الزكـــــاة… وعمـــــارة الفقــــراء

الزكـــــاة… وعمـــــارة الفقــــراء2019-11-20T14:15:48+00:00

الزكـــــاة… وعمـــــارة الفقــــراء

دكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

 

بالرغم من كل الجهود الدولية والدراسات والتجارب العالمية لم تجد عمارة الفقراء مكانها المناسب فى برنامج وسياسات الإسكان خاصة فى الدول النامية حيث الغالبية العظمى من الفقراء.. واستقرت سياسات الإسكان فى معظم هذه الدول عند حد تقديم البدائل التصميمية والإنشائية لما يسمى بإسكان ذوى الدخل المحدود أو الإسكان الاقتصادى وهى مسميات بعيدة كل البعد عن مفهوم عمارة الفقراء.. والفقراء هنا هم الذين يكدحون للحصول على لقمة العيش اليومى مع ستر البدن لهم أدنى حدود المدخرات التى يستطيعون بها الحصول على المسكن، وهم غير هؤلاء الذين ينتظرون الحسنة أو الزكاة دون أن يحركوا ساكنا وهم على قدر من الصحة يؤهلهم للعمل حتى كحمالين بدلا من تقاعدهم كما يوجه بذلك الحديث النبوى الشريف.
لقد وضع حسن فتحى يده على هذه المشكلة منذ أربعين عاما عندما بدأ التعامل مع مشروع قرية القرنة.. وان كان هدف الإسكان فيها ليس للفقراء ولكن لنقل سكان القرية القديمة التى أنشأت مساكنهم على أحد التلال الزاخرة بالآثار المدفونة تحتها وكانت مصدرا للتراث لهؤلاء السكان الذين امتنعوا بطبيعة الحال عن الانتقال إلى قرية حسن فتحى الجديدة واستمرت مبانيها خاوية على عروشها حتى أصابها ما أصابها من إهمال وتخريب.. بعد أن تغنى بها الشعراء وتأدب بها الأدباء وانتشر فكرها التخطيطى والتصميمى فى كل الأرجاء وتقبله المثقفون والأغنياء قبل الأميين والفقراء، وتجمد فكر حسن فتحى لدى الغالبية عند هذا الحد بعد أن ارتبطت عمارته عندهم بعمارة الطين.. حيث لم يعد هناك طين.. وإذا كانت عمارة الفقراء كفكر قد بدأها حسن فتحى فلا يصح أن تنتهى برحيله، الأمر الذى يستوجب الاستمرار بها بأساليب أخرى ومناهج أخرى ما دامت تؤدى إلى تحقيق أهداف هذا الفكر، دون تحيز لمادة أو لشكل.. فقد مرت تجربة حسن فتحى بالعديد من العقبات التنظيمية والتنفيذية وظهرت بسلبياتها وإيجابياتها وهو ما تعرض له الكتاب الذى نشرته عن حسن فتحى وبمعرفته بل وبتأييده حيث وفر له كل ما فى ملفاته الخاصة وكل بحوثه ودراساته بأمل تقديم تجربته عن عمارة الفقراء بسلبياتها وإيجابياتها وقد رأى فى ذلك دفعا للاستمرار فى البحث والدراسة واستمرارا فى العمل على تحقيق أفكاره وأهدافه التى لم تتحقق بالصورة التى كان يريدها.. كما رأى فى ذلك امتدادا لرسالته الحضارية.

