السياحة والتراث والبيئة فى عيون أجنبية

السياحة والتراث والبيئة فى عيون أجنبية2019-12-03T08:14:18+00:00

السياحة والتراث والبيئة فى عيون أجنبية 

دكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

 

عقدت فى القاهرة أخيرا ندوة علمية نظمها الاتحاد الدولى للمعماريين لدراسة الثالوث المتكامل الذى يضم السياحة والتراث والبيئة. وانتهت الندوة بحلقة عمل ساهم فيها خمسون خبيرا عالميا من دول مختلفة منها اليابان وأسبانيا وتركيا واليونان وإيطاليا وأمريكا وبريطانيا بخلاف نظرائهم المصريين. وركزت حلقة العمل على مقومات السياحة والتراث والبيئة فى المنطقة ما بين أسوان والأقصر وذلك خلال الرحلة التى قطعوها فى إحدى البواخر السياحية زاروا أثنائها أسوان وكوم امبو وادفو واسنا وانتهوا بالأقصر.. وقد نظمت حلقة العمل نشاطها خلال سبعة مجموعات درست كل منها جانبا من جوانب الدراسة الشاملة التى تضمنت الحفاظ على الأثر, وتطوير المناطق الأثرية، ومعالجة بيئة النهر، وتأكيد الطابع المعمارى، ووضع القواعد التشريعية والإدارية، وتنظيم الحركة السياحية، وتحديد طاقات التحميل فى المشروعات السياحية. وتجئ هذه الندوة فى أعقاب ندوة أخرى مماثلة نظمتها جامعة يلدز فى اسطنبول فى شهر أكتوبر الماضى عن موضوع العمارة السياحية فى منطقة البحر الأبيض قضى فيها المشاركون خمسة أيام فى الندوة ثم خمسة أيام أخرى فى حلقة عمل فى أحد المناطق السياحية التى تشهد تطورا سياحيا مكثفا جنوب تركيا. وهكذا يرتبط الفكر بالتطبيق. وهكذا تنتقل النظرية إلى الواقع. وهكذا يأخذ العلم طريقه إلى التنمية فلم تصبح التنمية السياحية عملية اجتهادية يديرها الأفراد تبعا لمرئياتهم أو أهوائهم الخاصة سواء عن خبرة سابقة أو بدون أى خبرة على الإطلاق. والسياحة بطبيعتها صناعة حساسة تتأثر بكل الأجواء الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية, وهى أجواء متغيرة القوام متقلبة الرياح. لذلك فطنت بعض الدول إلى هذه الحقيقة فأقيمت فيها مراكز للبحوث والدراسات السياحية ومنها مركز جامعة ليدز فى تركيا الذى بدأ نشاطه فى أعقاب الندوة السابقة ويستمر نشاطه بالتوثيق والملاحظة وكذلك الملاحقة لسوق السياحة فى العالم ومدى تأثيره على تطور التنمية السياحية فى تركيا وهى تستفيد من التجارب التى تعرضت لها السياحة فى غيرها من الدول المنافسة ومنها أسبانيا على سبيل المثال وقد تدهورت مقوماتها البيئية حتى بدأت تؤثر تأثيرا سلبيا على هذه الطفرة السياحية التى شهدتها أسبانيا فى الحقبة الأخيرة إلى درجة أن المنظمات المعمارية الأسبانية بدأت تدعو إلى خفض الطاقة الفندقية لجزيرة مايوركا بحوالى 50? حفاظا على التوازن البيئى الذى اختل فى هذه الجزيرة.
