العسل عسل البصل بصل فى تنمية القرية المصرية

العسل عسل البصل بصل فى تنمية القرية المصرية2019-12-08T14:58:46+00:00

العسل عسل 

البصل بصل فى تنمية القرية المصرية

دكتور/ عبد الباقى إبراهيم 

  الأهرام الاقتصادى 2/3/1987 

عندما يثار موضوع تنمية القرية المصرية … بين حين وآخر … أتذكر دائما مسرحية العسل عسل والبصل بصل … خاصة تلك الاهزوجة التى تقول “زمان- يوقد المصباح فيه بنور الزيت لا بالكهرباء … الخ ” فالواقع أن القرية المصرية قد تعرضت إلى العديد من المتغيرات … التى كان ظاهرها السياسى تقدما وتطورا ولكن ظهر فى واقعها التطبيقى تخلفا وتدهورا …. فعندما بدأ السياسيون يدعون إلى ضرورة كهربة الريف بهدف توفير الثروة الحيوانية وتشغيل الموتورات فى دوران السواقى هتف العامة والخاصة بهذا التحول الكبير … ولم ير أحد منهم المشاكل الجانبية التى نتجت عن هذا المشروع القومى … فالمواشى لم تتوقف عن الدوران فى السواقى … ولكن المجتمع نفسه وجد نفسه أمام عامل جديد يدير التليفزيون والفيديو والغسالة والثلاجة ثم جاء البوتوجاز … واختفى الفرن وسهر الناس حتى الصباح يشاهدون الأفلام المسجلة. 

وتغيرت أنماط الاستهلاك فى الريف وتحول الفلاح إلى المدينة يشترى من خبزها وقثائها وبلحها … وسافر إلى الخارج ليعود ليشترى قيراطين من الأرض التى كانت تغذيه ليبنى عليها منزلا أوعمارة لم يستعمل فيها الطين والحجارة … بل قلد المدينة وما بها من حضارة واستعمل الحديد والخرسانة وجرف الأرض ليحصل على الطوب الأحمر، فاختفت الملامح الحضارية للقرية وظهرت الملامح الحضرية… حتى أصبح من العسير التمييز بين الريف والحضر… 

فزاد ذلك من عوامل الاستقرار على الأرض الزراعية فطالب المجتمع بالمياه الصالحة للشرب تأتيهم من الصنابير وليس من الأزيار … فاختفت الجرة والزير وظهر الجرك والبرميل … ثم أقيمت الدورات والحمامات ولم يجد المجتمع مفرا من صرف المخلفات إلا فى المصارف والرياحات فظهرت الأوبئة والأمراض فبدأت الدولة فى الإنفاق على إنشاء المصحات والمستشفيات … وهكذا تزداد عوامل الاستقرار على الأرض الزراعية وتزداد الكثافة السكانية وتمتد الكتلة العمرانية تأكل الأرض أكل الدود لورق القطن دون مطهرات أو مبيدات … هنا وبعد نصف قرن من الزمان الذى كان يوقد المصباح فيه بنور الزيت لا بالكهرباء … خرجت اللوائح والقوانين تحدد الحيز العمرانى للقرية بطوق من حديد لا تمتد بعده مهما كان الأمر … فبدأ الامتداد إلى أعلى يظهر على سطح الأرض الزراعية فأقيمت العمارات وامتدت إليها الطرقات المرصوفة لتوفرللمجتمع سهولة الوصول، والناس فى زيادة مستمرة وكل ظروف العيش مستقرة فأين تذهب الزيادة المستقبلية بعد ذلك, ربما إلى أعلى مرة أخرى باستعمال المصاعد الكهربائية فتزيد الأحمال على الشبكات أوتنفجر المحطات … ويصرخ المجتمع مستنجدا بالغاز الطبيعى فتمتد الأنابيب إلى القرى وما تلبث أن تنفجر مع الانفجار السكانى … فتشب الحرائق وتزداد حدتها فالحطب لم يقض عليه بعد فهو دائما على رؤوس المساكن والعمارات … وتمتد الرقعة العمرانية بعد ذلك مخترقة هذه الأسوار الحديدية التى ضربتها قوانين الحفاظ على الأرض الزراعية … وتتصل القرى بعضها ببعض وتتصل معها الأنساب والأرحام ويزداد معها الزحام… 

