العمارة الإسلامية في التعليم المعماري في العالم العربي

العمارة الإسلامية في التعليم المعماري في العالم العربي2019-11-24T15:13:50+00:00

العمارة الإسلامية في التعليم المعماري في العالم العربي

 دكتور عبد الباقي إبراهيم 

 رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية     

        وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمران 

وأستاذ التخطيط ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس 

 

دخل التعليم المعماري في بداية هذا القرن في الجامعات المصرية من خلال المناهج الهندسية التي استمدت من الجامعات الغربية وعلى وجه الخصوص من خلال الأساتذة الأجانب من مدرسة الهندسة العليا في زيورخ فبدأت المناهج المعمارية مندمجة مع مناهج الهندسة المدنية إلى أن انفصلت عنها واستقلت في السنوات الثلاث الأخيرة من البرنامج الدراسي الذي يغطي خمس سنوات. ثم زادت هذه الفترة حتى أصبحت المناهج المعمارية تغطي أربع سنوات بعد السنة الإعدادية المشتركة لكل التخصصات الهندسية الأخرى بحيث يختار الطالب التخصص الذي يناسبه مع الوضع في الاعتبار التوزيع الداخلي للأقسام تبعا للرغبات ونسبة درجات النجاح بغض النظر عن القدرات التحصيلية للطالب أو مواهبه الشخصية. وهكذا استمر مفهوم التعليم المعماري مرتبطا بالتعليم الهندسي مع أن العمارة لها شقين متكافئين هما العلم والفن.

وفي جانب آخر استجدت بالمدارس العليا للفنون الجميلة أقسام للعمارة على غرار المناهج العلمية للمدرسة العليا للعمارة في باريس واستمر مفهوم التعليم المعماري في هذه الحالة مرتبط بالفنون الجميلة مع أن العمارة لها شقيها العلمي والفني الأمر الذي حدى إلى استغلالية التعليم المعماري استغلالا كاملا في جامعات العالم سواء في صيغة أقسام أو كليات أو مدارس وبدأت بعض الجامعات العربية تحذوا هذا الحذو.

وجدير بالذكر أن نلاحظ ارتباط المناهج التعليمية للعمارة في الدول العربية بالمناهج التعليمية للدول الغربية التي استعمرت هذه الدول فترات طويلة من الزمن فمناهج التعليم المعماري في سوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب كانت ترتبط بمناهج المدرسة الفرنسية في العمارة – بينما مناهج التعليم المعماري في العراق و الأردن ومصر والسودان كانت ترتبط بمناهج المدرسة الإنجليزية في العمارة – وانعكس ذلك بطبيعة الحال على توجيه البعثات الدراسية إلى الجامعات الأوروبية سواء في فرنسا أو إنجلترا أو أمريكا الأمر الذي أضاف بعدا ثقافيا آخر على مناهج التعليم المعماري في الدول العربية, والعمارة الإسلامية في كل هذه المناهج لم تجد لها مكانها إلا كمنتج جانبي يذكر في مناهج تاريخ ونظريات العمارة المنقولة عن المناهج الغربية والتي تستمد جذورها من تاريخها الحضاري المعروف بدأ من حضارة اليونان إلى حضارة الرومان ثم العصور الوسطى ثم عصر النهضة ثم عصر الثورة الصناعية ثم عصر الفضاء – والحضارة الإسلامية هنا ليس لها مكان في هذا التسلسل التاريخي للحضارة الغربية, وهكذا لم تكن للعمارة الإسلامية مكانا في هذه المناهج التعليمية إلا من خلال إشارات سريعة لما كان يحدث في الأرجاء الأخرى من العالم أثناء التسلسل التاريخي لحضارة الغرب مثلها في ذلك مثل العمارة الهندية والصينية واليابانية والمغولية والروسية فكانت العمارة الإسلامية بذلك تعتبر منتجا جانبيا في مناهج التعليم المعماري في الغرب واستمر نفس هذا المفهوم في مناهج التعليم المعماري في الدول العربية. حتى فطنت إلى هذه الحقيقة بعض الجامعات العربية وأفردت لها أقساماً خاصة الأمر الذي يؤكد الانقسام الفكري من مناهج التعليم المعماري في العالم العربي. ومع ذلك فإن افراد أقساماً خاصة بالعمارة الإسلامية لا يزال موضع جدل ونقاش حول المسمى وكذلك المضمون والمنهج والشكل وخاصة ما يرتبط بالتكوين الفكري لمن توكل إليهم مهمة التدريس في هذه الأقسام ومدى تعمقهم في دراسة المضمون العقائدي في العمارة وانعكاس ذلك على الشكل وإلى أي مدى يمكن تعريف العمارة بأنها إسلامية وإتباع منهج تقديم العمارة التراثية بمقياسين الأول بمقياس المضمون العقائدي الإسلامي والثاني بمقياس التكوين الشكلي أو المادي للعمارة.

