العمارة … الديمقراطية …والأمل

العمارة … الديمقراطية …والأمل2019-12-11T12:11:59+00:00

المؤتمر الأول للمعماريين المصريين

العمارة … الديمقراطية …والأمل

للدكتور / عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

        إنعقد المؤتمر الأول للمعماريين المصريين في الفترة من 20 إلى 22 إبريل 1985 م, واشترك فيه حوالي أربعمائة معماري مصري حضروا من كل أنحاء مصر ولأول مرة في تاريخ العمارة المصرية ليتدارسوا حاضر العمارة المصرية ومستقبلها بعد فشل مؤتمر الاتحاد الدولي للمعماريين الذي عقد في القاهرة في يناير 1985, في إيصال رسالته للمعماري المصري الذي استضافه على أرضه .. لقد أظهر المؤتمر الأول للمعماريين المصريين قدرة المعماري المصري على العطاء الذاتي دون توجيه خارجي أو دعم مالي .. كما أظهر قدرة المعماري المصري على تحريك القوالب التنظيمية الراكدة مهنيا وعلميا ودفعها إلى الأمام بحثا عن مستقبل أفضل للعمارة والمعماريين المصريين. والمؤتمر بهذه الصورة المشرفة وبهذا المستوى العالمي في العطاء والتنظيم يعتبر علامة في تاريخ العمارة المصرية, فهو يفصل بين مرحلة الركود الذي خيم على الحركة المعمارية في مصر منذ ثلاثين عاما ومرحلة الانطلاق المهني والعلمي الذي بدأته لجان العمل المختلفة المنبثقة عن المؤتمر الأول لتقدم دراساتها إلى المؤتمر الثاني للمعماريين المصريين في إبريل من عام 1986

ما كان للمؤتمر الأول للمعماريين المصريين أن ينعقد بهذه الصورة المشرفة إلا في ظل الديمقراطية القائمة وفي حمايتها.. فالتحرك لإقامة هذا المؤتمر وتنظيمه نشأ تلقائيا من إحساس عام عند المعماريين المصريين بالتردي الذي أصاب العمران والعمارة المصرية خلال الثلاثين عاما السابقة.. فكانت الدعوة إلى عقد هذا المؤتمر تعبيرا ديمقراطيا عما يجيش في نفوس المعماريين المصريين من مرارة وألم لما أصاب التراث المعماري المصري من تحلل واندثار, ولما أصاب الثروة البنائية القائمة من تخلف واضمحلال ولما أصاب المنظمات المهنية والعلمية القائمة من تعثر وانغلاق, في هذا الجو القاتم قامت مجموعة من المعماريين المصريين بهذه الصحوة المعمارية تدعو إلى التجمع في مؤتمر يكون بداية لمؤثرات سنوية مستقبلة وهذا ما حدى بهم إلى تسمية تجمعهم بالمؤتمر الدائم للمعماريين المصريين, واندفع خلفهم جموع المعماريين من كل أنحاء مصر مشاركين بالاشتراكات والتبرعات. ونظمت المجموعة القيادية برنامج المؤتمر وأبحاثه ومطبوعاته ثم دعت المنظمات المهنية والعلمية القائمة للانضمام لها في هذه المسيرة المعمارية المباركة فلبت الدعوة وأيقنت أن الجميع يتبارون في العطاء ولا يتباروا إلى المناصب.. وأن هدفهم الأسمى هو الارتقاء بالمستوى الحضاري للعمارة والمعماريين في مصر. وهكذا بدأت حركة المعماريين المصريين تلقائية وما لبثت أن اتخذت صورتها الرسمية التي شارك فيها شعبة العمارة بنقابة المهندسين وجمعية المهندسين المعماريين وأقسام العمارة بالجامعات والهيئة العامة لبحوث البناء والإسكان وجمعية إحياء التراث التخطيطي والمعماري- وما كان لٍذلك أن يحدث إلا في ظل هذا المناخ الديمقراطي الذي يسود البلاد.. هذا المناخ الذي ساعد جموع المعماريين المصريين على دفع الحركة المعمارية في مصر وتحريك المنظمات المعمارية القائمة خاصة تلك التي ولدت في مناخ من التقييد السياسي والجمود الفكري.

