذلك للشباب فليجتمع عشرة شبان ليقيموا هذه الفكرة ويعيدوا حساباتهم وهم بذلك سوف يفتحون مجالاً جديداً فى وسائل الإنتقال سوف تنافس التاكسى والأتوبيس ..

والمثال واضح فى دول النمور السبع، ولا تقتصر الدعوة هنا للشباب ولكن أيضاً إلى المحافظين المسئولين عن المدن المصرية بيئياً وحضارياً دعوتهم لتبنى هذا الإتجاه ومساعدة الشباب وفتح مزيد من الأبواب أمامهم .. توقفوا قليلاً عن النظر إلى الغرب وأنماطه الإستهلاكية وانظروا إلى الشرق لتروا إنجازاتهم الابتكارية .

 

بداية لابد من الإيضاح بأن الأصالة في مفهومها هي الحصاد الحضاري لتراث المجتمع ثقافيا واجتماعيا وعمرانيا على مدى التاريخ,  والمعاصرة هي النتيجة الحتمية للتفاعلات المستمرة للمقومات الحضارية للمجتمع والمرتبطة بحركة التاريخ حاملة ما تستطيع من الحصاد الحضاري لتراثه ومتأثرة بالبعد الجغرافي لموقع هذا المجتمع من المجتمعات الأخرى التي تؤثر عليه في موجات متلاحقة من المد والجذر الحضاري مترددة بين الضعف والقوة تاركة آثارها سلبا أو إيجابا تبعا لقدرة المجتمع على مواجهتها أو التفاعل معها أو الخضوع لها.

وهكذا تلتزم الأصالة بالمعاصرة في حلقات متتالية ومستمرة تدفع حركة المجتمع صعودا وهبوطا على مدى الزمان وفى بعد المكان لتظهر في العمارة والعمران كما تظهر في غيرها من المقومات الثقافية والاجتماعية للمجتمع.

والعمارة الإسلامية في تعريفها لم تعد تخضع إلى المقوم الشكلي أو التشكيلي كما يراها المستشرقون في عمارة العالم الإسلامي كمنطقة محددة المكان وفى   حقبة تاريخية محددة الزمان بقدر ما تخضع إلي المقوم العقائدي النابع من القيم والتعاليم الإسلامية التي لا تخضع إلى محددات للمكان أو الزمان. وتعرف العمارة الإسلامية بذلك بشقيها المتمثلين فى المضمون الملتزم بالعقيدة بمنهجها التوسطى اجتماعيا واقتصاديا وبالشكل المتوافق مع البيئة بأبعادها الطبيعية والحضارية. فلم يعد الرجوع إلى التراث المعماري إلا للاستلهام بالقياس أكثر منه للنقل أو الاقتباس.   وهكذا ترتبط الأصالة بالمعاصرة في العمارة الإسلامية في الحلقات المتتالية التي تدفع حركة المجتمع الإسلامي تقدما وصعودا إذا ما التزم بكل القيم العقائدية المنظمة لهذه الحركة الحضارية لخير أمة أخرجت للناس.

إن وصف العمارة بالإسلامية يلاقى تأييدا من البعض الذي يصر على ربط الإسلام بأشكال معمارية معينة ظهرت في فترة تاريخية محددة وفى مكان معين وذلك من منطلق التمجيد بالقضية الإسلامية.  وفى الوقت الذي تعتبر فيه العمارة الإسلامية عاملا موحدا للثقافات الإسلامية المختلفة،  نجد أن كل عمارة للمسلمين ليست بالضرورة إسلامية المضمون،  وهذه حقيقة يتجاهلها الذين يقدرون حقيقة العمارة الإسلامية،  ويحاولون تفسير “مباني المسلمين” على أنها إسلامية كما يتجاهلها هؤلاء الذين لا يجدون شيئا إسلاميا في بعض مباني المسلمين ويرفضون أي قاعدة إسلامية للعمارة كلية.