          وفي نفس الوقت اختصت بعض أقسام الآثار في كليات الآداب بالجامعات العربية بدراسة تاريخ العمارة الإسلامية من الناحية الأثارية وتخرج فيها المتخصصون والعلماء الذين مكنوا من الدراسة التاريخية للعمارة الإسلامية … وهي المفهوم المنهجي لدراسة العمارة التراثية التي ظهرت في العالم العربي شرقه وغربه, وفي الفترات التاريخية المحددة المعروفة بالعصور الإسلامية. وبذلك تحدد مفهوم العمارة الإسلامية بحدود المكان وحدود الزمان الأمر الذي يختلف عن مفهوم الحضارة الإسلامية التي هي حضارة كل مكان وكل زمان. وأكد علماء آثار العمارة الإسلامية بذلك الجانب الوصفي والوظيفي لعمارة العصور الإسلامية في الشرق والغرب من العالم العربي وأيدهم في ذلك علماء آثار العمارة الإسلامية من المستشرقين الذين برعوا في التأليف والنشر حتى كادت مراجعهم تطغي على المراجع العربية في هذا المجال وأصبح العالم العربي يستقي فكره التاريخي والتراثي من المراجع الأجنبية الفرنسية أو الإنجليزية.

          وزاد ذلك من بعد الشقه بين المضامين العقائدية للإسلام ومدى تحقيقها في العمارة وبين التشكيل الفني   للعناصر المعمارية التي تميزت بها العمارة الإسلامية كما يراها المستشرقون وكما يراها الأثاريون والمعماريون العرب إلى أن جاءت منظمة العواصم والمدن الإسلامية من خلال أمينها العام المعماري معالي المهندس عبد القادر كوشك ليحاول الربط بين المضمون العقائدي والتشكيل الفني للعمارة وذلك من خلال الدراسات الموسعة التي أجرتها المنظمة على مباني مدينة القاهرة بهدف التوثيق والتحليل والاستنباط. وبعد ذلك برزت الأهمية العلمية والحضارية لدراسة العمارة الإسلامية. من هذا المنطلق خرجت في شأنه التوصيات بضرورة تضمن هذه المفاهيم التعليم المعماري في العالم الإسلامي .. ومع ذلك لا تزال المناهج التعليمية في العالم العربي ترتبط بالمنهج الفكري للتعليم المعماري في الغرب وإن كانت تلجأ إلى بعض القشور السطحية باستعمال بعض المفردات المعمارية التراثية لتظهر بها اهتمامها بما يسمى العمارة الإسلامية الأمر الذي يختلف كثيرا عن تقديم المضمون العقائدي كأساس التشكيل الفني.

وإذا كانت العمارة في كل العصور هي المنتج الطبيعي للتفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع مع الخصائص الطبيعية السائدة في المكان … فإن دراسة المواد الإنسانية التي ترتبط بالحضارة الإسلامية تعتبر أساسا قويا في بناء الفكر المعماري الإسلامي – وهو ما ينقص الكثير من مناهج التعليم المعماري في العالم العربي. فالعمارة هنا هي حلقة من حلقات البناء الحضاري للمجتمع الإسلامي العربي اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا تؤثر عليها وتتأثر بها وتصبح المناهج التعليمية للعمارة الإسلامية مرتبطة أساسا بهذا المفهوم المتكامل للحضارة الإسلامية باعتبار العمارة منتج ثقافي أو فني كما هو منتج اقتصادي واجتماعي أيضا. الأمر الذي لم يتحقق بعد في مناهج التعليم المعماري في العالم العربي في الوقت الذي قوبلت فيه الدعوة إلى ضرورة تأصيل القيم الحضارية في العمارة العربية المعاصرة باهتمام بالغ من المسئولين في الدول العربية.

          وإذا ما رجعنا إلى المواد الدراسية في مناهج التعليم المعماري نجد فيها كما كبيرا من التخصصات سواء في النظرية المعمارية والفن التشكيلي أو النظرية الإنشائية أو في أساليب التشييد والبناء أو في مواصفات المواد والتركيبات والتجهيزات أوفي تقنية البناء في الصوتيات والإضاءة أو في إدارة العمليات وممارسة المهنة ويغيب عن ذلك المواد الإنسانية مثل تاريخ الحضارة الإسلامية وأسس الإقتصاد الإسلامي والمقومات الإجتماعية للمجتمع الإسلامي والبناء الثقافي للفكر الإسلامي وغير ذلك من المواد التي تؤكد خصوصية المناهج التعليمية للعمارة الإسلامية  في الدول العربية أو الإسلامية. وإذا كانت العمارة هي منتج لكل هذه الجوانب الحضارية فهي في العملية التعليمية لابد وأن تكون أيضا منتجا للتكامل بين المواد الدراسية حتى لا تعطى كل مادة على حدة … بل الأهم من كل ذلك هو كيفية تفاعل هذه المواد في بناء الفكر المعماري بإعتبارها روافد فكرية تغذي العملية التصميمية والتنفيذية للعمل المعماري.

