الطابع المعمارى بين الثقافة والتعمير والاعلام

الطابع المعمارى بين الثقافة والتعمير والاعلام2019-12-08T13:24:43+00:00

الطابع المعمارى بين الثقافة والتعمير والاعلام

الأخبار 17/7/1989

 
هذه الأيام ظهر الاهتمام المفاجىء بالطابع المعمارى لمصر ، وذلك من خلال تصريحات المسئولين فى وزارة الثقافة بصفتها المسئولة عن الـثـقافة القومية ، والفنون من أركان هذه الثـقافة ، والعمارة هى أم هذه الفنون … هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يظهر هذا الاهتمام من خلال المسئولين فى وزارة التعمير باعتبارها المسئولة عن كل ما يبنى فى مصر من منشآت معمارية خاصة هذا الحجم الضخم من اسكان ذوى الدخل المحدود. 
والمعماريون يتجهون تارة الى الثقافة للبحث عن حل لمشكلة الطابع فيقابلون بكل ترحاب واهتمام وحماس ، ثم لا يجدون لذلك أى صدى فى الواقع التنفيذى ، فليس فى وزارة الثقافة جهاز يرعى العمارة كالأجهزة الأخرى التى ترعى الفنون التشكيلية والموسيقى والفن الشعبى … 

ثم يتجهون تارة الى وزارة التعمير فيقابلون بكل ترحاب واهتمام وحماس واتخاذ القرارات التنفيذية الفورية لتشكيل اللجان والأجهزة التى تتعامل مع مشكلة الطابع المعمارى بهدف تطبيقه على ما يبنى أو يقام فى مصر من منشآت. 

هذا فى الوقت الذى تصدر فيه الوزارة أوامرها العاجلة والمشددة لسرعة بناء الالاف من عمارات الاسكان الاقتصادى التى لا تعدو أن تمثل قوالب طوب مرصوصة فى صفوف متوازيه لا تعبر عمارتها عن أى طابع، ولا يعبر تخطيطها عن أى قيم ، ويبقى موضوع الطابع معلقا بين النظرية والتطبيق فلا هو استقر كنظرية يمكن تطبيقها ولا وجد مكانا له على أرض الواقع … 
والدعوة الى ايجاد طابع معمارى يعبر عن حضارة مصر ونهضتها دعوة قديمة كتب فيها الكتاب وتحدث فيها المتحدثون وناقشتها الندوات والمؤتمرات واتخذت فى شأنها التوصيات والقرارات ، ولكن لم يظهر أى أثر لذلك على أرض الواقع فى كل ما يبنى أو يقام من منشآت عامة أو خاصة الا فيما ندر . 
واذا كانت للقطاع الخاص رغباته المتباينة وثقافاته المتفاوته وقيمه المختلفة ، ونتيجة لذلك له عمارته المختلفة فكرا وطابعا … فما بالنا بالقطاع العام الذى يمكنه أن يلتزم بفكر واحد وطابع متميز يمكن أن يعبر عنه فيما ينشئه من مبان عامة ومشروعات اسكان ؟ 

وللقطاع العام أجهزته المعمارية التى يمكنها أن تنهج هذا المنهج ومع ذلك فلا تزال بالرغم عما يصدر عنها من فلسفات ونظريات بعيدة كل البعد عن تحقيق هذا الهدف وهو ايجاد طابع عام تتميز به العمارة المصرية. 
واذا كانت مصر قد شاهدت مثل هذا الاتجاه فى الاربعينيات  والخمسينيات فى العديد من المبانى العامة التى أقيمت فى الصعيد على الطراز الفرعونى أو التى أقيمت فى الدلتا على الطراز الاسلامى فان ما يقام من هذه المبانى حاليا ليس له أى هوية محلية أو قومية أو عالمية. 

والعمارة ليست مثل غيرها من الفنون التشكيلية أو الموسيقية أو المسرحية يبدعها فنان واحد منطلق لاتحده أية قيود مادية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو تنظيمية أو قانونية أو سياسية كالتى تحد العمل المعمارى ، لذلك فان العمارة كمنتج فنى تعبر بصدق عن فن المجتمع بأسره فى الوقت الذى تعبر فيه الصورة أو قطعة النحت عن فن الفنان الفرد. 

وهنا تبرز أهمية الفن المعمارى فى بناء الشخصية المصرية فهو الفن الذى يراه كل الناس بكل مستوياتهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية يتعايشون معه فى الخارج ويعيشون فيه فى الداخل وهو الغلاف الثقافى الذى يحيطهم كل الوقت ، فهو ليس فن المعارض والصالونات أو فن الخاصة من الناس . ومع ذلك لا يلقى الاهتمام المناسب من الدولة لا فى اطار الثقافة أو فى اطار التعمير ، وبالتبعية لا يلقى هذا الفن الاهتمام المناسب من أجهزة الاعلام المقروءة أو المرئية ، واذا كانت هناك صفحات أسبوعية لفنون السينما والمسرح والموسيقى فلا يوجد أى عمود فى أى مجلة أو جريدة يعنى بفن العمارة أسبوعيا أو شهريا أو سنويا. 