بدأت جلسات المؤتمر تشرح الحالة المهينة التي وصلت إليها حالة العمارة والعمران في مصر تنظيميا ومهنيا وفنيا وعلميا وتبحث عن وسائل الخروج من هذا المنحدر الحضاري, فقد تم مراجعة ما هو قائم في أنحاء العالم من نظم مهنية وعلمية وتعليمية وما يجري حولنا في المنطقة العربية من متغيرات وتطورات مهنية وعلمية.. وذلك بهدف إضاءة بصيص من الأمل أمام شباب المعماريين المصريين الذين شاركوا في أعمال المؤتمر وعبروا عن يأسهم وآلامهم لما يجري على الساحة المعمارية في مصر. كما عبروا عن حالة الضياع التي يعانون منها في الحاضر القاتم والمستقبل الغامض. واستمرت جلسات المؤتمر بمشاركة موضوعية بنائة من جميع المشاركين من شباب المعماريين وشيوخهم بل ومن طلبة العمارة وأساتذتهم, فقام شباب المعماريين الذين قد عبروا عما أصابهم من يأس في بداية أعمال المؤتمر ليعبروا عما أحسوا به من أمل في نهايته التي اعتبرت بداية للأعمال التحضيرية للمؤتمر الثاني للمعماريين المصريين الذي سوف يعقد في القاهرة في إبريل 1986. بل والأكثر من ذلك سارع بعض من شباب المعماريين إلى التبرع بمئات الجنيهات للإعداد للمؤتمر القادم. وهكذا حولت ديمقراطية العمل وحرية الفكر والقدوة الحسنة.. حولت الجمود إلى عمل كما حولت اليأس إلى أمل.. أمل في مستقبل أفضل للعمارة والمعماريين المصريين, هذا الأمل الذي تبلور في الإقبال الشديد على مجموعات العمل السبع التي حددها المؤتمر لتقوم بنشاطها على مدى عام كامل تقدم في نهايته أعمالها إلى المؤتمر الثاني للمعماريين المصريين.. ولم ينسى المؤتمر في جلسته الختامية أن يذكر شباب المعماريين بالراحلين من رواد العمارة المصرية الذين كرموا على ما بذلوه في سبيل الارتقاء بالعمارة المصرية المعاصرة. وهكذا بدأ شباب المعماريين المصريين وكأنهم يصنعون التاريخ المعماري في مصر المعاصرة بهذه الصحوة المباركة.. وما ذلك إلا في ظل حرية الفكر وجدية العمل وطهارة القصد والاعتماد على الله ثم على النفس.. وهكذا بدأ المعماريون المصريون يجمعون أنفسهم على قلب رجل واحد ولخير وطنهم بعد أن كانت تجمعهم المنظمات الأجنبية التي تدعي العالمية أو الدولية ليتدارسوا حالهم في ماضيهم وحاضرهم.

لقد أجمع المؤتمرون على ضرورة عرض المشروعات المعمارية والتخطيطية ذات الصبغة القومية على جمهور المعماريين ليقولوا رأيهم فيها وليأكدوا ديمقراطية القرار الذي يتخذ بشأنها.. كما أجمع المؤتمرون على ضرورة تطوير التعليم المعماري وإنشاء كليات مستقلة للعمارة في بعض الجامعات بالتوازي مع أقسام العمارة في الجامعات الأخرى مع ضرورة زيادة سنوات الدراسة المعمارية واختيار الراغبين فيها مع إمكانية تخريج فئة المساعد المعماري الذي يشرف على تنفيذ الأعمال المعمارية بعد دراسة ثلاث سنوات جامعية في هندسة المباني ثم يستمر المؤهلون بعد ذلك في استكمال الدراسة المعمارية لمدة عامين أو ثلاثة أخرى.. كما أجمع المؤتمرون على أن ممارسة المهنة لابد أن يسبقها سنتين يتدرب فيها المعماري قبل أن يؤهل للممارسة حتى يتعرف على الجديد في عالم البناء, ولم يترك المؤتمرون موضوع الجوائز المعمارية فأجمعوا على ضرورة إنشاء جوائز معمارية بشروط معينة يتقدم لها المعماريون المصريون لتكون دافعا لهم على الإبداع والعطاء والبحث العلمي.. وهكذا بدأ المعماريون المصريون مرحلة جديدة في تاريخ العمارة المصرية..

ومع نهاية أعمال المؤتمر الأول للمعماريين المصريين بدأ العمل للتحضير للمؤتمر الثاني فقد تم اختيار السكرتير العام للمؤتمر الثاني, كما تشكلت اللجنة التنفيذية التي انبثقت عنها السبعة لجان, تبحث الأولى في التنسيق بين المنظمات القائمة والمكونة للمؤتمر الدائم للمعماريين المصريين, وتبحث الثانية في إعداد ميثاق شرف المهنة, وتبحث الثالثة في دراسة وتطوير نظم الممارسة, وتبحث الرابعة في إعداد المستندات والعقود المهنية, وتبحث الخامسة في التعليم المعماري, وتبحث السادسة في التأليف والترجمة والنشر, والسابعة في نظم الجوائز والمسابقات المعمارية.

ومن خلال اللجنة التنفيذية انبثقت مجموعة عمل تسعى إلى إنشاء إدارة للعمارة تتسع للمؤتمرات السنوية والمعارض المعمارية ومواد البناء واستعمالاتها.. وطرق المساهمة الذاتية في الإسكان, وغير ذلك من أنشطة تسعى إلى تغيير الوجه المعماري القاتم إلى وجه مشرق بالأمل.. كما تبحث مجموعة العمل أيضا طرح المشروع في مسابقة بين شباب المعماريين مع إمكانية مساهمة طلبة العمارة في الجامعات المصرية وهم حوالي ثلاثة آلاف طالب في عمليات البناء أثناء العطلات الصيفية كجزء من تدريبهم العملي وهم بذلك يساهمون به في بناء مستقبلهم المهني والعلمي, وسوف يمول المشروع بتبرعات المعماريين المصريين في مصر والخارج, هذا بالإضافة إلى إنشاء مؤسسة للتأليف والنشر المعماري لملأ فراغ الساحة المصرية والعربية من الكتب والدوريات حتى تنبع النظرية المعمارية المحلية من تراب مصر.. أم كل الحضارات.

هكذا تنبه المعماريون المصريون إلى أن أرض مصر هي نبع لكل خير.. ولكل أمل في مستقبل أفضل.. هكذا بدأ المؤتمر الأول للمعماريين المصريين باليأس الذي ما لبث أن تحول إلى أمل.. ثم إلى عمل في جو من ديمقراطية الفكر وطهارة القصد والاعتماد على الله.. ثم على النفس.

word
pdf