القاهرة إلى أين

القاهرة إلى أين2019-11-28T14:19:16+00:00

القاهرة إلى أين ؟

  د. عبد الباقى إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة للتنمية العمرانية سابقا

 

الأهرام 9/8/1995

 

 

تطل علينا القاهرة بمشاكلها بين الحين والحين أملاً فى البحث عن مخرج لها من هذا المستقبل القاتم الذى ينتظرها فى القرن الحادى والعشرين. وقد مرت القاهرة على طول تاريخها الطويل بالعديد من التجارب العمرانية التى أوصلتها إلى ماهى عليه حالياً. فليس من الإنصاف بأن نصفها بما ليس بها من أوصاف، فقاهرة المعز أصبحت تضارع أهم المناطق العشوائية عشوائية، وامتدادات القاهرة غرباً إلتهمت غذاء الشعب من الأراضى الزراعية وامتد عليها العمران فى حدوده التنظيمية وما لبث أن خرج عن الطوق فهدمت الفيلات لتقوم مكانها العمارات فازدادت مشاكل المدينة أمنياً وصحياً واجتماعياً وكلفت الدولة الملايين أوالبلايين لمواجهة هذا التضخم العمرانى فى الغرب، ولم يمر وقت طويل حتى تكررت المأساة فى الشرق على أرض مدينة نصر وفلت الزمام من أيدى المسئولين عن إدارة المدينة الكبيرة ثم زادت حدة العشوائيات شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً وامتدت كالأخطبوط المتنامى تحاول الدولة مواجهته بالملايين بل البلايين. والصورة لا تزال تزداد قتامة، والقاهرة بصفتها قلب مصر .. بل هى كل مصر فى نظر سكان الدلتا كما هى كل مصر فى نظر سكان الصعيد تتركز فيها كل أعصاب الدولة التنفيذية والتشريعية والاعلامية .

ومرت القاهرة بالعديد من التجارب التخطيطية كان آخرها فى الثمانينات عندما وضع الخبراء الفرنسيون لها إستراتيجية عمرانية تهدف إلى تفريغ القاهرة من قطاعاتها المتجانسة إلى عشرتجمعات سكنية خارج الطريق الدائرى .. لم يبدأ العمل إلا فى أربعة منها فقط، التجمع الأول والخامس والقطامية وآخرغرب القاهرة وذلك بالرغم من إعتراضات كبار المسئولين والخبراء على هذه الاستراتيجية ثم ظهرت على الخريطة العمرانية للقاهرة مدن العبور والشروق وبدر شمالاً وهى وإن كانت تسمى مدناً جديدة، فهى فى الواقع ضواحى مثل مدينة نصر تتحملها مرافق القاهرة وخدماتها. وأخيراً ظهر اتجاه إلى ربط التجمع الأول والخامس والقطامية فى حزام عمرانى واحد فى شرق القاهرة أعيد تخطيطه على هذا الأساس الذى ما يلبث أن يلتحم بمدينة بدر والشروق والعبور فى الشمال ليضرب حزاماً عمرانياً مترابطاً حول القاهرة ويزيد من مساحتها إلى الضعف ليستقبل مزيداً من السكان ليس بالضرورة الفائض السكانى من القاهرة ولكن من جميع مصادر الهجرة الداخلية ويصبح حجم القاهرة بذلك 18 مليون نسمة أى دولة أخرى داخل الدولة .. بل هى كل الدولة، وهو حجم يصعب إدارته خاصة وأن القاهرة تحكمها أجهزة حكومية متعددة، فوزارة النقل والمواصلات لها دورها فى إمتلاك وإدارة مرافق النقل والمواصلات ووزارة الثقافة لها دورها فى المناطق الأثرية ووزارة الكهرباء لها دورها فى مد المدينة بالطاقة ووزارة الاسكان والتعمير تقوم بتخطيط المدينة وإسكانها ويعنى ذلك أن الاستراتيجية العمرانية للمدينة يحكمها مجلس الوزراء أكثر من أى جهة أخرى وتقوم المحافظة بالإدارة اليومية. ويعنى ذلك أن آليات التنمية العمرانية لا تزال يتداولها العديد من الأجهزة المركزية التى تفتقر إلى التنسيق، فلا فائدة تذكر فى أى مخططات توضع ـ وما أسهلهاـ دون أن تصدرمعها اللوائح التنفيذية والإدارية والتشريعات العمرانية ودون أن توضع لها الأجهزة القادرة والآليات المساعدة فى متابعة التنمية العمرانية المتواصلة التى تسعى إلى تحقيق أهداف الإستراتيجية العمرانية التى تعتمدها الدولة للعاصمة ولغيرها من المناطق العمرانية، فالتخطيط العمرانى لا يزال عند العامة والمسئولين يعتبر عملاً هندسياً مع إنه إقتصادى وإجتماعى فى المقام الأول لذلك لجأت بعض الدول المتقدمة إلى دمج أجهزة التخطيط العمرانى بأجهزة التنمية الإقتصادية الإجتماعية لتحقيق التكامل بينهما، وتترك الجوانب التنفيذية للمحليات .

والقاهرة بحجمها المتنامى تتطلب طفرة كبيرة فى أسلوب إدارتها، فلا يعقل أن تخطط لها جهة وتقوم جهة أخرى بمد مرافقها وثالثة تقوم ببناء شبكات مواصلاتها ..