واذا كانت هناك برامج تليفزيونية عن الفنون التشكيلية والسينما والمسرح والموسيقى فليس هناك أى برنامج عن فن العمارة اللهم الا اذا تدخلت الصدف لابراز هذا الفن خلال بضع دقائق على الشاشة الصغيرة !. 
واذا كان الشىء بالشىء يذكر فلنبحث عما جرى حولنا من اهتمامات بهذا الفن الشامل تضعنا فى نهاية الصف الحضارى المعاصر ، مع أن مصر كانت مهد الحضارة ونبع العمارة فى هذا العالم فهناك منظمة العواصم والمدن الاسلامية وقد انتهت من اعداد دراسة شاملة فى هذا الموضوع قدمتها فى خمسة مجلدات مع مجموعة كبيرة من الرسومات توضح فيها أسس التصميم المعمارى والتخطيط الحضرى معتمدة فى ذلك على المنهج العلمى فى التوثيق والتحليل والاستنباط وتضع العقيدة الاسلامية أساسا للفكر المعمارى بحيث  يبدأ العمل المعمارى هنا بالمضمون ثم يتم تغليفه بالشكل الذى يعبر عن الطابع الاسلامى. 

وهناك منظمة المدن العربية التى ترصد الجوائز المعمارية الكبيرة للعمارة العربية التى تبرز الطابع المعمارى الاسلامى ، وللمدينة العربية التى تحافظ على التراث المعمارى ، وللمعمارى العربى الذى يلتزم فى بحوثه العلمية وانجازاته المعمارية بالقيم الاسلامية… 

وهناك منظمة ” الاغاخان ” للعمارة الاسلامية التى تمنح أيضا الجوائز المعمارية للاعمال المعمارية التى تعبر عن الطابع المعمارى الاسلامى وسوف تقيم مهرجانها المعمارى فى قلعة صلاح الدين فى اكتوبر القادم لتحتفل فيه بتقديم هذه الجوائز للفائزين بها من المعماريين من كل أنحاء العالم ويصاحب ذلك برنامج ثقافى معمارى يتحدث فيه كبار المعماريين فى العالم. 
واذا كانت هناك منظمات اسلامية وعربية ودولية ترعى الفن المعمارى الاسلامى فهناك أيضا من الرؤساء والملوك والأمراء مايولى هذا الفن اهتمامه ورعايته. 
من هؤلاء الرئيس صدام حسين الذى أعطى الحركة المعمارية فى العراق دفعة قوية بالرغم من ظروف الحرب الطويلة الأمر الذى ظهرت نتائجه فيما يقام فى العراق من مبان ومنشآت تزخر بالقيم المعمارية والأصالة الحضارية والطابع المتميز. 

ومن هؤلاء الملك الحسن الذى أمر بتوثيق الفنون والعمارة الاسلامية فى المغرب توثيقا علميا أصبح مرجعا عالميا. 
ومن هؤلاء الأمير حسن ولى عهد الاردن الذى يرعى موضوع تأصيل القيم الحضارية فى العمارة المعاصرة. 
ثم هناك أمناء المدن الكبرى فى المملكة العربية السعودية والكويت وتونس والمغرب والعراق واليمن والامارات الذين يسعون دائما لتطبيق قرارات وتوصيات منظمة المدن العربية فى هذا الشأن حتى ظهرت فى العديد من هذه المدن نماذج معمارية مشرفة تعتبر أساسا لاضفاء الطابع المعمارى على المدينة العربية … واذا كان الناس على دين ملوكهم فقد ظهر اقتناع عند نسبة كبيرة من المواطنين الذين يرغبون فى اضفاء الطابع المعمارى على مشروعاتهم الخاصة. 

وبعد كل ذلك يظل الطابع المعمارى فى مصر معلقا بين الثقافة والتعمير والاعلام فى صورة شعارات وتمنيات لا تجد من ينقلها الى أرض الواقع . 

وعندما تظهر هذه الرغبة عند المسئولين يتسابق اليهم المتسلقون ممن أهدروا كل القيم المعمارية فى ممارساتهم المهنية يدعون أهليتهم للعطاء ، ويقف المفكرون من المعماريين مكتوفى الأيدى أمام ما يجرى حولهم دون حراك . خاصة وأن مصر مدعوة لانشاء نماذج معمارية تمثل الطابع المعمارى المصرى كغيرها من الدول المدعوه لانشاء نماذج معمارية تمثل طابع كل منها فى مناطق التعمير فى جنوب العراق … وهذه لفتة حضارية أخرى من الرئيس صدام حسين تعبر عن اهتمامه ورعايته للعمارة العربية المعاصرة نرجو أن تمتد آثارها فى أرجاء العالم العربى. 

فى أحد أركان مصر وفى هدوء تام دون ضجة أو اعلام أصدر المجلس التنفيذى لمحافظة الاسماعيلية قـــــرارا هاما بتشكيل ” لجنة الطابع ” ينحصر عملها فى التوجيه الفنى ومراجعة التصميمات المعمارية المقدمة مع طلبات تراخيص البناء للمبانى العامة والخاصة التى تنشأ فى المواقع الهامة والرئيسية من المدينة ، وذلك لضمان التزامها بالطابع المتميز للمدينة الذى سيصدر له دليل عمل خاص بحيث لا تصدر تراخيص البناء لهذه المبانى الا بعد موافقة لجنة الطابع على تصميماتها المعمارية. 

هذا هو الطريق وهذا هو المثل لكل المدن فى مصر … الذى يجب أن تسانده الثقافة والتعمير والاعلام.

word
pdf