السياحة والتراث والبيئة

السياحة والتراث والبيئة2019-12-03T14:38:03+00:00

السياحة والتراث والبيئة

د. عبد الباقي إبراهيم

الأهرام الاقتصادى 15/6/1992 

عقدت فى القاهرة أخيرا ندوة علمية نظمها الاتحاد الدولى للمعماريين لدراسة الثالوث المتكامل الذى يضم السياحة والتراث والبيئة وانتهت الندوة بحلقة عمل ساهم فيها خمسون خبيرا عالميا من دول مختلفة منها اليابان وأسبانيا وتركيا واليونان وايطاليا وأمريكا وبريطانيا بخلاف نظرائهم المصريين وركزت حلقة العمل على مقومات السياحة والتراث والبيئة فى المنطقة ما بين أسوان والأقصر وذلك خلال الرحلة التى قطعوها فى احدى البواخر السياحية وزاروا أثناءها أسوان وكوم امبو وادفو واسنا وانتهوا بالأقصر وقد نظمت حلقة العمل نشاطها خلال سبع مجموعات درست كل منها جانبا من جوانب الدراسة الشاملة التى تضمنت الحفاظ على الأثر. وتطوير المناطق الأثرية ومعالجة بيئة النهر. وتأكيد الطابع المعمارى. ووضع القواعد التشريعية والادارية. وتنظيم الحركة السياحية، وتحديد طاقات التجميل فى المشروعات السياحية. 

وتجىء هذه الندوة فى أعقاب ندوة أخرى مماثلة نظمتها جامعة يلدز فى اسطنبول فى شهر أكتوبر الماضى عن موضوع العمارة السياحية فى منطقة البحر الأبيض قضى فيها المشاركون خمسة أيام فى الندوة ثم خمسة أيام أخرى فى حلقة عمل فى احدى المناطق السياحية التى تشهد تطورا سياحيا مكثـفا جنوب تركيا. 

وهكذا يرتبط الفكر بالتطبيق. وهكذا تنتقل النظرية إلي الواقع. وهكذا يأخذ العلم طريقه إلي التنمية فلم تصبح التنمية السياحية عملية اجتهادية يديرها الأفراد تبعا لمرئياتهم أو أهوائهم الخاصة سواء عن خبرة سابقة أو بدون أى خبرة على الاطلاق والسياحة بطبيعتها صناعة حساسة تتأثر بكل الاجواء الطبيعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وهى أجواء متغيرة القوام متقلبة الرياح. لذلك فطنت بعض الدول إلي هذه الحقيقة فأقيمت فيها مراكز للبحوث والدراسات السياحية ومنها مركز جامعة يلدز فى تركيا الذى بدأ نشاطه فى أعقاب الندوة السابقة ويستمر نشاطه بالتوثيق والملاحظة وكذلك الملاحقة لسوق السياحة فى العالم ومدى تأثيره على تطور التنمية السياحية فى تركيا. وهى تستفيد من التجارب التى تعرضت لها السياحة فى غيرها من الدول المنافسة ومنها أسبانيا على سبيل المثال. وقد تدهورت مقوماتها البيئية حتى بدأت تؤثر تأثيرا سلبيا على هذه الطفرة السياحية التى شهدتها أسبانيا فى الحقبة الأخيرة إلي درجة أن المنظمات المعمارية الأسبانية بدأت تدعو إلي خفض الطاقة الفندقية لجزيرة مايوركا بحوإلي 5.%  حفاظا على التوازن البيئى الذى اختل فى هذه الجزيرة. 
وتقدم اليونان تجربة أخرى تحولت فيها المبانى السكنية لاحدى الجزر اليونانية بعد تطويرها إلي منتجعات سياحية أقبل عليها السياح بأعداد كبيرة إلي درجة لم تعد تتحمل فيها الجزيرة المشاكل الجانبية التى نتجت عن هذا الضغط السياحى الذى كاد يقضى على التوازن البيئى والحضارى للجزيرة الجميلة. 