إن تصميم العملية التعليمية في المناهج المعمارية يحتاج إلى دراية كبيرة وفكر متكامل يربط بين مسارات  العناصر المكونة لمواد الدراسة بحيث تصب جميعها في العملية التصميمية وذلك بما يتناسب مع إمكانية تحصيل الطالب في السنوات الدراسية المختلفة. من هنا تظهر أهمية دراسة الخلفية العلمية والثقافية والإجتماعية للدارسين حتى يمكن تفصيل المناهج بما يتلائم مع قدراتهم التحصيلية مع توفير المواد البديلة التي تتناسب مع القدرات الشخصية في التحصيل خاصة في السنوات النهائية للدراسة عندما تتبلور شخصية الطالب وينتقل من مرحلة الأساسيات إلى مرحلة الإبداع والإنتاج. كما تتطلب العملية التعليمية ركائز علمية لأسس تقويم الإنتاج الفكري للطالب في السنوات الدراسية المختلفة تبعا لقدراته التحصيلية. فالعملية التعليمية في المجال المعماري ترتكز أساسا على أسس التقويم والنقد العلمي الموضوعي وهذا ما لا توفره معظم مناهج التعليم المعماري في الدول العربية للأساتذة أو للطلبة على حد سواء. فالمنهجية في التعليم ليست قاصرة على معرفة الأستاذ بها ولكن أيضا على معرفة الطالب بها كشريك في العملية التعليمية.

          والتعليم المعماري من ناحية أخرى يحتاج إلى كم وفير من المراجع العلمية التي تهتم بالعمارة الإسلامية. وهو ما لم يتوفر بعد في المكتبة العربية حيث طغت عليها وفرة مطبوعات المكتبة الغربية ولا يزال ما ينشر عن العمارة الإسلامية محصورا في حدودها التاريخية والأثرية ولا تزال البحوث الأكاديمية تجري على العمارة التراثية لتحليل عناصرها ووظائفها لإثبات عبقرية السلف مع أن المهم هو إستنباط الثوابت منها وتطبيقها على العمارة المعاصرة مع ما يطرأ عليها من متغيرات. هذا في الوقت الذي لا يزال فيه الكتب الأجنبية هي المراجع الأساسية للنظرية المعمارية ولأساليب التشييد والبناء وجميعها نابع من تاريخ الحضارة الغربية ومن منجزات قدراته الصناعية الأمر الذي يضع طالب العمارة في العالم العربي بعيدا عن واقعه الحضاري من ناحية وعن واقعه العملي والتطبيقي من ناحية أخرى فيخرج من العملية التعليمية كمبتدئ يتحسس طريقه في واقع جديد عليه. وهكذا يضيع الطالب في الفجوة التي تقع بين النظرية والواقع … النظرية المستمدة جذورها من الفكر الغربي والواقع المتمثل بالخصائص الثقافية والإقتصادية والإجتماعية السائدة والبيئة المحلية. الأمر الذي لم يصل فيه التعليم المعماري في العالم العربي بفكر لسد هذه الفجوة العلمية. وإذا كانت العمارة هي نتاج للواقع الإقتصادي والإجتماعي والثقافي في المجتمع فلابد إذن أن توضع مناهج التعليم المعماري على أساس هذا الواقع ولابد أن يعقد المعماريون العرب مؤتمرا خاصا لتطوير التعليم المعماري بحيث يكون المنهج الإسلامي هو الموجه للعملية التعليمية سواء من الناحية النظرية أو التاريخية أو الفنية أو من الناحية التكنولوجية التي ترتبط بصناعة البناء المحلية ولا يقتصر الأمر فقط على وضع المناهج وتكاملها في العملية التعليمية ولكن لا بد من وضع الإطار العلمي والبرنامج العملي لتأليف مجموعات من الكتب والمراجع التي تخدم العملية التعليمية في المدارس المعمارية في الدول العربية … فتطوير المناهج هنا يرتبط بتطوير الفكر المعماري عند الأستاذ أولا حتى يمكن أن ينقله بالتبعية إلى القاعدة الطلابية, لذلك فإن مشاركة أساتذة العمارة في الجامعات العربية في تطوير العملية التعليمية  على أساس المنهج الإسلامي الصحيح … هو المفتاح إلى التطوير.