ويتساءل البعض عن مصير الاهتمام الحالي بالعمارة الإسلامية وهل ينتهي إلى نمط متجمد للعمارة في كتالوج القباب والعقود أم سيؤدى في النهاية إلى إعادة الاكتشاف للقواعد النظرية لهذه العمارة،  الأمر الذي يتطلب قدرا وافرا من الشجاعة للسباحة عكس التيار،  وصبرا على مواصلة البحث وقناعة كاملة بالموضوع،  الأمر الذي تضمنه كتابنا عن المنظور الإسلامي للنظرية المعمارية من واقع العقيدة الإسلامية نفسها وليس من الواقع التشكيلي أو الرمزي.

لقد بنيت الحضارة الإسلامية على مبدأ “الوسطية”   قال تعالى في سورة البقرة    ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا….” وإذا كانت الوسطية هي المبدأ الذي ينظم حياة الإنسان فلا أقل من أن تكون هي المبدأ الذي ينظم العمران على مر الزمان.  والوسطية في العمارة يمكن اعتبارها مقياسا للكم والكيف في العمل المعماري تطبق على المعايير التصميمية التي تتناسب مع متطلبات المجتمع الإسلامي كما تطبق على قدرة الإنفاق من خلال الجدوى الاقتصادية للمنشأ كما تطبق الوسطية أيضا في استعمال الزخرف إذا تطلب المقام وفى استعمال التقنية المتوافقة النابعة من البيئة وقدرة المجتمع على الإنتاج والبناء. وهكذا تصبح الوسطية هي الموجهة لحركة التعمير والعمران في المجتمعات الإسلامية.

وإذا كانت عمارة الغرب عادة ما تعكس الفردية الرأسمالية في التشكيل بينما عمارة الشرق تعكس الجماعية الاشتراكية في تشكيل آخر،  فـان الوسطية الإسلامية يمكن أن توائم بين الفردية والجماعية في التعبير المعماري بحيث تنعكس الفردية على العمارة من الداخل وتنعكس الجماعية على العمارة من الخارج،  فالمبنى من داخله ملك لصاحبه يوفر له خصوصيته الفردية أما من الخارج فهو ملك للمجتمع يخضع لمقوماته الاجتماعية التي ترضى عنها الجماعة من الناس. لقد كانت الوسطية هي الصيغة العمرانية التي شكلت النسيج العمراني للمدينة الإسلامية في عصورها الأولى قبل أن تتأثر امتداداتها المعاصرة بالفردية الرأسمالية الواردة من الغرب أو بالجماعية الاشتراكية الوافدة من الشرق. عندما كانت تدار الحركة العمرانية في المدينة بالمباديء الإسلامية، باحترام خصوصية الجوار وعدم التعالي في البنيان وبتنظيم الفراغات الداخلية بما يتناسب مع التقاليد الإسلامية والتوظيف النفعي للفنون في الأثاث والتنسيق الداخلي والخارجي, عندما كان يتم كل ذلك بواسطة التقنية المتوافقة مع الإمكانيات الحرفية والمالية المتاحة والخصائص البيئية والجغرافية المحلية مع مشاركة المجتمع في البناء والأخذ بمبدأ التكافل الذي يحض عليه الإسلام حتى كان للفقير نصيب من العمران كما كان للغنى.  وهكذا ارتبطت العمارة بالعمران كأحد مكوناته الأساسية.   وكما اهتم الإسلام بالعمارة من منطلق مبدأ الوسطية فقد اهتم الإسلام أكثر بإحياء الأرض وتعميرها وبناء المجتمعات الجديدة بعمرانها وإنسانها على أساس من القيم الإسلامية التي تنظم حركة المجتمع.  وإذا كانت الأصالة ترتبط بالمعاصرة في تشكيل العمارة الإسلامية وتطورها مع تطور المجتمع وتقدمه فان ذلك ينطبق في الأساس على التشكيل العمراني للمدينة الإسلامية باعتبار العمارة عنصرا أساسيا في بناء المدينة.  وهذا تنتقل النظرة للعمارة الإسلامية من المنظور الفردي إلى المنظور الاجتماعي.  يقول ابن خلدون في مقدمته:  “الملك بالجند.. والجند بالمال.. والمال بالعمارة” ويقول ابن الأزرق:

“لا جباية إلا بعمارة.. ولا عمارة إلا بالعدل.. وفى السياسة بالعدل عمرت الأرض وقامت الممالك” وقال أيضا “إن الظلم يؤدى إلى خراب العمارة فإذا كان الظلم بتوجيه الأموال إلى غير مستحقيها أدى ذلك إلى ترك العمارة” وهكذا أخذ لفظ العمارة مفهومه الاجتماعي.  وبهذا المفهوم يتم بناء الفكر المعماري في الإسلام.