ترتبط عمارة الفقراء بعدد من العوامل التى تحدد ملامحها الأساسية أولها التعريف بالفئات المختلفة للفقراء العاملين منهم والمتقاعدين.. ثم تحديد متطلباتهم المعيشية والمواقع المناسبة لإسكانهم من خلال الجدوى الاستيطانية للتنمية العمرانية ثم البحث عن مواد وأساليب البناء والتشييد التى تتناسب مع قدراتهم العملية والمادية وتقدير مدى مساهمتهم فيها… بالتطوع أو بالأجر.. ومهما كانت هذه الأساليب فان المكون المالى وبأى نسبة سوف يستمر هو المحرك والدافع الأساسى لعمليات البناء والتشييد. وإذا ذكر المكون المالى فى البناء والتشييد لعمارة الفقراء فلابد من تجنب الإدارة الحكومية التى تخضع أعمالها لنظم العطاءات والممارسات والتعاقدات والمقاولات.. والالتجاء إلى غيرها من المؤسسات التى يمكنها أن ترعى عمارة الفقراء كما ترعى خدماتهم الصحية والتعليمية والإنتاجية وتعمل بإسلوب العمل الخيرى أو التطوعى حيث يعتمد تمويل هذه المؤسسات الخيرية على العطايا والتبرعات من كل الجهات فى الداخل والخارج نقدا أو عينا.. وهذا ما افتقدته تجربة حسن فتحى التى طالما اصطدمت بالروتين الحكومى وكان يسعى فى أواخر أيامه إلى إنشاء معهد تكنولوجيا البناء المتوافقة ليعمل على تنفيذ مشروعات إسكان الفقراء ولكن أمله لم يتحقق حيث كان لابد من التعامل مع الإدارة الحكومية التى لا تقبل العمل التطوعى أو التبرعات أو البناء على الذمة أو التدريب فى مواقع العمل أو غيرها من الوسائل التى تتناسب مع طبيعة البناء بالجهود الذاتية.. ويبقى موضوع التمويل هنا لطبيعة المؤسسات الخيرية التى يمكنها أن تتبنى هذا الاتجاه ويمكنها الاعتماد على مواردها الخاصة التى تتمثل فى التبرعات بالمال والجهد أو بالمادة العينية. وهنا تصبح الزكاة أحد الروافد التى يمكن أن تغذى هذه المؤسسات بما يساعد على توفير الإسكان للفقراء والمحتاجين كما توفر لهم المبنى أو المأكل أو العلاج أو التعليم أو الآلة التى تعاونهم على العمل.. وهنا يظهر العمل الخيرى أو التطوعى فى صورته متكاملة يتوفر فيها المأوى كما يتوفر فيها الإنتاج الحرفى أو اليدوى بالإضافة إلى الخدمات الصحية والتعليمية وهنا يمكن أن يقوم الفقراء القادرين على العمل بتوفير العمالة اللازمة لأعمال البناء بعد تدريبهم حتى ولو تقاضوا أجرا يساعدهم على قوت يومهم أو تقدم لهم الوجبات خلال فترة عملهم فى البناء والتشييد… ويقتصر دور الدولة هنا على توفير الأرض دون مقابل خالية من المرافق والخدمات التى يتم توفيرها أيضا بالجهود الذاتية من خلال هذه المؤسسات الخيرية. كما توفرها عنوة للمغتصبين من أصحاب الإسكان العشوائى.. وإذا كانت بعض الجمعيات الخيرية تقوم ببناء المساجد الكبيرة فى مواقع قد لا تحتاج إلى مثلها وإذا كانت غيرها من الجمعيات تقوم ببناء المدارس والمستشفيات فلا أقل من أن تمارس نشاطها خلال مشروعات عمارة الفقراء التى يتوفر فيها المأوى والإنتاج والخدمة الصحية والتعليمية والبيئية معا.. وإذا كان أغنياء العالم العربى يتبرعون لبناء مشروع مكتبة فى باطن أرض الإسكندرية فلا أقل من أن يتبرعوا لعمارة الفقراء زكاة عن أموالهم وأولادهم وممتلكاتهم.. وإذا كانت أجهزة الدولة التى يقتصر دورها على توفير الإسكان التعاونى أو الاقتصادى بمقدمات وقروض ميسرة لا يقدر عليها الفقراء فلا أقل من أن تخصص لهم الأرض المناسبة دون مقابل لتعميرها ثم تمدهم بعد ذلك بالخدمات إذا استطاعت.