وأخيرا ينعقد مؤتمر المهنيين يبحث عن وسائل تنمية القرية وإدخال أساليب جديدة لزيادة الإنتاج فيها كالصناعات الحرفية أوتطوير الوسائل الزراعية ويزداد الطلب على الطاقة التى لن تتحملها بعد ذلك أى طاقة. ولن توقف هذه الإجراءات الزيادة السكانية أو الامتدادات المكانية… فسوف تلتحم المدن بالقرى وتلتصق القرى بالقرى حتى تغطى الدلتا بمدينة كبيرة تعدادها مائة مليون نسمة بعد نصف قرن آخر من الزمان … فلننتظر لنرى !! بهذا المنطق السياسى يختفى المنهج التخطيطى … فالسياسة تسعى إلى إرضاء الرغبات الاتية للمجتمع بينما التخطيط يبصرهم بمصيرهم ومستقبلهم بكل صدق وصراحة .. حتى ولو كان ذلك يظهر بعيدا عن مبدأ عيشنى النهاردة وموتنى بكره … الذى يستغله الانتهازيون. 

وكان بالود أن يتعرض مؤتمر المهنيين إلى سبل زيادة عوامل الجذب إلى مدن وقرى مناطق التعمير الجديدة … مع زيادة عوامل الطرد من مدن وقرى المناطق القديمة، حتى ولو عدنا إلى إيقاد المصباح بنور الزيت لا بالكهرباء … فلنأخذ من ماضينا درسا ينير لنا سبل المستقبل. 

عندما بدأ العمل فى إنشاء طريق القاهرة الاسكندرية الزراعى … حذرنا أحد المسئولين من العواقب المستقبلية لهذا الطريق الذى لن يلبث أن يخترق المدن التى يمر بها … وإذا به يقول لقد عملنا لذلك حساباتنا الدقيقة فسوف يمر الطريق خارج المدن … قلنا … ولو … فالطريق دائما يجذب إليه العمران شئنا أم لم نشأ … وقلنا حينئذ لماذا لا تنفقون هذه الأموال التى جائتكم من المعونة الأجنبية على تطوير طريق القاهرة الاسكندرية الصحراوى … فهو الأجدى بالعناية … فهو المستقبل للامتداد العمرانى غرب الدلتا … وكان الجواب القاطع الذى ليس بعده سؤال أوجواب … إنه قرار سياسى لخدمة الجماهير فى وسط الدلتا … فخرست الألسنة … وانتظرنا حتى أصبح الطريق الزراعى يسمى بالطريق الصناعى لكثرة ما أنشىء على جانبيه من مصانع وعمران … وكاد يخترق قلب كل مدينة يمر بها … وبعد ربع قرن بدأنا التفكير فى تطوير الطريق الصحراوى … بعد فوات الأوان … والأوان هنا لا يدركه إلا علماء المستقبليات. 

وعندما ظهرت الدعوة إلى إنشاء الجامعات الإقليمية لخدمة المناطق الريفية ونشر العلم والمعرفة على كافة السهول والوديان … طلب منى المسئول عن إنشاء جامعة الزقازيق، وفى بدايتها كانت تتبع جامعة عين شمس أن أضع تصورا لتخطيط الجامعة الجديدة على مساحة 300 فدان زراعى غرب مدينة الزقازيق بصفتى مدرسا- فى ذلك الوقت- للتخطيط أولا وبصفتى أحد أبناء الزقازيق ثانيا … ولم يستطع المسئول رحمة الله عليه أن يحرجنى بهذا العرض الكبير … فسألته لماذا لا تختارون موقعا آخر على صحراء بلبيس فهناك اتساع من الأرض يستوعب الجامعة وإسكان علمائها وطلابها وهى على مسافة 22 كيلو متر من الزقازيق. وهنا تصبح مناهج الجامعة بكلياتها المختلفة موجهة نحو خدمة البيئة وزراعة الصحراء … 