انه من الصعب فصل الإنسان عن العمران عند التعرض للمفهوم الحقيقي لعمارة المدينة.  وإذا كان الإسلام في حالتنا هذه هو الموجه لحياة السكان في المدينة بنظمها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فان ذلك سوف ينعكس بالتالي على التشكيل المعماري للمدينة. فالعودة إلى المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الأمة سوف يعيد بالتالي إلى المدينة وجهها الإسلامي آخذا بكل أسباب التقدم والحضارة كما يدعو إليه الإسلام ويلفظ ما أصابها من تغريب أو تخريب.

وإذا كان ربط الأصالة بالمعاصرة في العمارة الإسلامية هو هدف الحركة العمرانية فان ذلك يتبعه إعادة بناء الفكر المعماري ليكون قادرا على تحقيق هذا الهدف.  إن بنــــاء الفكر المعماري الإسلامي هو في واقع الأمر حركة ثقافية لابد وأن تؤثر على العامة من المجتمع كما تؤثر على الخاصة من الدارسين والباحثين والممارسين لعمارة المسلمين،  فالعمل المعماري في النهاية هو تحقيق الخاصة من المعماريين لرغبات العامة من أفراد المجتمع.  فعمارة المسلمين هي عمارة المجتمع الإسلامي التي تعكس قيمه الحضارية ومتطلباته المعيشية في أي مكان وزمان.  لذلك فان المنظور الإسلامي في النظرية المعمارية هو منظور اجتماعي كما هو منظور علمي وفني.  فالإنسان له حواسه وعواطفه كما له متطلباته وتطلعاته وهو في النهاية المستفيد الأول من البناء المعماري في المدينة الإسلامية.

لقد كان لاستمرار المد الحضاري الغربي في العالم الإسلامي أثره في قلب الموازين الحضارية للمجتمعات الإسلامية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا الأمر الذي ظهرت آثاره في ثقافات العديد من الشعوب الإسلامية وبالأخص فى عاداتها وتقاليدها كما في أزيائها وفنونها وبالتالي في عمارتها.  لقد فرضت الحضارات الواردة أنماطها المعمارية على القطاعات العمرانية للمدن الإسلامية والعربية منها بصفة خاصة.  وقد انتقل الفكر المعماري الغربي الي المدينة العربية بطرق مباشرة وذلك من خلال أعمال المعماريين الأجانب وبتوجيهاتهم أو بطرق غير مباشرة من خلال المعماريين العرب الذين تأثروا بالحضارة الغربية ومن خلال سيل الإصدارات المعمارية من الكتب والمجلات الوافدة والتي غزت الساحة المعمارية الإسلامية والعربية منها وذلك في غياب البدائل المحلية لهذه الإصدارات وهو الأمر الذي بدأنا نشعر بخطورته على أجيال المعماريين العرب فكان موقفنا من ذلك متمثلا في إصدار مجلة معمارية شهرية تدعو إلي تأصيل القيم الحضارية في العمارة العربية المعاصرة وفى إصدار مجموعة من الكتب المعمارية والتخطيطية تؤكد هذه الرسالة الحضارية وتثرى المكتبة العربية والإسلامية،  فكان كتابنا الأول عن ” المنظور التاريخي لعمارة المشرق العربي”   وهو يعرض للعمارة العربية كإفراز حضاري على مر العصور التي مرت بها المنطقة منذ فجر التاريخ عبر العصور الإسلامية حتى التاريخ المعاصر, شارحا  أثر العلاقات التبادلية بين دول   المنطقة  سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا  على العمارة المحلية لكل دولة    خاصة   في العصور الإسلامية  التي أفرزت ما يطلق عليه المؤرخون العمارة الإسلامية بتشكيلاتها الفنية وقيمها الجمالية وهى العمارة التي اكتسبت خصائص حضارية ارتبطت بوجدان المجتمع الإسلامي،  وأصبحت النبع الفياض للقيم المعمارية بما فيها من ثوابت امتدت على مر العصور ومتغيرات تتغير بتغير الزمان والمكان.  ويعرض الكتاب في نهايته لربط الأصالة بالمعاصرة مع حركة التاريخ وما يطرأ عليها من إنجازات تقنية متقدمة ومتوافقة.