إن المناهج العلمية للعمارة الإسلامية تتطلب قاعدة فكرية نابعة من المنهج الإسلامي والقيم الإسلامية التي تحكم حركة المجتمع إقتصاديا وإجتماعيا وثقافيا. وهنا لابد من البحث عن القيم الإسلامية في القرآن الكريم والسنة المحمدية التي تسعى إلى بناء الفرد بناءا متكاملا ومتوازيا وبالقياس يمكن تطبيق ذلك على العمران. كما تتطلب المناهج العلمية أيضا عرض تاريخ العمارة الإسلامية من المنظور العقائدي وليس فقط من المنظور الشكلي أو التشكيلي حتى يمكن إستنباط القيم الثابتة التي يمكن أن تمتد إلى عمارة اليوم وعمارة الغد وحتى يمكن تحديد الخصائص المتغيرة بتغير المكان والزمان وتخلص هذه المناهج  إلى تحديد الأصول الملزمة والفروع التي فيها مساحة أكبر للإجتهاد.

وإذا كانت العملية التعليمية هي في حقيقتها أسلوب للتمرين أوالتمرس أولا على إتقان الحرفة ثم أعمال الفكر ثم استعمال المنطق فإن المواد الدراسية في السنوات المختلفة لابد وأن تتطور تدريجيا من البداية بالتدريب على إتقان الحرفة في الرسم المسطح والتجسيد الحجمي والتكوين الفراغي والرفع من الطبيعة والتعامل اليدوي مع مادة البناء وأساليب التشييد حتى يمكن بناء الشخصية الذاتية للطالب هذا في الوقت الذي يتلقى فيه الطالب النظم الحياتية في المعاملات والسلوكيات أو في الأساسيات الإقتصادية والإجتماعية أو في غير ذلك من التعاليم الإسلامية التي لها تأثير مباشر على العمران والمجتمع. والتي على ضوئها يمكن أن يدخل الطالب بعدها مرحلة متقدمة يتعامل فيها مع العملية التصميمية مستعملا في ذلك ما تعلمه من مؤهلات حرفية وقيم إسلامية تنفعه في العملية التصميمية بعد ذلك.

 فليس المهم للطالب في السنوات الأولى من بنائه الفكري أن يدخل مباشرة في العملية التصميمية بقدر ما يتفهم أسسها وأصولها وتعبيراتها. ويدخل الطالب المرحلة الثانية في العملية التعليمية لتطبيق ما تعلمه في سنوات الأساس على بعض المباني البسيطة ثم ينتقل بعد ذلك في المراحل المتتالية للعملية التعليمية حتى يتمكن من التعامل مع مشروعات مركبة يجمع فيها الطالب حصيلة المواد الأساسية التي تعلمها في السنتين الأولى والثانية من العملية التعليمية. وتعتمد العملية التعليمية في المرحلة الأساسية على إتقان الحرفة واستيعاب التعاليم الإسلامية كما يعتمد في المرحلة التالية على إستعمال المنطق الإسلامي في البحث والدراسة مع تطبيق تكنولوجيا البناء المتوافقة مع المجتمع الإسلامي في المكان المعين والزمان المحدد مع التعرف أيضا على الجديد في عالم البناء.

من هذا المنطلق يمكن وضع المناهج العلمية لتدريس العمارة الإسلامية إجمالا وتفصيلا للسنوات الدراسية المختلفة بحيث يلم بها الأستاذ كما يدركها الطالب. ولا تترك الأمور للإجتهادات الشخصية لكل أستاذ يعطي ما يشاء في أي وقت يشاء. ففي المناهج أصول تتفق عليها الجماعة ولا خلاف عليها كما فيها فروع تتحمل الإجتهاد والإختلاف. ومع ذلك فالعملية التعليمية لابد وأن تتعرض لجميع الإتجاهات والإجتهادات دون التحيز لاتجاه دون آخر حتى تتبلور للطالب شخصيته في المرحلة النهائية للعملية التعليمية أوربما بعد ذلك في الدراسات العليا. وهكذا يصبح المنهج العلمي للعملية التعليمية متضمنا زيادة الإلمام بالحرفة في السنة الأولى ويقل تدريجيا حتى السنة النهائية بينما يقل الإلمام بالنظرية في السنة الأولى وتزداد تدريجيا حتى السنة النهائية ويظهر هذا التوازن الفكري المتحصل تفصيلا في المحتوى العلمي للمواد الدراسية الذي يجب أن يعطي العناية الكافية.

 

word
pdf