الدكتور ذكى نجيب محمود….. وربـاط العنـق

الدكتور ذكى نجيب محمود….. وربـاط العنـق2019-11-20T15:14:29+00:00

الدكتور ذكى نجيب محمود….. وربـاط العنـق

الدكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيس تحرير مجلة عالم البناء

 

المتتبع لمقالات الأستاذ الكبير ذكى نجيب محمود يشعر بمدى اهتمامه بضرورة تأصيل القيم الحضارية فى الإنسان المصرى الذى كاد أن يفقد هويته وهو بذلك يدعو إلى ضرورة الانتماء الفكرى للواقع المصرى حتى يكون إنتاجه نابعا من ترابه معبرا عن قيمه وتراثه. وهو هنا مع ذلك لا يمانع فى إستيعاب الفكر الغربى وهضمه جيدا بهدف تنشيط الحركة الفكرية وإفراز الصيغة المحلية للفكر المصرى الذى ظل فترة طويلة من الزمن يردد خلاصة الفكر الغربى بالنقل أو بالتقليد أو بالترجمة وقد جاء الوقت لإبراز السلبيات والايجابيات فى الثقافة المصرية وعرض الطيب منها بجانب الخبيث حتى يدرك الإنسان المصرى موقفه من الحركة الثقافية القائمة.

لقد حاول الأستاذ الدكتور ذكى نجيب محمود توصيل رسالته إلى المثقفين فى مصر عن طريق وسائل الأعلام المختلفة عسى أن يحرك فيهم الحمية ويحثهم على مراجعة النفس والضمير فيما يكتبون أو يقولون أو يرسمون. ويظهر أن رسالة الأستاذ الدكتور ذكى نجيب محمود لم تنفذ بعد إلى عقول المفكرين فى مصر, فقد ظهر أن هذه العقول قد ران عليها طبقة من الدهن لا تسمح إلا بمرور المستورد من الفكر المرتبط بالتقدم الحضارى الغربى. ولا تسمح بمرور المنطق الإسلامى أو العربى الذى يسعى إلى الارتقاء بخير أمة أخرجت للناس.

وعندما استمع إلى حديث الدكتور ذكى نجيب محمود أو اقرأ له أتذكر هذا الشئ الذى ألفه على رقبتى كل صباح دون أن أجد فيه فائدة أو أرى له معنى. بل أجده فى واقع الأمر خانقا للنفس مهينا للفكر. فأنا ألبسه تقليدا للغير أو التزاما بوضع اجتماعى غريب عن طبيعتى فقد بهرنى به أجنبى عنى فألبسنى إياه وقيدنى به وكأنه قد لفه حول عنقى ليقودنى منه دون أن أشعر وأحس وكأننى منساق له أو أسير فى أذياله دون أن أدرى. فرباط العنق الذى نلبسه لا يمثل فى الواقع إلا شكلا من أشكال القيود الفكرية التى استسلمنا لها فى لحظة من اللاوعى وسلمنا رقابنا لها منصاعين حتى أصبحت عالقة بنا نتحرك بها فى كل مكان وفى كل مجال. نفكر ونحن معلقون منها, ونتحدث ونحن مرتبطون بها، ونكتب وهى تحيط بأعناقنا, أننا نشعر بها تخنق أنفاسنا ومع ذلك لا نجرؤ على فكها. ندعو إلى تأصيل القيم الحضارية وهى مدلاة من أعناقنا وندعو إلى بناء الشخصية المصرية ونحن أسرى لها فرباط العنق ليس إلا رمزا للعبودية الحضارية لقد غزانا الأتراك فألبسونا الطربوش النمساوى وغزانا الفرنسيون فألبسونا البدلة وغزانا الإنجليز فألبسونا رباط العنق كما ألبسونا غيرها من المفاهيم والقيم الاجتماعية والفكرية… ونحن مع كل ما ورائنا من حضارات عريقة ظهرت على أرضنا وشكلت شخصيتنا وامتدت آثارها إلى الغرب لم نستطع أن نلبس أنفسنا الزى الذى ننتج خاماته بعملنا ونصنعه بأيدينا ونقيسه على أجسادنا ليتناسب مع متطلباتنا الحياتية وقدراتنا المالية ويبرز شخصيتنا الحضارية. هذا فى الوقت الذى حافظت فيه العديد من الشعوب الأخرى على شخصيتها الحضارية بالرغم من أنها قد ذاقت من مرارة الغزو وقسوة الاستعمار أكثر مما ذقنا وقاسينا. إن ما ينطبق على الملبس يمكن أن ينطبق على معظم أوجه الحياة فى مصر… وليس رباط العنق هنا إلا رمزا لهذه القيود الثقافية التى قيدت الفكر المصرى أو أثرا من آثار العبودية الحضارية لذلك فإن الدعوة إلى فك رباط العنق ليست إلا رمزا للتخلص من هذه القيود. والطريق إلى ذلك هو فى تجرد الإنسان بذاته من القيود الحضارية التى وجد نفسه مقيدا بها دون أن يشعر. فالدعوة إلى تأصيل القيم الحضارية التى تنبعث من كبار المفكرين والفلاسفة لن تصل إلى الإنسان المصرى ما لم يواكبها دعوة إلى تخلص الإنسان المصرى من هذه القيود الثقافية والاجتماعية التى أحاطت به وإذا كان رباط العنق الذى يخنق الإنسان المصرى يعتبر رمزا للقيود الحضارية التى تكاد تقضى على شخصيته فإن ذلك لا يقيد الحركة الثقافية فقط بل انه يقيد أيضا كل الحركات الأخرى التى ترتبط بحياة الإنسان المصرى فى المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية أو العمرانية… فالدعوة إلى استقلالية الاقتصاد المصرى لن تتحقق إلا بالتحرر من المؤثرات الاقتصادية الخارجية والدعوة إلى بناء الشخصية المصرية لن تتحقق إلا بتحرر الفكر المصرى من القيود الاجتماعية التى فرضتها عليه الحضارة الغربية. والدعوة إلى تأصيل القيم الحضارية فى بناء العمران المعاصر لن تتحقق ما لم يتحرر الفكر المصرى من القيود الثقافية التى امتصها من الغرب وسرت فى شرايينه وسيطرت على كل مقوماته حتى أصبح تابعا للحضارة الغربية, فالإنسان المصرى الآن وهو على مفترق الطرق الحضارية لا يدرى أين يتجه يقف متفرجا على ما يدور حوله فى كل أنحاء العالم ولا يستطيع التقدم خطوة واحدة فى سبيل بناء مقوماته الحضارية فهو لا يزال مقيدا برباط العنق الذى ألبسه إياه الغرب وعلقه به, فلن تتحرر ذات الإنسان المصرى إلا إذا فك رباط العنق الذى يخنقه ورجع إلى نفسه ليخلطها من كل الشوائب الحضارية التى علقت بها… والصدق مع النفس هو أول خطوة نحو التحرر من كل القيود التى تقيد حركتها الثقافية والحضارية… هذه هى بداية الطريق.

word
pdf