الصحوة الكبرى للمعماريين المصريين … وتحديات المستقبل

الصحوة الكبرى للمعماريين المصريين … وتحديات المستقبل2019-11-25T11:08:18+00:00

الصحوة الكبرى للمعماريين المصريين … وتحديات المستقبل

   دكتور/عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

 

 

عندما أعلن السيد رئيس الجمهورية دعوته للصحوة الكبرى فإنما كان يعبر عما يجيش في صدور المواطنين من رغبة في الانطلاق والتجديد وتغيير العديد من الأوضاع التي توارثوها, وظلت فترة طويلة من الزمن كمياه راكدة تغطيها الطفيليات والطحالب حتى ملها المجتمع وأصابه اليأس منها .. ودعوة القمة إلى الصحوة الكبرى هي في الواقع موجهة إلى القاعدة العريضة من فئات الشعب لكي تحرك هذه المياه الراكدة وتزيل عنها الطفيليات والطحالب وتبعث فيها الحياة والحركة حتى يشع منها نور الحياة والأمل في المستقبل .

ولم تكن صحوة المعماريين المصريين في ديسمبر عام 1984 إلا تعبيرا عما يجيش في ضمير القيادة من رغبة في تجديد الدماء في شرايين الأمة حتى تعود لها حيويتها وقدرتها على التقدم والارتقاء. وذلك بعد أن فقدت المدينة  المصرية وجهها الحضاري في كرنفال العمارة وخلف غابة من اللافتات وتحت الكباري العلوية وخلال سحب الملوثات البيئية .. وبعد أن أصاب المدينة سرطان النمو العشوائي في أطرافها وامتد ليهدد قلبها النابض .. وارتفعت المباني الشاهقة على أنقاض تراثنا المعماري العريق وامتزج القديم بالحديث في صورة مشوهة وهبط المستوى المعماري في المدينة المصرية وأصبحت العمارة مهنة تلوكها كل الأفواه سعيا وراء المادة دون تقدير لقيم حضارية أو أصول فنية أو قواعد تخطيطية .. وتقف منظماتنا المهنية أمام كل ذلك لا حول لها ولا قوة فقد تشتت جهودها بين شعبة العمارة بوزارة الثقافة وجمعية للعمارة بوزارة الشئون الاجتماعية .. وشعبة للعمارة بنقابة المهندسين التي تهتم أكثر ما تهتم بمشاكل الأمن الغذائي واستصلاح الأراضي والاستثمار والتأمين والمقاولات .. وتؤمن بعد ذلك المعاشات لأعضائها وتقدم لهم بعض الخدمات الاجتماعية .. وبالرغم من أن لهذه المجالات أهميتها بالنسبة للاقتصاد القومي إلا أن لها مؤسساتها الخاصة والمتخصصة في أجهزة أخرى من أجهزة الدولة الأمر الذي يتطلب المراجعة والتقويم لهذه الأوضاع المقلوبة.

وبالمقارنة بما هو قائم في كل دول العالم المتحضرة لا نجد ما يسمى في الغرب بنقابة المهندسين الأمريكان مثلا أو في الشرق ما يسمى بنقابة المهندسين الروس, بل هناك مؤسسات مهنية ترعى كل منها تخصصا واحدا مهنيا وعلميا وتشريعيا, فمهنة المعمار لها مؤسساتها الخاصة التي تحافظ على حقوق المعماريين وتكفلهم برعايتها أثناء مراحل تكوينهم العلمي وبعد تأهيلهم الفني لممارسة المهنة ثم بعد ذلك في كل مرحلة تساعدهم على الارتقاء بالأداء والإنتاج … كما تؤمن لهم سبل التعاقد على الأعمال وتوفر لهم المجلات والدوريات وتقيم لهم الندوات والمؤتمرات وتضعهم على أحدث ما يصل إليه العلم في كل مجالات العمارة والبناء ثم هي تحافظ  على حقوقهم الأدبية والمادية بقوة القانون .. وتكرم الرواد منهم والعلماء .. وهكذا تتقدم جميع الدول من حولنا ونحن لا نزال نرقد تحت التراب المتراكم الذي تسللت منه الأفاعي من سماسرة الأعمال الاستشارية الذين تعلقوا بأذيال المكاتب الاستشارية الأجنبية التي قدمت إلى مصر عن طريق المعونات الأجنبية أو الاتصالات الشخصية في فترة الانفتاح معتمدة على قدراتها التنظيمية وخبراتها الفنية ومرتكزة إلى مساندة حكوماتها ومنظماتها المهنية .. هذا في الوقت الذي ظلت فيه منظماتنا المعمارية عاجزة عن الحركة بالقول أو بالعمل في مواجهة هذه الغزوة المهنية وذلك بسبب ضعفها التنظيمي وارتباطاتها النقابية .