إن توجيه مصارف الزكاة إلى هذه النوعية من المشروعات يصيب هدفه الدينى والانسانى والقومى معا.. فكم من أغنياء المسلمين قد شيدوا الأربطة (جمع رباط) لإيواء الفقراء والمحتاجين ثم مدهم بالمأكل والملبس فى المواسم المختلفة.. هنا يظهر التكافل فى الإسلام فى أقوى صورة. وهنا توجه الدعوة إلى إنشاء المؤسسات الخيرية لعمارة الفقراء.
وإذا كانت جمعية إحياء التراث التخطيطى والمعمارى وقد دعت العالم إلى المشاركة فى الندوة الدولية التى تنظمها فى مارس 1992م عن عمارة الفقراء فهى تسعى بذلك إلى استخلاص أنسب الوسائل الفنية والتمويلية والتنظيمية التى تمكن الجهات الرسمية أو المؤسسات الخيرية من القيام بمثل هذه المشروعات المتكاملة وتدفع الأغنياء والقادرين للمساهمة فى بنائها وتشييدها.. وإذا كانت عمارة الفقراء قد ارتبطت باسم حسن فتحى. فقد قامت الجمعية أيضا بالإعلان عن جائزة شرقية باسم جائزة حسن فتحى الدولية لعمارة الفقراء تمنح إلى المؤسسات والهيئات والمنظمات والأفراد الذين يساهمون بجهودهم فى توفير العمارة للفقراء فى أى دولة من دول العالم ويكون فى ذلك فرصة للتعرف على إنجازاتهم واقتباس أنسب وسائلهم لخدمة الفقراء فى مصر.. فهذا أقل ما يمكن تقديمه من زكاة العلم والمال.

وقد يبدأ نشاط المؤسسة الخيرية لعمارة الفقراء – ولتسمى مؤسسة حسن فتحى لعمارة الفقراء – بعد استكمال الإجراءات القانونية لإنشائها واختيار مجلس إدارتها بالتفاوض مع السيد وزير التعمير بمنحها موقعين أو ثلاثة مواقع لإجراء أول تجاربها التنموية عليها ثم تتجه بعد ذلك إلى إنشاء نواة لمركز البناء بالجهود الذاتية مستعينة بذلك ببعض الخبرات الدولية التطوعية وليكن منها مركز البناء للفقراء بالهند وهى المؤسسة التى نالت جائزة حسن فتحى الدولية لعمارة الفقراء لعام 1992م وذلك بإنشاء مكابس لإنتاج الطوب الطفلى من الأرض الصحراوية ثم تنظيم معسكرات للشباب خريجى الجامعات من الباحثين عن العمل والمسكن للقيام ببناء اللبنات الأولى لهذه التجمعات السكنية الجديدة بعد تدريبهم بمعاونة المتطوعين من أساتذة العمارة والإنشاءات.. وربما كان لطلبة السنوات النهائية فى كليات الهندسة دور فى هذه العمليات كأحد المناهج العلمية والعملية التى يدرسونها فى مادة عمارة الفقراء وحتى لا تقتصر العملية التعليمية على دراسة عمارة القادرين. هذا هو أحد جوانب التوازن الاقتصادى والتكافل الاجتماعى الذى يدعو إليه الإسلام.
إن مؤسسة حسن فتحى لعمارة الفقراء هى السبيل الحقيق والعملى للتصدى لهذه المشكلة المزمنة التى عجزت عن معالجتها الهيئات الرسمية الحكومية والدعوى هنا لهؤلاء الذين تغنوا بفكر حسن فتحى لكى يتقدموا الصفوف ويحولوا كلماتهم الطيبة إلى عمل وتبنى هذه الرسالة الإنسانية التى تهدف إلى خدمة هذه الفئة المحرومة من الفقراء. واللـه مـن وراء قصـــد.

word
pdf