وهكذا بدأت نظرية طاقة التجمل البيئى والاقتصادى والاجتماعى والبشرى تأخذ أهميتها فى برامج التنمية السياحية. وتتكرر المشكلة فى المناطق السياحية التى زارها خبراء العالم من المخططين والمعماريين عندما شاهدوا الاعداد الكبيرة من السياح وهم يتدفقون ويتزاحمون فى المعابد والمقابر الفرعونية حتى كادت تقضى على طبيعتها الأثرية ومقوماتها التاريخية. 

وهكذا يزيد الضغط السياحى على عناصر الجذب السياحى إلي الدرجة التى تكاد تفقد فيها هذه العناصر مقوماتها السياحية وتنتهى معها الحركة السياحية إليها. الأمر الذى يستدعى اعادة النظر فى هذه المشكلة الضاغطة فليس المهم ان يكدس السياح فى المناطق الأثرية حتى لا تفقدها إلي الأبد ، ولكن المهم ان يوزع هذا التكدس على مجالات أوسع حول الأثر سواء فى قرى سياحية ترفيهية رياضية أو فى حدائق تراثية. وذلك فى صورة متكاملة مع خفض تواجد السياح داخل الأثر إلي أقل وقت ممكن وذلك باطلاعهم على تاريخ الأثر ومعالمه التراثية قبل زيارتهم وذلك من خلال أفلام الفيديو فى فنادقهم الثابتة أو المتحركة حتى لا تكون الزيارة بعد ذلك الا للرؤية العابرة لموقع.  وهكذا يقل من التأثير السلبى على الأثر الذى هو واقع الأمر عنصر الجذب السياحى الذى تقوم عليه صناعة السياحة فى كثير من الأحيان. 