والكتاب هنا يعتبر صيغة جديدة لتاريخ العمارة العربية الذي يتبع الخط الحضاري العربي بدءا من العمارة الفرعونية أو الآشورية ثم القبطية والإسلامية بكافة عصورها ثم العمارة الوافدة والعمارة المعاصرة.. وليست كما يعرضها علم تاريخ العمارة الغربية الذي يتبع الخط الحضاري الغربي بدءا من العمارة اليونانية ثم الرومانية ثم عمارة العصور الوسطي في أوروبا ثم عمارة عصر النهضة ثم الثورة الصناعية ثم العمارة المعاصرة وهو ما تتناوله العملية التعليمية للعمارة في معظم جامعات العالم الإسلامي. لذلك كان لابد من وقفة لتوجيه تاريخ العمارة العربية الوجهة الصحيحة على طول الخط الحضاري العربي.  من هذا المنطلق يمكن الربط بين الإفرازات المعمارية على مر التاريخ العربي من الماضي حتى الوقت الحاضر حتى يمكن استشراف مقوماتها في المستقبل.  لقد كان لدور التوثيق المعماري خاصة بالنسبة للعمارة الإسلامية على مر عصورها ثم تحليلها شكليا وعقائديا أثره في هذا العرض التاريخي الذي يقدمه الكتاب بصورة يمكن استيعابها بسهولة ويسر من قبل الأجيال المعمارية الناشئة.