وتقدم اليونان تجربة أخرى تحولت فيها المبانى السكنية لإحدى الجزر اليونانية بعد تطويرها إلى منتجعات سياحية أقبل عليها السياح بكميات كبيرة إلى درجة لم تعد تتحمل فيها الجزيرة المشاكل الجانبية التى نتجت عن هذا الضغط السياحى والذى كاد يقضى على التوازن البيئى والحضارى للجزيرة الجميلة.. وهكذا بدأت نظرية طاقة التحمل البيئى والاقتصادى والاجتماعى والبشرى تأخذ أهميتها فى برامج التنمية السياحية وتكرر المشكلة فى المناطق السياحية التى زارها خبراء العالم من المخططين والمعماريين عندما شاهدوا الأعداد الكبيرة من السياح وهم يتدفقون ويتزاحمون فى المعابد والمقابر الفرعونية حتى كادت تقضى على طبيعتها الأثرية ومقوماتها التاريخية. وهكذا يزيد الضغط السياحى على عناصر الجذب السياحى إلى الدرجة التى تكاد تفقد فيها هذه العناصر مقوماتها السياحية وتنتهى معها الحركة السياحية إليها. الأمر الذى يستدعى إعادة النظر فى هذه المشكلة الضاغطة، فليس المهم أن يكدس السياح فى المناطق الأثرية حتى لا تفقدها إلى الأبد ولكن المهم أن يوزع هذا التكدس على مجالات أوسع حول الأثر سواء فى قرى سياحية ترفيهية رياضية أو فى حدائق تراثية وذلك فى صورة متكاملة مع خفض تواجد السياح داخل الأثر إلى أقل وقت ممكن وذلك بإطلاعهم على تاريخ الأثر ومعامله التراثية قبل زيارتهم وذلك من خلال أفلام الفيديو فى فنادقهم الثابتة أو المتحركة حتى لا تكون الزيارة بعد ذلك إلا للرؤيا العابرة للموقع وهكذا يقلل من التأثير السلبى على الأثر الذى هو فى واقع الأمر عنصر الجذب السياحى الذى تقوم عليه صناعة السياحة فى كثير من الأحيان.
لقد تألمت عيون الأجانب من التلوث البصرى الذى يشوه المناطق الأثرية سواء فى قلب القاهرة التراثية التى تضم الآثار الإسلامية والقبطية أو فى المدن التى تضم الآثار الفرعونية وذلك بسبب ترك الحبل على الغارب لكل من هب ودب ليقيم حولها ما يشاء من منشآت عامة أو خاصة دون اعتبار لقيم معمارية أو حضارية وذلك بسبب فقدان الوعى عند المسئولين عن هذه المدن من ناحية وتخلف الفكر المعمارى من ناحية أخرى.. وهكذا يساهم الإنسان المصرى فى هدم المقومات الحضارية للمحيط العمرانى للأثر وتفقد الدولة بعد ذلك عنصرا آخر من عناصر الجذب السياحى كما تفقد الآثار إطارها الحضارى. هذا بخلاف ما تتعرض له المبانى الأثرية من التدهور المستمر فى بنائها المعمارى مما كاد يقضى عليها كلية على مدى سنوات المستقبل القريب. وتفقد الدولة بذلك تاريخها وتراثها ومن ثم مقوماتها السياحية، كما تفقد الدولة مصدرا هاما من مصادر دخلها القومى. ومع تكرار الدعوة إلى ضرورة الحفاظ على ثروتها الحضارية والتاريخية.. فقد ثبت عجز الدولة على صيانة هذا الكنز العظيم. لقد سبقنا فى هذا المضمار دول كثيرة من حولنا بدأ باليمن ثم المغرب وتونس وسوريا.. وكونت لمدنها التاريخية أجهزة تقوم على صيانتها لديها كل صلاحيات الجهات المسئولة من الآثار والأوقاف والبلديات والنقل والمواصلات وغيرها من الجهات ذات الاختصاص.. ويظهر أن دولاب الدولة يعمل بإسلوب الجزر المستقلة المتضاربة التوجهات التى