وكأننى فى إحدى محاضراتى فى الكلية .. وإذا بالمسئول يقول هذا قرار نهائى … بل هو قرار سياسى لخدمة الجماهير العريضة … فخرست وانسحبت … وخسرت مشروعا من أكبر المشروعات العمرانية كان يطمع فيه شاب فى مستهل حياته العلمية.. ولكنه العبط الشرقاوى ! وانتظرنا لنشهد المشاكل الكثيرة التى نشأت عن إنشاء الجامعات الإقليمية على الأراضى الزراعية .. فهى تحتاج إلى إسكان … والإسكان إلى مرافق … والمرافق إلى موارد … والموارد إلى قروض … والقروض إلى التدخل الاقتصادى … وعدت إلى محاضراتى أعلم الطلبة علوم المستقبل من واقع رؤيا الماضى والحاضر وكانوا يتساءلون إلى متى يستمر هذا التناقض بين الفكر السياسى والفكر التخطيطى؟ قلت حتى أنتهى من دروسى معكم وأحال إلى المعاش … بل وبعد ذلك بكثير … فقد أحلت إلى المعاش … وأنا بعد ذلك بكثير … ولا يزال التناقض قائما … وكنت فى دروسى لا أحلل الواقع المصرى فقط ولكننى أقدم الحلول الواقعية … والنظرية … والمرحلية وكنت أشعر أننى أتحدث بين أربع حوائط لا يسمعنا إلا الله سبحانه وتعالى … وسبحان مغير الأحوال … 

وإذا تحدثنا عن المستقبليات فهو الحديث إلى أصحاب هذه المستقبليات إلى شباب اليوم … ورجال المستقبل … فبيدهم إتخاذ القرار إذا شاءوا ليكونوا فيما بينهم جماعات الخير … تتعاون على البر والتقوى وتخرج فى  فصائل الانتاج الزراعى لزراعة الأرض الصحراوية وبناء المساكن بجهودهم الذاتية … مع فصائل الانتاج الحرفى للعمل وبناء المساكن والمصانع الصغيرة بسواعدها الفتية فصائل الإنتاج التعاونى والإسكان التعاونى معا … 
هذه دعوة إلى الشباب … أخرجوا من القرى … أخرجوا من المدن ولا تقبلوا إسكانها المزدحم حتى ولو قدم إليكم بأقل الاسعار فليس فيها لكم أى عمل … أخرجوا لتضربوا الطوب وتبنوا بسواعدكم معا فى جماعات فالفرد الواحد لا يستطيع بناء مسكن واحد ولكن العشرة أفراد يستطيعون بناء عشرة مساكن طالبوا بالمساعدات المستحقة لكم من الهيئات التعاونية والبنوك الإجتماعية فمستقبل مصر فى الصناعات الصغيرة التى تبدأ على أيديكم وليس فى الصناعات الإلكترونية التى لا تستوعبكم … هو فى الزراعات اليدوية التى تحتاج إلى سواعدكم وليس فى الزراعات المحورية التى تستغنى عنكم لسد متطلبات عاجلة أو رغبات سياسية قصيرة النظر استفيدوا من تجارب الدول التى نمت من قبلكم … فى الهند أو فى الصين … ولا تنظروا إلى الدول المتقدمة التى ليس لها هدف إلا تسويق منتجاتها إليكم … وتربطكم بإقتصادياتها … وحضارتها.. وتفقدكم ذاتكم وزوادكم. أخرجوا فى جماعات عمل … حتى لو رجعتم إلى استعمال الزيت وليس الكهرباء … فى إضاءة المصباح … مصباح المستقبل.

word
pdf