وإذا كنا لابد أن نعترف بكفاءة الخبرات الأجنبية إداريا وتنظيميا وهو ما ينقص منظماتنا وخبراتنا المحلية إلا ان الخبرة الأجنبية لا تقدم خبرتها كاملة لوجه الله والوطن بل هي تتسابق إلى زيادة صادراتها من الخبرات كمدخل لزيادة صادراتها التجارية والصناعية .. وذلك في جو قلت فيه الخبرات المحلية المنظمة مهنيا وعلميا وأجهزة الدولة على جانب آخر تستدعي الخبرات الأجنبية وتتعاقد معها وتتعامل معها دون اعتبار للمنظمات المهنية المحلية التي ساعد المسئولون عنها على استيطان المكاتب الاستشارية الأجنبية واللبنانية واليمنية لتستقر في مصر وتستغل الخبرات المحلية في مشروعاتها داخل مصر وخارجها ثم يدعون أنهم يحرصون على الخبرة المحلية وانتماءاتها الوطنية. من هنا بدأت صحوة المعماريين المصريين متجاوبة مع دعوة رئيس الجمهورية للصحوة الكبرى فاجتمعوا على قلب رجل واحد تحت راية واحدة في مؤتمرهم الأول في إبريل 1985 الذي دعت إليه شعبة العمارة بنقابة المهندسين وجمعية المهندسين المعماريين وشعبة العمارة بالمجلس الأعلى للثقافة وجمعية احياء التراث التخطيطي والمعماري وعقدوه بمجهوداتهم الذاتية معتمدين على الله ثم على أنفسهم دون أن يمدوا أيديهم إلى غيرهم في المنظمات المهنية أو المؤسسات الحكومية.الأمر الذي أعطى قرارات المؤتمر الأول قوة الدفع والاستمرارية.  فعلى مدى عام كامل اجتمعت اللجان التي انبثقت عن المؤتمر الأول لتعد كل منها ورقة العمل التي كلفت بها لعرضها على المؤتمر الثاني للمعماريين المصريين في إبريل 1986 لتحقيق صحوتهم الكبرى والمعماريون المصريون ينتظرون باهتمام بالغ قرارات المؤتمر الثاني لجمع الشمل وإنشاء مؤسسة معمارية مهنية وعلمية مستقلة على غرار المنظمات المعمارية في كل دول العالم المتحضر مؤسسة مهنية وعلمية لها نظامها الداخلي ولائحتها التنفيذية التي تتضمن ميثاق شرف المهنة وأسس ممارستها وحقوق المعماري وواجباته وتضع أسس تطوير التعليم المعماري في مراحله الأولى قبل التخرج وبعده بما يتلائم مع متطلبات خطط التنمية القومية وفي ضوء التعليم العلمي العالمي كما تضع أسس المسابقات والجوائز المعمارية. لقد استشرى التسيب المهني في مصر وأصبحت العمارة مضغة مستساغة تلوكها التخصصات الهندسية الأخرى .. دون احترام للأصول المهنية أو القيم الحضارية .

إن ضعف المنظمات المعمارية الحالية لا يعفي أصحاب القرار في المشروعات العمرانية من مسئولية هبوط المستوى المعماري والتخطيطي في مصر .. فهم الذين استقطبوا الخبرات الأجنبية وهم الذين أبرموا معها الاتفاقيات دون مراعاة للمنظمات المعمارية القائمة أو احترام لأصول المهنة وقواعد ممارستها الأمر الذي تحرص عليه كل دولة متحضرة في العالم. فقامت الخبرات الأجنبية وشركاتهم يساندهم سماسرة العمارة في بناء المباني المرتفعة على جانبي النيل العظيم لتخفي جلاله وقدسيته وارتفعوا بالمباني الفندقية على أنقاض تراثنا المعماري والحضاري. واستوردوا أنماطا من عمارة الحديد يقيمونها في بيئتنا الحضارية القديمة دون مراعاة لمستقبل أو حساب لاستراتيجية الخروج من الوادي الأخضر. وتعددت الخبرات الأجنبية من كل جنسية تسعى إلى الحصول على أكبر قدر من البيانات والمعلومات وتقدم لنا في المقابل كمّاً من التقارير والمجلدات. لكل ذلك وتجاوباً مع الدعوة الوطنية للصحوة الكبرى التي نادى بها رئيس الجمهورية يستمر المعماريون المصريون في طريقهم نحو بناء عمران أفضل ومستقبل أرحب من خلال منظمات أكثر تنظيما وأقدر على العطاء حتى تعيد إلى مصر وجهها الحضاري المشرق مهنيا وعلميا ويأخذ المعماري المصري وضعه اللائق الذي تمتد جذوره إلى أعماق التاريخ وتشهد على قدراته آثار مصر على مر العصور. وحتى لا تترك أمور العمارة والعمران سداح مداح في أيدي العابثين بشرف المهنة والقيم الحضارية لمصر.

وإذا كانت الدولة تقوم في الوقت الحاضر بوضع قانون لتنظيم الأعمال الاستشارية ومن ضمنها الاستشارات المعمارية والتخطيطية. فإن ذلك لن يحقق أهدافه طالما بقيت المنظمات المهنية على وضعها النقابي الحالي. عاجزة عن الحركة أو العطاء للارتقاء بالمهنة تنظيميا وعلميا ويرقى بالعمارة وتحفظ حقوق المعماريين كما هو في كل دول العالم. لقد أصبح لقب الاستشاري التي تمنحه بعض النقابات بابا مفتوحا على مصراعيه تدخل منه التخصصات لتعمل في تخصصاتها وفي غير تخصصاتها واختلط الحابل بالنابل في مجال الخدمات الاستشارية وتدهورت بذلك كل المهن التخصصية معا. وهذا ما لا يحدث في أي دولة من دول العالم المتحضر. من أجل ذلك أيضا قامت صحوة المعماريين المصريين وهي واثقة من قدرتها على الحركة والعطاء بالجهد والعرق والإصرار. وهي واثقة أيضا من مساندة صاحب النداء القومي بالصحوة الكبرى والمؤيدين لها في الأجهزة التشريعية والتنفيذية, إن العالم يتحرك من حولنا بخطوات سريعة لا يمكن أن نلحق بها إذا استمر الأسلوب التي تتحرك به الأمور في مصر في الوقت الحاضر. إن المعماريين المصريين ينتظرون آثار الصحوة الكبرى في مقررات مؤتمرهم القادم .. فليس أمامهم إلا الجهد والإصرار والتكاتف والعمل على مواجهة تحديات المستقبل من أجل مصر الحضارة.

word
pdf