لا تستطيع التعامل مع مجالات التنمية المتكاملة. لقد بدأت الدولة الدعوة إلى إنشاء جهاز الحفاظ على قاهرة العصور الوسطى عام 1980 واعتبارها محمية قومية تخضع إلى مجموعة من المعايير والنظم والإجراءات الخاصة التى تعمل على تفريغها من كل العوامل الهدامة وتطويرها بما يخدم الأثر كما يخدم السياحة أيضا.. واليوم تصدر عن حلقة العمل التى زارت المناطق السياحية والأثرية فيما بين الأقصر وأسوان توصيتها باعتبار المناطق على جانبى النيل فى هذه المنطقة محمية قومية تديرها هيئة خاصة أطلق عليها الخبراء إسم NADA “نادا” اختصار للترجمة الإنجليزية لهيئة تنمية منطقة النيل Nile Area Development Authority لديها جميع الاختصاصات التنمزية بما فى ذلك الجوانب البيئية والأثرية والسياحية والإنتاجية والعمرانية وكذلك اعتبار بعض القرى فى المنطقة محميات معمارية. لقد حرص خبراء العالم على موضوع الحفاظ على المبانى الأثرية لدرجة أن أحدهم دعى إلى تغطية بعض المعابد بالرمال حرصا عليها من التدهور والحفاظ عليها للأجيال القادمة باعتبار أن آثار مصر هى الثروة القومية الحضارية، كما هى من المصادر الرئيسية للدخل القومى مثلها مثل النفط وقناة السويس بالإضافة إلى اعتبارها التوأم الإنسانى والحضارى للدولة. لقد صدرت فى هذا الشأن العديد من التوصيات وآخرها التوصيات التى صدرت عن المؤتمر العلمى الذى نظمته كلية الآثار بجامعة القاهرة ودعت إلى إنشاء وزارة دولة للآثار.. ولكن يظهر أن تكرار مثل هذه التوصيات على مدى عشرات السنوات السابقة كاد يفقدها موضوعيتها.. إذ يظهر أن العالم كله فى واد والدولة هنا فى واد لم تستيقظ منه بعد. وكالعادة لا تستيقظ الدولة إلا على صوت كارثة كغرق باخرة أو انهيار قرية أو حريق مبنى.. أو ضياع أموال المواطنين فى شركات توظيف الأموال.. أو تفشى المخالفات فى المبانى وكلها بعد فوات الأوان. ومع هذه الصورة القاتمة يفتح وزير السياحة طاقة من نور توجه شعاعها إلى التنمية السياحية المتكاملة تبدأ بإنشاؤه هيئة التنمية السياحية ودعمه لحلقة العمل التى ضمت مجموعة كبيرة من خبراء العالم لتقديم مرئياتها التى تدعم التنمية السياحية فى جنوب الوادى. والأمل معقود على تنظيم حلقات عمل أخرى تنظر بالعيون الأجنبية إلى التنمية السياحية فى سواحل البحر الأحمر وخليج العقبة والساحل الشمالى الذى شاهد تدميرا للبيئة السياحية فى بعض أجزائه كما ينتظر تطورا مستقبلا فى أجزاء أخرى منه حيث تعانى التنمية بها من خلل فى تكامل المقومات السياحية المتمثلة فى ثالوث الجذب المكون من مياه البحر والمناظر الطبيعية والمعالم التراثية وذلك لمواجهة المتطلبات السياحية لفئات السن والجنس المختلفة وتتناسب مع مستويات الدخل المختلفة ورغبات المجتمعات المختلفة العربية والأوروبية والأسيوية وخاصة اليابانية. هنا لابد وان يختلط الخبراء بالمستثمرين بخبراء الإدارة فى حلقات العمل المختلفة. فالتنمية السياحية لا يقرها فرد أو خبير أو مجموعة من الاقتصاديين والمخططين والمعماريين وخبراء البيئة والسياحة فقط ولكن لابد من إبراز دور المستثمرين وخبراء الإدارة