بل لا بد أن تأخذ محافظة القاهرة قواما إداريا جديداً خاصة بعد أن تضم إليها مدن العبور والشروق وبدر بجانب التجمع الأول والخامس والقطامية .. بذلك تستطيع محافظة القاهرة بأجهزتها بعد التطوير أن تقوم بتفريغ أحياء المدينة القديمة من الفائض السكانى إلى مناطق التعمير الجديدة دون وساطة أجهزة أخرى، وهنا يصبح المجلس المحلى عاملاً أساسياً فى تحريك السكان من الداخل إلى الخارج بكل ما يوفره من عناصر الجذب فى القطاعات الجديدة وعوامل الطرد فى القطاعات القديمة، الأمرالذى يستلزم إصدار قانون جديد لمحافظة القاهرة يوفر لها الصلاحيات المالية والإدارية لتنمية المدينة فى ظل الإستراتيجية القومية للتعمير .

ومع كل الآمال المستقبلية لمدينة القاهرة فلا يزال البحث عن عاصمة إدارية جديدة قضية مصرية بالنسبة للمدينة الكبيرة، فتحريك السلطة المركزية منها إلى الخارج ـ وليكن مدينة الاسماعيلية ـ سوف يزيل عبئا عن كاهل المدينة العجوز وإذا كان التخطيط يسعى إلى وضع الصورة المستقبلية للقاهرة  فإن هذه الصورة يجب أن تأخذ فى الإعتبار أن من أولويات تنمية المدينة الكبيرة هو نقل السلطة المركزية منها إلى موقع آخر، بهذا الإجراء سوف يخف تدخل أجهزة الحكومة المركزية فى شئون المدن وتبقى القاهرة يحكمها عمدة يرأس مجموعة من المحافظين فى الأحياء المختلفة ويصبح المجلس المحلى هو برلمان القاهرة والمشرع لها .

إن مستقبل القاهرة يستدعى بالضرورة حشداً كبيراً من خبراء التنمية الإقتصادية والإجتماعية والإدارية والعمرانية فى لجنة يصدر بها قرار جمهورى تحدد الوسائل والسبل التى يمكن بها تحقيق الإستراتيجية العمرانية للمدينة الكبيرة ويترك تفاصيل العمل والأداء إلى جهاز التنمية المتكامل للقاهرة بعد تطويره ودعمه بالخبرات العالمية، فمستقبل التنمية الإقتصادية الإجتماعية العمرانية لمصر يرتبط إلى حد كبير بمستقبل التنمية الإقتصادية الإجتماعية العمرانية للقاهرة التى تضم حوالى ربع سكان الدولة، وإذا كان هناك مشروع قومى لتنمية سيناء ومشروع قومى آخر لتنمية الصعيد فلا أقل من أن يكون هناك مشروع قومى آخر لتنمية القاهرة التى لا تتحمل تجارب غير المتخصصين أوالمغامرين كما لا تتحمل عبث العابثين من أصحاب الطموحات الشخصية فالقاهرة هى عاصمة كل المصريين تستحق أن تعالج مشاكلها على المستوى القومى بمشاركة كل المصريين. إن بناء الدولة العصرية التى يسعى إليها رئيس الدولة يبدأ بالقاهرة حتى تسترد مكانتها بين دول العالم بعد أن تدهور وضعها العمرانى والسكانى والبيئى، فقاهرة القرن الحادى والعشرين هى أمانة فى عنق رئيس الدولة قبل أى مسئول آخر .

إن الإدعاء بأن ما يجرى من تخطيطات سوف يشجع المواطنين على بناء ما يطلق عليه بيت العائلة يعوزه الكثير من الحقيقة والتبرير، إذا علمنا أن قانون العلاقة بين المالك والمستأجر لم يقر بعد وحتى المرحلة الأولى من القانون لم يتم عرضها على مجلس الشعب بالرغم من المناقشات التى دارت حول هذا الموضوع على مدى ثمانى سنوات وموافقة معظم القوى السياسية على ضرورة وضع حد لهذه العلاقة غير المتوازنة بين المالك والمستأجر، فكيف ننتظر من الساكن الذى يدفع جنيهات قليلة فى سكن قريب من عمله أن يتركه إلى مكان آخر. وهذا من أهم أسباب فشل تجربة المدن الجديدة فى تحقيق أهدافها التى خططت لها، فالمشكلة ليست فى قانون التخطيط العمرانى أو قانون تنظيم البناء الجديد وكل منهما يكمل الآخر دون تناقض أوتضارب ولكن المشكلة فى أن الدولة تعمل على تنمية المناطق الجديدة تحت نظام الإقتصاد الحر بينما ما زالت تتعامل مع مشكلة الاسكان فى المدن القديمة بالنظام الاشتراكى السابق. ومع هذا التناقض فى السياسة العامة للدولة تختل موازين التنمية الإقليمية والمحلية، وتتوقف كل المحاولات لتنمية المناطق الجديدة لإسكان القادرين من السكان وتبقى الطبقة الوسطى تنتظر العلاقة الجديدة بين المالك والمستأجر،  وما يتبعه من القانون الجديد لتنظيم البناء، أما الطبقة المحدودة الدخل من الفقراء فأمرها عند الله .. فعمارة الفقراء لم تدخل بعد دائرة إهتمام الدولة من خلال الجمعيات الخيرية لاسكان الفقراء التى لم تتكون بعد .

وتبقى مشاكل القاهرة جامدة متجمدة لم تتعرض بعد إلى الحلول الجذرية وتبقى مشاكل القاهرة تعالج فى المناسبات والمؤتمرات بالتوصيات. ولم يبق من أمل إلا فى رئيس الدولة عندما يعتبر تنمية القاهرة مشروعاً قومياً .

word
pdf