من خلال هذا السرد التاريخي لعمارة المشرق العربي يتضح أن العمارة التي أفرزتها العصور الإسلامية كانت هي الوحيدة التي استقرت في وجدان الإنسان العربي المسلم وأصبحت العقيدة هي الموجه الأساسي لمكوناتها الداخلية التي انعكست على تشكيلاتها الخارجية فكانت انعكاسا واضحا للمقومات العقائدية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع.  تختلف في تفاصيلها من مكان لآخر ومن زمن لآخر وتوحد بينها وحدة الدين والعقيدة،  ارتقت فيها حرفة البناء واستجابت لمتطلبات المستعمل لها وحققت رغباته المعيشية،  ظهرت فيها التقنية المتوافقة لعلم البناء وواجهت بعناصرها الظروف المناخية والبيئية التي تختلف باختلاف المكان والزمان حتى أصبحت عمارة العصور الإسلامية مرجعا للابتكار والاقتباس.  وان كانت العمارة الغربية كثيرا ما يطغى فيها الشكل على المضمون الا أن عمارة العصور الإسلامية هي إسلامية في مضمونها شكلتها البيئة التي نبتت فيها فهي من الداخل تتفق مع القيم والرغبات الفردية للمستعمل أما من الخارج فهي تتفق مع القيم والرغبات العامة للمجتمع الذي يتحرك خارجها ويتعايش معها.  لقد ظهرت العمارة الإسلامية غنية بمكملاتها التشكيلية والجمالية التي تعتمد على الوحدة الزخرفية والعلاقات الهندسية النابعة من الأسس البنائية والتقنية الحرفية والمواد الإنشائية.  ويعنى ذلك أن العمارة الإسلامية بمضمونها العقائدي وتشكيلاتها البنائية تضم في طياتها النظرية المعمارية العالمية. من هذا المنطلق كان الإقدام على توثيق هذا المفهوم في إصدار آخر لنا تحت عنوان ” المنظور الإسلامي للنظرية المعمارية” يعرض لتطور النظرية المعمارية الغربية التي تبلورت في ضوء التغيرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الحضارة الغربية… ولما كان للغرب نظرياته المعمارية النابعة من واقعه الحضاري فلا أقل من أن يكون للعرب والمسلمين نظرياتهم المعمارية النابعة من واقعهم الحضاري أيضا.  وباستعراض النظرية المعمارية الغربية بحثا عن مدى ملاءمتها وتناسبها مع الواقع العربي الإسلامي، يظهر مدى التناقض الكامل والتضارب الواضح بين أبعاد النظرية الغربية و تطبيقها على الواقع العربي الإسلامي.  من هنا كان لابد من البحث عن النظرية المعمارية الإسلامية من خلال الواقع الحضاري للمجتمعات الإسلامية..  من تراثه المعماري ومن منهجه القرآني.. من أقوال الرسول الكريم.. من أقوال السلف الصالح… من القيم التي تبنى الإنسان وهى القادرة على بناء العمران… من خلال منهج الوسطية الإسلامية…  في الإنفاق.. في الزخرف… في المتطلبات المعيشية التي لا تقتير فيها ولا إسراف.. في الخصوصية الاجتماعية والفردية.. في تكافل المجتمع.. في تكامله..  في ترابطه..  في حقوق الجوار..  في حسن الأداء وإتقان العمل.  وكتاب المنظور الإسلامي للنظرية المعمارية بهذا المنهج يضع للعمارة الإسلامية نظريتها المعاصرة المستمدة من أسس العقيدة الإسلامية من ناحية ومن معطيات التراث المعماري والتقدم العلمي من ناحية أخرى.  وهكذا تثبت في النظرية الجديدة العلاقة بين الاصالة والمعاصرة،  كما يثبت فيها أسلوب بناء الشخصية الحضارية للمدينة العربية الإسلامية بإنسانها وعمرانها معا على مدى مراحل نموها.

ولم يقف مضمون كتاب المنظور الإسلامي للنظرية المعمارية عند حد وضع النظرية ولكن كان لابد من نقلها إلى الواقع العملي والتطبيقي وذلك من خلال البناء الفكري لطالب العمارة العربية, فكان الكتاب الثالث الذي أصدرناه تحت عنوان ” بناء الفكر المعماري” منتهجا أسلوب بناء طالب العمارة عقائديا وفكريا وفنيا من بداية الطريق وعلى طول العملية التعليمية   التي تسعى إلى ترسيخ القيم الإسلامية عنده, وهو يتعامل مع المكونات المختلفة للعمارة فنيا وتشكيليا وهندسيا واجتماعيا واقتصاديا معا.  ويظهر ذلك من خلال مسلسل التمارين التطبيقية على مدى العملية التعليمية في السنوات الدراسية مع استخدام أحدث أساليب التقنية المعاصرة وذلك من منطلق النهج الإسلامي الذي يدعو إلى التقدم والابتكار والارتقاء بالمجتمع في إطار المقومات الراسخة التي تهدف إلي بناء الإنسان السوي المتوازن.  إن عرض التراث المعماري في هذه العملية توثيقا وتحليلا واستنباطا دوره في ترسيخ التشكيلات المعمارية الإسلامية في المخزون العقلي والفكري للطالب حتى يمكن استرجاعها بتلقائية ويسر عندما يمارس العملية التصميمية المعاصرة وحتى يقلل من تأثير المخزون العقلي للعمارة الغربية الذي يستوعبه الطالب العربي من خلال سيل الإصدارات التي تنقل إليه الأنماط المعمارية الغربية.

