القاهرة القديمة والاستثمار الضائع

القاهرة القديمة والاستثمار الضائع2019-12-04T08:51:51+00:00

القاهرة القديمة والاستثمار الضائع

  الدكتور/ عبد الباقي إبراهيم 

الاهرام الاقتصادى 12/8/1991

تعنى كل الدول النامية منها والمتقدمة بالإرتقاء بالمستوى العمراني لمدنها القديمة ليس من باب التفاخر والتباهي بالماضي الغابر ولكن من باب الإستثمار الاقتصادي بجانب الاستثمار الحضاري … وإذا كانت الدول المتقدمة قد حولت مدنها القديمة إلى مناطق للجذب السياحي والتجاري والإدارى فإن بعض الدول العربية قد إتبعت نفس القصد والمنهج والأمثلة واضحة جلية في مدينتي فاس والرباط بالمغرب وغردابة في الجزائر وتونس القديمة في تونس وصنعاء في اليمن وجدة في المملكة العربية السعودية ودمشق في سوريا وسوف تتبعها مدينة حلب في القريب العاجل. وتزخر هذه المدن بالتجارب التطبيقية والتنظيمية والإدارية التي يمكن أن تكون قاعدة نافعة لتطوير القاهرة القديمة التي تاهت المسئولية عنها بين أجهزة الدولة المختلفة في وزارة الأوقاف صاحبة الأرض والمباني التراثية وهيئة الآثار المسئولة عن صيانتها ومحافظة القاهرة مانحة التراخيص بالبناء ووزارة التعمير المسئولة عن المرافق والإسكان ووزارة الداخلية المسئولة عن الأمن والمرور، ووزارة السياحة التي تحاول جذب السياح وليس لها شأن بالمزارات.

ويظهر أن الدولة قد بدأت تستشعر الأهمية الإقتصادية للإرتقاء بالقاهرة القديمة فشكلت لذلك لجنة وزارية تضم التعمير والثقافة والسياحة والحكم المحلى. وكغيرها من اللجان التي لا تعمل بأجهزة فنية ظلت قاصرة عن العمل إلى أن شكلت وزارة التعمير في إطارها جهازا خاصا بتطوير القاهرة القديمة يعمل بمجلس إدارة يضم مندوبين للوزارات المعنية ما لبث أن تحول إلى لجنة تنفيذية تتحسس طريقها للعمل…  وأمامها تجارب المدن العربية التي سبقتها في هذا الشأن. فقد بدأ تكوين جهاز إنقاذ مدينة فاس العتيقة في المغرب منذ خمسة عشر عاما أنجزت خلالها العديد من المشروعات ومرت خلالها بالعديد من التجارب التي أثرت خبرتها في هذا المجال، وعلى نفس المنوال عمل الجهاز الخاص بتطوير صنعاء القديمة منذ أكثر من خمس سنوات اكتسب خلالها كثير من الخبرات التي يمكن الإستعانة بها في تطوير القاهرة القديمة عمليا وتنظيميا وإداريا….

لقد مرت القاهرة القديمة بالعديد من الدراسات والبحوث النظرية والمعمارية والتخطيطية التي لم تنته إلى صيغة تنفيذية بالرغم من التوصيات التي صدرت بشأنها في إجتماعات خبراء اليونسكو في القاهرة عام 1980. أوفي الدراسات التي عالجتها عام 1985 بمبادرة من البنك الدولي عسى أن يوفق لإقناع المؤسسات الدولية للمساهمة بما يقرب من أربعمائة مليون دولار لتطوير القاهرة القديمة بإعتبارها تراثا عالميا يسعى العالم للحفاظ عليه، ولكن لم يجد البنك نتيجة من مبادرته فتراجع منتظرا فرصة أخرى إذا أبدت الدولة رغبة في الإهتمام بتطوير القاهرة القديمة بصورة جدية… والبنك هنا يهمه في المقام الأول أن يستشعر جدية الدولة في تكوين جهاز خاص بتطوير القاهرة القديمة لديه إختصاصات كل الأجهزة المعنية بحيث تنقل إليه اختصاصات وزارة الأوقاف والثقافة والتعمير والحكم المحلى فيما يتعلق بهذه المنطقة على أن يتم ذلك بقرار وزاري أوجمهوري يعطى الجهاز الجديد كل الصلاحيات الإدارية والمالية كهيئة عامة تتعامل مع القاهرة القديمة بالأسلوب الإستثماري الإقتصادي مع الحفاظ على القيم الحضارية للسكان وتوفير الخدمات العامة فيه. وهو الأسلوب الذي تتبعه هيئات التنمية العمرانية لمناطق محددة من المدن كما في هيئة تطوير منطقة الميناء القديم في لندن وغيرها من هيئات تنمية المناطق المختلفة من المدن البريطانية. والمهم هنا هو الاهتمام بالجوانب الإدارية والتنظيمية بقدر الإهتمام بالجوانب الفنية والعلمية.

وإذا كانت وزارة السياحة تسعى حاليا لإنشاء مثل هذه الهيئات لتطوير المناطق السياحية… ليس فقط في تطوير المكون السياحي ولكن أيضا في تطوير المكونات الإقتصادية المكملة مثل التنمية الزراعية والصناعات الحرفية والمرافق والخدمات العامة الأمر الذي قد يخرج من إختصاصات الوزارة في الترويج السياحى. ويجدر الإشارة هنا إلى أن البنك الدولي الذي يدعم وزارة السياحة في هذا الاتجاه لابد وأن ينتظر قيام هيئات التنمية التي يمكنها القيام بتنفيذ ومتابعة أعمال التنمية العمرانية الشاملة للتنمية السياحية مع غيرها من مكونات التنمية الأخرى، فالتنمية هنا ليست خطة أومخططات توضع على الورق بقدر ما هى عملية مستمرة تتعامل مع المتغيرات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية فى سوق متغيرة المعالم.

إن تطوير القاهرة القديمة يختلف فى طبيعته عن تطوير غيرها من المناطق فهنا يختلط التراث بالحضارة بالمشاكل المعقدة للمجتمع والمنطلقات الإقتصادية والإدارية والتنظيمية.
هنا التحدى الحقيقى للخبرات المتكاملة التى تعمل فى إطار البرامج الزمنية واللوائح الإدارية والمالية المساندة مع كفاءة الأداء وقوة العلاقات العامة الداخلية والخارجية التى تجعل من العملية المستمرة لتطوير القاهرة القديمة حدثا حضاريا متجددا على المستوى المحلى والعالمى. فتطوير القاهرة القديمة لم يعد من باب الحفاظ على التراث بقدر ما هو مشروع إستثمارى بكل عناصره وجزئياته يرقى إلى المستوى القومى والعالمى الأمر الذى يستدعى تركيز سلطة التخطيط والإدارة والمتابعة فى هيئة إستثمارية واحدة بعيدا عن الإنفعالات الوقتية التى تظهر على الساحة من وقت لآخر مثل تخطيط منطقة الجمالية أواستغلال منطقة باب العزب أوالحفاظ على المبانى الأثرية التى تنهار الواحد تلو الآخر نظرا للمسئولية الضائعة بين العديد من الجهات والهيئات التنفيذية التى تضيع فيها فرص الإستثمار السياحى والتجارى والحرفى والثقافى والحضارى.

word
pdf