فى هذه المجموعة فهم أصحاب القرار الأخير فى التنمية السياحية الأمر الذى غاب عن الندوة التى نظمها الاتحاد الدولى للمعماريين فى مصر ولم تغب عن الندوة التى نظمتها جامعة يلدز بتركيا. فلم تعد التنمية السياحية دراسات بيئية وتصورات تشكيلية ومخططات عمرانية ولكنها عملية تسويقية تقدم المنتج المناسب للعميل المناسب فى حدود اللوائح والنظم والمعايير التخطيطية والبيئية. لم تعد التنمية السياحية أشكالا وألوانا ولكنها أرقام واستثمارات وإدارة وتسويق وتشغيل وصيانة فى مشروعات تتوازن فيها قيم التحمل البيئى والاقتصادى والاجتماعى والبشرى فى منظومة واحدة متكاملة تضمن التوازن البيئى والايكولوجى لعناصر الجذب السياحى. لم تعد التنمية السياحية إبداعا فنيا أو عملا معماريا ولكنها اسلوب عمل تتحدد فيه مرحليات التنفيذ ويواجه به المتغيرات السياسية والاقتصادية. ان فى التجربة التركية العديد من الدروس المستفادة. والتنمية السياحية فى مصر تحتاج للعديد من الخبرات والدروس المستفادة بوصفها أحد المكونات الرئيسية للتنمية الاقتصادية الاجتماعية.
أكد الخبراء الأجانب من ناحية أخرى على ضرورة التعايش الحضارى والثقافى بين السائح والمجتمع. فكم من السائحين حاول التردد على القرى القريبة من الآثار للتعرف على حياة البشر فيها. فقد أصبحت هذه القرى من أهم المزارات السياحية التى لم تمتد إليها بعد يد التطوير أو التحديث. وهذا ما دعى الخبراء إلى اعتبار بعض هذه القرى محميات معمارية وهذا أول اصطلاح يطلق على المستوى العالمى. وإذا كانت قرية القرنة التى بناها المعمارى الراحل حسن فتحى قد انهارت مبانيها فلا أقل من إعادة التجربة بعد تطورها فى القرية الجديدة التى تزعم الدولة إنشائها لينتقل إليها سكان القرنة القديمة. وهنا تتأكد الحاجة إلى مواجهة هذا التوجه الاجتماعى والثقافى فى التنمية السياحية وذلك بإنشاء قرى إنتاجية خارج المدى المؤثر على الأثر بحيث تحمل عمارتها ومجتمعها كما يحمل إنتاجها الطابع المحلى، يجذب إليها السائحين ويقضون فيها وقتا إضافيا عن ذلك الذى يقضونه فى زيارة الأثر خاصة بعد اختصار مدد الزيارات بعد إطلاع السائحين على معالم الأثر بالفيديو قبل الزيارة. وفى هذا الشأن يذكر لمحافظة أسوان حرصها على تبنى هذه الفكرة بإنشائها لتجمع سكنى هو تحت التنفيذ فى أطراف مدينة ادفو لتخفيف الضغط السكانى على معبدها.. كما طرحت من قبل مشروعات لإنشاء قرية إنتاجية فى المحيط الخارجى لمعبد كوم امبو ولم يتم تنفيذه بعد. وهنا لابد من إلقاء الضوء مرة أخرى على الاقتراح الخاص بإنشاء قرية نزلة السمان الجديدة بهذا المفهوم على طريق القاهرة الفيوم غرب منطقة الأهرامات ينتقل إليها النشاط السياحى والتجارى والاسكانى للقرية القديمة. حتى تكون أكبر تجمع حرفى سياحى استثمارى فى المنطقة يحمل الطابع المحلى للمكان معماريا وإنتاجيا واجتماعيا.
هذه هى صورة السياحة والتراث والبيئة المصرية فى عيون الخبراء الأجانب عسى أن يكون فيها درسا كافيا للتنمية السياحية والاقتصادية الاجتماعية العمرانية المتكاملة. إذا وجدت الآذان الصاغية.

word
pdf