القاهرة التاريخية…. إلى أين؟

القاهرة التاريخية…. إلى أين؟2019-11-19T10:50:20+00:00

القاهرة التاريخية ….. إلى أين ؟


دكتور عبد الباقي ابراهيم


كبير خبراء الأمم المتحدة في التخطيط العمراني سابقاً

 

 

القاهرة التاريخية لاتزال فى الذاكرة بالرغم من ترهلها وفقدانها نصف اّثارها…وتقوى هذه الذاكرة وتضعف على فترات زمنية متباعدة كأن لها مواسم خاصة ، ففى عام 1980 إجتمع خبراء اليونيسكو لدراسة مستقبل المنطقة بعد تسجيلها كتراث عالمى وحاول رئيس هيئة الاّثار فى ذلك الوقت منع الخبراء والعلماء المصريين من الإشتراك فى هذه الإجتماعات حتى يستأثر بعلاقته مع اليونسكو لهدف فى نفسه ولكن الخبراء المصريون لم يقفوا مكتوفى الأيدى بل إقتحم ثلاثة منهم مقر الإجتماع وقدموا دراساتهم للحفاظ على تراثهم أمام الحضور وإنتهت الإجتماعات إلى عدد من التوصيات والإقتراحات العامة ولم ينفذ منها شىء
وفى عام 1983 قدم إلى مصر أحد المصريين من كبار المسئولين فى البنك الدولى يبحث عن سبيل لإنقاذ هذا التراث العالمى الفريد فى القاهرة التاريخية لحبه المتوارث أباً عن جد لهذا التراث ، فقام بالإتفاق مع محافطة القاهرة على إعداد دراسة إرشادية لتكون أساساً عملياً و علمياً لأسلوب الأرتقاء بالقاهرة التاريخية وتكون بمثابة كتاباً أزرق يجمع به البنك الدولى 400 مليون دولار للمساعدة على تطوير المنطقة وانتهت الدراسة بالتوصية بضرورة قيام هيئة قومية لتطوير القاهرة التاريخية تعمل فى إطار الحدود التاريخية للمدينة القديمة بحيث تنقل إلى الهيئة المقترحة إختصاصات الوزارات والهيئات ذات العلاقة بتطوير المنطقة بإعتبارها وحدة إدارية مستقلة على أن تكون هذه الهيئة القومية مستقلة فى إدارتها الفنية والمالية وتكون الجهة الوحيدة المنوط أعمال الإرتقاء بالمنطقة وذلك على غرار ماجرى فى مدن تاريخية أخرى مثل فاس وتونس وصنعاء وغيرها من الأمثلة ، ولكن أصحاب القرار لم يروقهم هذه التوجه الذى يسلبهم فرص العمل المفرد الذى يدعم مواقعهم ويظهر قدراتهم ، وهكذا أنتهت محاولة المسئول المصرى فى البنك الدولى وانسحب مليئاً بالإحباط واليأس وطويت صفحة من الذاكرة…لتفتح صفحة أخرى ، فقد صدر قرار لرئيس الوزراء بإنشاء لجنة فى مجلس الوزراء تضم وزراء الإسكان والثقافة والأوقاف للقيام بمهمة تطوير القاهرة التاريخية وإنتهز وزير الإسكان فى ذلك الوقت الفرصة لإنشاء جهاز خاص فى وزارته كجهاز تنفيذى للجهة لإنقاذ القاهرة الفاطمية وتوجه أعماله لجنة تضم ممثلين للوزارات والهيئات ذات العلاقة وقام الجهاز بمجهودات محدودة بسبب محدودية الإمكانيات والخبرات إلى أن كانت قمة إنجازاته ترميم الجامع الأزهر الذى هو فى الأصل من إختصاص وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للاّثار، وتسابقت الوزارتان بعد ذلك فى تقديم الإقتراحات للمشروعات لتطوير منطقة الأزهر…فاقترحت وزارة الثقافة إزالة كوبرى الازهر واستبداله بنفق من ميدان الاوبرا حتى شارع صلاح سالم واقترحت وزارة الاسكان الابقاء على الكوبرى وعمل نفق من نهاية شارع صلاح سالم وهدم مشيخة الأزهر الحالية وإنشاء ساحة كبيرة بين الجامع الأزهر ومسجد الحسين.. وانتهى السباق إلى الأخذ بالإقتراح الأول، وفى الحال بدأت الجسات والتصميمات لنفق الأزهر ثم بدأت الأعمال التنفيذية ورأت الهيئة العامة للأنفاق عرض هذا المشروع على المختصين والخبراء فى جمعية المهندسين المصرية بعد بداية العمل فى المشروع وقد أبدى بعضهم وجهات نظرهم التى تتعارض مع هذا المشروع .