لقد تألمت عيون الأجانب من التلوث البصرى الذى يشوه المناطق الأثرية سواء فى قلب القاهرة التراثية التى تضم الآثار الاسلامية والقبطية أو فى المدن التى تضم الآثار الفرعونية وذلك بسبب ترك الحبل على الغارب لكل من هب ودب ليقيم حولها ما يشاء من منشآت عامة أو خاصة دون اعتبار لقيم معمارية أو حضارية وذلك بسبب فقدان الوعى عند المسئولين عن هذه المدن من ناحية وتخلف الفكر المعمارى من ناحية أخرى … وهكذا يساهم الانسان المصرى فى هدم المقومات الحضارية للمحيط العمرانى للأثر وتفقد الدولة بعد ذلك عنصرا آخر من عناصر الجذب السياحى كما تفقد الآثار اطارها الحضارى . هذا بخلاف ما تتعرض له المبانى الأثرية من التدهور المستمر فى بنائها المعمارى مما كاد يقضى عليها كلية على مدى سنوات المستقبل القريب وتفقد الدولة بذلك تاريخها وتراثها ومن ثم مقوماتها السياحية. كما تفقد الدولة مصدرا هاما من مصادر دخلها القومى. وقد تكررت الدعوة إلي ضرورة الحفاظ على ثروتها الحضارية والتاريخية … فقد ثبت عجز الدولة عن صيانة هذا الكنز العظيم لقد سبقنا فى هذا المضمار دول كثيرة من حولنا بدءا باليمن ثم المغرب وتونس وسوريا … وكونت لمدنها التاريخية أجهزة تقوم على صيانتها لديها كل صلاحيات الجهات المسئولة من الآثار والأوقاف والبلديات والنقل والمواصلات وغيرها من الجهات ذات الاختصاص … ويظهر أن دولاب الدولة يعمل بأسلوب الجزر المستقلة المتضاربة التوجهات التى لا تستطيع التعامل مع مجالات التنمية المتكاملة. لقد بدأت الدولة الدعوة إلي إنشاء جهاز الحفاظ على قاهرة العصور الوسطى عام 198. واعتبارها محمية قومية تخضع إلي مجموعة من المعايير والنظم والاجراءات الخاصة التى تعمل على تفريغها من كل العوامل الهدامة وتطويرها بما يخدم الأثر كما يخدم السياحة أيضا … واليوم تصدر عن حلقة العمل التى زارت المناطق السياحية والأثرية فيما بين الأقصر وأسوان توصيتها باعتبار المناطق على جانبى النيل فى هذه المنطقة محمية قومية تديرها هيئة خاصة أطلق عليها الخبراء اسم (نادا – NADA ) اختصار للترجمة الانجليزية لعبارة ” هيئة تنمية منطقة النيل NILE, AREA, DEVELOPMENT  AUTHORING  “لديها جميع الاختصاصات التنموية بما فى ذلك الجوانب البيئية والأثرية والسياحية والانتاجية والعمرانية وكذلك اعتبار بعض القرى فى المنطقة محميات معمارية. لقد حرص خبراء العالم على موضوع الحفاظ على المبانى الأثرية لدرجة أن أحدهم دعا إلي تغطية بعض المعابد بالرمال حرصا عليها من التدهور والحفاظ عليها للاجيال القادمة باعتبار أن آثار مصر هى الثروة القومية الحضارية . كما هى من المصادر الرئيسية للدخل القومى مثلها مثل النفط وقناة السويس بالاضافة إلي اعتبارها القوام الانسانى والحضارى للدولة. لقد صدرت فى هذا الشأن العديد من التوصيات واخرها التوصيات التى صدرت عن المؤتمر العلمى الذى نظمته كلية الاثار بجامعة القاهرة ودعت فيها إلي انشاء وزارة دولة للاثار ولكن يظهر ان تكرار مثل هذه التوصيات على مدى عشرات السنين السابقة كاد يفقدها موضوعيتها … اذ يظهر ان العالم كله فى واد والدولة هنا فى واد لم تستيقظ منه بعد. وكالعادة لا تستيقظ الدولة الا على صوت كارثة كغرق باخرة أو انهيار قرية أو حريق مبنى. أو ضياع أموال المواطنين فى شركات توظيف الاموال. أو تفشى المخالفات فى المبانى ،وكلها بعد فوات الاوان. 

ومع هذه الصورة القاتمة يفتح وزير السياحة طاقة من نور توجه شعاعها إلي التنمية السياحية المتكاملة بدءا بانشائه هيئة التنمية السياحية ودعمه لحلقة العمل التى ضمت مجموعة كبيرة من خبراء العالم لتقديم مرئياتها التى تدعم التنمية السياحية فى جنوب الوادى. والأمل معقود على تنظيم حلقات عمل أخرى تنظر بالعيون الاجنبية إلي التنمية السياحية فى سواحل البحر الأحمر وخليج العقبة والساحل الشمإلي الذى شاهد تدميرا للبيئة السياحية فى بعض أجزائه. كما ينتظر تطورا مستقبلا فى أجزاء أخرى منه حيث تعانى التنمية فيها من خلل فى تكامل المقومات السياحية المتمثلة فى ثالوث الجذب المكون من مياه البحر والمناظر الطبيعية والمعالم التراثية. وذلك لمواجهة المتطلبات السياحية لفئات السن والجنس المختلفة ، وتـتـناسب مع مستويات الدخل المختلفة ، ورغبات المجتمعات المختلفة العربية والأوروبية والأسيوية وخاصة اليابانية. هنا لابد أن يختلط الخبراء بالمستثمرين بخبراء الادارة فى حلقات العمل المختلفة فالتنمية السياحية لا يقرها فرد أو خبير أو مجموعة من الاقتصاديين والمخططين والمعماريين وخبراء البيئة والسياحة فقط ولكن لابد من ابراز دور المستثمرين وخبراء الادارة فى هذه المجموعة فهم أصحاب القرار الأخير فى التنمية السياحية، الأمر الذى غاب عن الندوة التى نظمها الاتحاد الدولى للمعماريين فى مصر ولم تغب عن الندوة التى نظمتها جامعة يلدز بتركيا. فلم تعد التنمية السياحية دراسات بيئية وتصورات تشكيلية ومخططات عمرانية ولكنها عملية تسويقية تقدم المنتج المناسب للعميل المناسب فى حدود اللوائح والنظم والمعايير التخطيطية والبيئية. لم تعد التنمية السياحية أشكالا وألوانا ولكنها أرقام واستثمارات وإدارة وتسويق وتشغيل وصيانة فى مشروعات تتوازن فيها قيم التجمل البيئى والاقتصادى والاجتماعى والبشرى فى منظومة واحدة متكاملة تضمن التوازن البيئى والايكولوجى لعناصر الجذب السياحى … لم تعد التنمية السياحية ابداعا فنيا أو عملا معماريا. ولكنها أسلوب عمل تتحدد فيه مرحليات التنفيذ ويواجه به المتغيرات السياسية والاقتصادية. إن فى التجربة التركية العديد من الدروس المستفادة. والتنمية السياحية فى مصر تحتاج للعديد من الخبرات والدروس المستفادة بوصفها أحد المكونات الرئيسية للتنمية الاقتصادية الاجتماعية. 