وهكذا تحاول الكتب السابقة وغيرها من إصدارات مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية سد الفراغ في التأليف المعماري في الوطن العربي.  وقد تم استكمالها بمجموعة أخرى من الكتب يعرض بعضها للمعماريين العرب مثل حسن فتحي وغيره, كما يعرض غيرها للقيم الحضارية في بناء المدينة الإسلامية, وأخيرا وليس آخرا صدر كتاب “المنظور الإسلامي للتنمية العمرانية” يعرض للنظرية الغربية في التخطيط العمراني ومدى ملاءمتها للمدينة العربية ثم يقدم محاولة أخرى للبحث عن النظرية الإسلامية التي توجه عمليات التنمية العمرانية المستمرة تخطيطيا وتنظيميا وإداريا من خلال المنهج الإسلامي الذي يسعى إلي بناء المجتمع عقائديا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا والذي يتم فيه بناء العمران مع بناء الإنسان في شكل متكامل ومتوازن.

ويأتي بعد السلسلة السابقة من الكتب مجلدا هاما بعنوان “أسس التصميم المعماري والتخطيط الحضري في حالة القاهرة الإسلامية” وهو العمل المشترك مع الزميل الأستاذ الدكتور/ صالح لمعي لصالح منظمة العواصم والمدن الإسلامية, وقد انتهجنا فيه مبدأ البحث عن القيم التصميمية من خلال القيم التشكيلية والمضامين العقائدية للأنماط المعمارية المختلفة على مر العصور الإسلامية, وذلك من خلال العمليات الثلاث التي يعالجها هذا المجلد وهى التوثيق والتحليل والاستنباط بتحديد ما هو ثابت كمضمون عقائدي و حضاري وما هو متغير في تقنية البناء وفى المتطلبات المعيشية للإنسان.  وينتهي هذا الجزء من المجلد إلي وضع أسس التصميم المعماري للأنماط المعمارية المختلفة من مباني سكنية ومساجد ومدارس وغيرها من المباني العامة.  ويعالج الجزء الثاني من المجلد أسس التخطيط الحضري للمدينة الإسلامية المعاصرة المستمدة من الأنماط التخطيطية للمدينة القديمة التي تتضح فيها العلاقات الإنسانية ووحدة الجوار ومكانة المسجد في إطار النسيج العمراني والاجتماعي للمدينة, فقد تم رفع وتحليل عددا من المناطق التاريخية في القاهرة الإسلامية بهدف استنباط هذه الأسس التخطيطية.  ويعتبر هذا العمل الكبير مرجعا هاما للدراسيين في علوم العمران،  وان كان يقتصر على علوم عمران القاهرة كعاصمة من العواصم والمدن الإسلامية إلا أن المنظمة بصدد إجراء مثل هذه الدراسة على عواصم أخرى مثل دمشق وصنعاء وغيرها من عواصم العالم الإسلامي.

ومع كل ما يصدر من مؤلفات للمتخصصين فان للمجتمع حقه الذي لا يمكن إنكاره فلا بد له من حملات إعلامية مرئية تدعو إلي تأصيل القيم الحضارية في بناء العمارة المعاصرة تخاطب العامة والخاصة معا.  باعتبار أن بناء الفكر المعماري ليس قاصرا على المعماري فقط بل أيضا على المتعامل مع العمارة والمستفيد منها من أفراد المجتمع باعتبار العمارة إنتاجا اجتماعيا قبل أن يكون إنتاجا فرديا كغيرها من الفنون الأخرى المتمثلة في الرسم أو النحت أو الموسيقى التي تعبر عما في وجدان الفنان الفرد وهى فنون تنتقل وتظهر وتختفي كما أنها فنون يسعى إليها الفرد إذا أراد ولا تسعى إلي الفرد بخلاف العمارة فهي ثابتة لا تتحرك يعيش فيها الفرد والمجتمع معا بلا خيار أو اختيار.  من هنا كانت العمارة هي الأكثر تأثيرا على المجتمع والأكثر تأثرا به،  ومع ذلك لا تلقي العناية والرعاية التي تلقاها الفنون الأخرى من وسائل الإعلام.

إن لكل زمـان متطلباته المعيشية وأساليبه الإنشائية, ولكل مكان خصائصه البيئية ومقوماته التراثية, ولكن المضمون الإسلامي للعمارة والعمران ثابت لا يتغير بتغير الزمان أو المكان.

word
pdf