وكانت هيئة الاّثار قد قامت قبل ذلك بعامين بالتعاقد مع البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة على إجراء دراسة شاملة للقاهرة التاريخية بتمويل من الحكومة الإيطالية قدرها 3 مليون جنيه وبدأت الدراسة وانتهت وأعتمدت دون مراجعة أو تقييم حتى من لجنة إعادة التوازن البيئى والعمرانى بمجلس الوزراء وبقيت هذه الدراسة سراً إلى أن إنكشفت نتائجها التى لاتقدم جديداً عما سبقها من دراسات متفرقة ، كما ظهرت نواقصها سواء فى حصر المبانى الأثرية أو فى وضع الهيكل التنظيمى والإدارى والمالى والجداول الزمنية والتنفيذية لتطوير المنطقة ، وطويت صفحة لتفتح أخرى لسباق اللجان، قفد صدر قرار رئيس مجلس الوزراء بتشكيل لجنة برئاسة وزير الثقافة تضم فى عضويتها وزراء الإسكان والدولة للتخطيط والأوقاف والتعليم العالى والدولة لشئون البيئة والداخلية ومحافظ القاهرة مهمتها تحديد مشاكل القاهرة التاريخية وطرق حلها ودراسة تطويرها ووضع الأس العلمية للتنفيذ والتنسيق بين الجهات المعنية مع وضع خطة العمل وكيفية التنفيذ .