أكد الخبراء الأجانب من ناحية أخرى ضرورة التعايش الحضارى والثقافى بين السائح والمجتمع فكم من السائحين حاول التردد على القرى القريبة من الآثار للتعرف على حياة البشر فيها. فقد أصبحت هذه القرى من أهم المزارات السياحية التى لم تمتد إليها بعد يد التطوير أو التحديث. هذا مادعا الخبراء إلي اعتبار بعض هذه القرى محميات معمارية. وهذا أول اصطلاح يطلق على المستوى العالمى وإذا كانت قرية القرنة التى بناها المعمارى الراحل حسن فتحى قد انهارت مبانيها فلا أقل من إعادة التجربة بعد تطويرها فى القرنة الجديدة التى تزمع الدولة انشاءها لينتقل إليها سكان القرنة القديمة وهنا تتأكد الحاجة إلي مواجهة هذا التوجه الاجتماعى والثـقافى فى التنمية السياحية وذلك بانشاء قرى انتاجية خارج المدى المؤثر على الأثر بحيث تجمل عمارتها ومجتمعها كما يجمل انتاجها الطابع المحلى، مما يجذب إليها السائحين وليقضوا فيها وقتا إضافيا غير ذلك الذى يقضونه فى زيارة الأثر خاصة بعد اختصار مدد الزيارات بعد اطلاع السائحين على معالم الأثر بالفيديو قبل الزيارة. 

وفى هذا الشأن يذكر لمحافظة أسوان حرصها على تبنى هذه الفكرة بانشائها تجمعا سكنيا هو الآن تحت التنفيذ فى أطراف مدينة ادفو لتخفيف الضغط السكانى على معبدها … كما طرحت من قبل مشروعات لانشاء قرية انتاجية فى المحيط الخارجى لمعبد كوم امبو ولم يتم تنفيذه بعد وهنا لابد من إلقاء الضوء مرة أخرى على الاقتراح الخاص بانشاء قرية نزلة السمان الجديدة بهذا المفهوم على طريق القاهرة الفيوم غرب منطقة الأهرام ينتقل إليها النشاط السياحى والتجارى والاسكانى للقرية القديمة حتى تكون أكبر تجمع حرفى سياحى استثمارى فى المنطقة يحمل الطابع المحلى للمكان معماريا وانتاجيا واجتماعيا. 
هذه هى صورة السياحة والتراث والبيئة المصرية فى عيون الخبراء الأجانب عسى أن يكون فيها درس كاف للتنمية السياحية الاقتصادية الاجتماعية العمرانية المتكاملة إذا وجدت الاذان الصاغية.

word
pdf