واشتمل قرار رئيس مجلس الوزراء أيضا على تشكيل لجنة إستشارية للجنة الوزارية من سبعة أعضاء من كبار الخبراء المصريين ولم يحدد القرار مهام هذه اللجنة ، ولكن نص قرار مجلس الوزراء على أن يكون للجنة الوزارية أمانة فنية تتبع وزير الثقافة تتولى الإعداد لإنعقاد اللجنة وتقدم لها البيانات والمعلومات وتعد التقاريرالشهرية عن أعمالها وتتابع تنفيذ قراراتها وتوصياتها ولكن دون فعالية تذكر. ثم صدر قرار آخر لرئيس مجلس الوزراء ينص على تشكيل لجنة للإشراف على تنفيذ مشروع القاهرة التاريخية برئاسة محافظ القاهرة وعضوية رؤساء القطاعات الذين يرشحهم وزراء التخطيط والتعاون الدولي والثقافة والداخلية والدولة للتنمية الإدارية والدولة لشئون البيئة. وقد وصل أعضاء اللجنة الى ما يقرب من ثلاثين عضوا كل له إدارته الخاصة في هيئته الخاصة في وزارته الخاصة. ونص القرار أن لهذه اللجنة أن تستعين بمن ترى الإستعانة به من ذوي الخبرة والمتخصصين في المجالات الهندسية والمعمارية والفنية والأثرية والتاريخية وغيرهم وهي الخبرات التي تتوفر في اللجنة الإستشارية للجنة الوزارية الأولى ونص القرار الثاني على أن تقدم لجنة الإشراف على تنفيذ القاهرة التاريخية تقريرا شهريا بنظام العمل في المشروع ومراحل تنفيذه مع أنه ليس هناك مشروع متكامل محدد الأبعاد الفنية والتمويلية والإستثمارية والإدارية والبرامج التنفيذية ، إذ نص القرار على أن مشروع التطوير بداية من شارع المعز والمنطقة المحيطة به دون تحديد واضح وهو ما يقوم به المخططون لوضع الصورة المتكاملة لمثل هذا المشروع وتنفيذه على مراحل تبعا للقدرات المالية والفنية المتوفرة ولكن ترك أمر ترميم الآثار وإعادة توظيفها لهيئة الأثار و تطوير البنية الأساسية و التخلص من المياه الجوفية بهيئة الصرف الصحي أما ترميم المباني ذات القيمة المعمارية المتميزة فلأجهزة أخرى وكذلك الإرتقاء بالمباني القائمة وإضفاء الطابع العام للمنطقة عليها فيوكل الى غيرها أما استثمار المناطق المتدهورة في أنشطة تتناسب مع طبيعة القاهرة التاريخية فيوكل للهيئة المتخصصة و تطور المرافق السياحية فيوكل لوزارة السياحة وأما تطوير الخدمات العامة من تعليمية وصحية وتجارية فيوكل لأصحاب الإختصاص ويوكل للمحافظة تطوير شبكة الطرق ومسارات المرور و نزع الملكيات أو إزالة الأنشطة الملوثة للبيئة والتي لا تتناسب مع الطبيعة العمرانية للمنطقة كل ذلك دون تحديد لجهاز واحد قائم على وضع البرامج الزمنية والآليات التنفيذية والموازنات الإستثمارية ..في عملية واحدة متكاملة الأبعاد والمراحل وتخضع للأسس العلمية لإدارة عملية التنمية والتطوير بكل عناصرها الأمر الذي لا تنفع معه اللجان ولجان اللجان. بل يحتاج الى تفرغ الخبراء والمتخصصين في جهاز قومي واحد كما هو الحال في معظم الحالات المشابهة. ومع كل ذلك يكون وزير الثقافة لجنة تنفيذية أخرى برئاسته وعضوية عدد من خبراء الآثار والهندسة والعمارة من خارج اللجنة الإستشارية للجنة الوزارية لتقوم بدورها بوضع الخطط التنفيذية على مدى ثمانية سنوات ومقسمة على أربع مراحل هكذا دون تحديد لعلاقة هذه اللجنة التنفيذية باللجنة التنفيذية التي يرأسها محافظ القاهرة. وفي خلال كل هذه الأحداث يجتمع المهتمون بتطويرالقاهرة التاريخية من علماء ومثقفين ليكونوا فيما بينهم ما أسموه بالجمعية الأهلية للإرتقاء بالقاهرة التاريخية، وقد أختير لها مجلس إدارة مؤقت ينتظر التصريح له بالعمل المتوقف وفي ناحية أخرى تظهر هيئة الأوقاف في الصورة وهي التي تمتلك حوالي 90% من آثار القاهرة التاريخية و تؤجرها وتستثمرها دون إعتبار لأهميتها التاريخية إذ أنها الهيئة المسئولة عن إستثمار أموال الوقف.. كما تظهر مديرية الإسكان في المحافظة لتقترح إشتراطات البناء للقاهرة التاريخية دون دراسة عمرانية متخصصة لطبيعة النسيج العمراني للمنطقة والطابع المعماري لقطاعاتها المختلفة وما يجب أن يكون عليه العمران في المدينة التاريخية لتحقق أهداف الإرتقاء بالمنطقة وتطويرها، كل ذلك واللجان تجتمع بين حين وآخر حيث يتبارى كل عضو منها بالإدلاء برأيه ورؤيته للمشروع وكل يعيد ما سبق نشره من بيانات وإحصائيات ودراسات وأهداف وتوصيات ويراجع الشكليات ويقدم الإقتراحات ويشرح الإنجازات وتنقسم اللجنة التنفيذية بعد ذلك الى مجموعات فرعية هي أقرب الى اللجان منها الى مجموعات العمل . تقوم المجموعة الأولى بحصر وتصنيف وترميم الآثار والثانية للبنية الأساسية والثالثة للبيئة المحيطة والرابعة للطرق ومحاور المرور والخامسة للملكية والنواحي القانونية وتتوالى إجتماعات اللجان وتتوالى المداخلات وتحرر المحاضر، وهكذا تدور القاهرة التاريخية في دوامة اللجان وتبقى آليات التنفيذ مفتقدة دون تكامل الرؤيا لأسلوب إدارة عملية التنمية العمرانية لتطوير القاهرة التاريخية والتي يقوم محافظ القاهرة الآن بإدارتها كمدير للمشروع وهي وظيفة تحتاج الى تفرغ كامل لإدارة جهاز متفرغ يعمل بأحدث النظم الفنية والإدارية والمالية وتنتقل اليه كل إختصاصات الهيئات والوزارات والإدارات ذات العلاقة بالقاهرة التاريخية كما يقول العلم في إدارة عمليات التنمية الحضرية .

word
pdf