القاهرة تتحضر

القاهرة تتحضر2019-11-25T12:47:46+00:00

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القاهرة تتحضر

السيد رئيس تحرير مجلة أكتوبر

            السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،،،

ردا على ما جاء في المقالات الثلاثة التي نشرت بالمجلة باسم الدكتور حسين مؤنس تحت عنوان ” لن تموت القاهرة ” أرجو أن أبعث إليكم بهذا الرد .

         القاهرة تحتضر

تحت عنوان ” لن تموت القاهرة ” أفاد الدكتور حسين مؤنس على مدى ثلاثة مقالات متتالية قضية ترتبط بحياة القاهرة . بل هي القضية الحضارية الأولى في مصر. ليس في القاهرة وحدها ولكن في كل التجمعات السكنية في الريف والحضر وإن كان لم يصبح هناك فرق كبير الآن بينهما .. وكلاهما في الهم سواء .. المدن تعاني من أمراض الريف – كما يقول الدكتور حسين مؤنس- والقرى تعاني من أمراض الحضر. ساكن المدينة يريد أن يعود إلى القرية ليجد فيها  الهدوء والراحة .. وساكن القرية يريد أن ينزح إلى المدينة هربا من سوء الخدمات وقلة الموارد .. إننا لا نستطيع إذن وبهذا التداخل والترابط بين الريف والحضر أن نلقي اللوم على الأسلوب القروي في معالجة أمراض المدينة أو على الأسلوب الحضري في معالجة أمراض القرية. فالمجتمع المصري ريفي في قلبه .. حضري في تطلعاته .. وهذا هو الوضع الحضاري الذي أوجد كل هذه التناقضات وما تسبب من أمراض للمدينة والقرية على حد سواء .

إن العمران على مر العصور كان المرآة التي تنعكس عليها حضارات الشعوب والحضارات على مر العصور كانت نتيجة طبيعية للتفاعل الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي لهذه الشعوب . فالعمران إذن هو المرآة التي تنعكس عليه الأوضاع الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا يمكن الفصل بين العمران وكل هذه المؤثرات فهو في الواقع النتيجة الحتمية المجسمة لتفاعلها معا. وهذا هو الواقع الذي تأثرت به القاهرة وغيرها من مدن وقرى مصر على مر السنوات الماضية والذي أدى بها إلى ما هي عليه الآن من تزاحم في البناء وفوضى في المرور وهبوط في النظافة وتدهور في المرافق .

وفي جميع الأحوال لا يمكن إلقاء اللوم على البيئة الريفية أو العقلية القروية التي تعالج بها القاهرة .. أو غيرها من المدن .. وكأن المدن الكبرى ليست إلا صروحا حضارية مستقلة لا تعرف الريف أو ترتبط به .. مع إنها تعيش على خيره وإنتاجه . ومع ذلك لم يجد الريف ردا لهذا الجميل… من كل من تركه وهاجر إلى المدينة….  فأهملت القرية وانتقلت آثار هذا الإهمال بالتبعية إلى المدينة ..

فهل نلوم المجتمع الريفي الذي لم يجد من يأخذ بيده لحل مشاكله .. لحل مشكلة الحطب وكبسه في قوالب تستعمل للوقود. أو في حل مشكلة إسكانه سواء بالإصلاح أو الترشيد أو التطوير .. أو باستنباط مواد بناء جديدة تدخل فيها المواد البترولية والأسمنتية .. أو في تنمية قدرات أبنائه لاستعمال الميكنة في الإنتاج الزراعي أو الحرفي .. أو في موازنة متوسط الدخل في الريف بمتوسط الدخل في الحضر .. فمشاكل الإسكان والمرافق تعالج حتى هذه الساعة من كل المسئولين على مستوى المدن فقط .. والقرية هي الأخرى تئن من الضغط السكاني المتزايد على مواردها ولا تجد من يزيل عنها هذا العبء بإنشاء المجتمعات الزراعية الجديدة… حتى في مناطق الاستصلاح الجديدة نبني المدن ولا نبني القرى للنازحين من الريف .. كيف إذن نلقي اللوم على العقلية القروية التي تدار بها القاهرة –على حد قول الكاتب- إن قادة الفكر المقيمون في القاهرة .. كلنا جميعا بغير استثناء… لا نفكر إلا فيما حولنا من مشاكل في المدينة .. والقرية لها رب يرعاها .. كيف إذن تكون النظرة إلى مشاكل مصر بهذا الأفق المحدود ..

والمسئولية هنا ليست مسئولية جهاز دون آخر. فلا يمكن إلقاء اللوم على جهاز القاهرة الكبرى الذي تحول الآن إلى هيئة للتخطيط العمراني .. أو على جهاز المحافظة .. أو على المجالس المحلية .. أو على العباقرة المشرفين على هندسة المدن –كما يصفهم الكاتب- أو على الذين درسوا تخطيط المدن في الغرب وحملوا شهادات الدكتوراة وتركوا كل ما تعلموه عند عودتهم في المطار أو الميناء – على حد تصوره- أو على المرتزقة ومحترفي السياسة أو على المفكرين والأدباء – مثل الكاتب الكريم- ممن يفهمون معنى الحضارة ويفكرون في تطبيق كل ما يروه في الغرب في بلدهم أو يقرأون ما كتبه لويس ممفورد في شؤون المدن أو توماس هاردي من قصص .. أو من يقارنون القاهرة بباريس .. أو أسيوط بمدريد .. ولكن المسئولية تقع على كل هذا الخليط الحضاري من البشر الذي لا تربطهم وحدة حضارية واحدة أو مفاهيم ثقافية مشتركة .. هذه هي الصورة الواقعية للمتناقضات الموجودة بين القطاعات المختلفة من المجتمع. نراها في الأزياء كما نراها في العمارة والأثاث ونراها في السلوكيات والعادات كما نراها في المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي .

في هذا الخليط الحضاري من البشر تتداخل التخصصات وتذوب الفوارق الثقافية والعلمية .. ويفتي كل منها فيما يعلم وما لا يعلم .. والغلبة في النهاية للكلمة العليا .. أو السلطة الأقوى أو النفوذ الأكبر .. فتسير الأمور مع مهب الريح .. لا يدرك مرساها أو يعرف منتهاها فتظهر المفاجآت وتنفجر المشاكل وتهمل الدراسات والمخططات والمتابعة والتقييم .. ثم تتدفق بعد ذلك المقترحات والتصورات في اللجان والندوات وتملأ بها صفحات الجرائد والمجلات. فكم علت الأصوات ثم خفتت لإصلاح القرية وإعادة بنائها .. لإنقاذ المدن الكبرى من التلوث والضوضاء والفوضى .. ثم الدعوة إلى الزحف على الصحراء .. معبراً عن الريف والحضر على حد سواء .. وفي نفس الأثناء يقوم البعض باقتلاع الزرع وقطع الأشجار ليبنى الجامعات والمصانع على حساب المورد الأساسي للغذاء .. أو ليشق الطرق الزراعية التي تربط بين المدن ليحقق عائدا سريعا تصبح بعده هذه الطرق محاور للصناعات على حساب الزراعة .. أو ليبنى ميناءً بحريا في دمياط كمشروع اقتصادي يحقق عائدا سريعا ليصبح بعد ذلك قطبا للعمران العفوى الذي يتحرك كدودة القطن تأكل الأخضر واليابس من الوجه الأخضر لمصر .. أو ليقيم مترو للأنفاق تحت الأرض ليحل 20% من مشاكل المرور بعد عشرة سنوات. ثم لا يلبث أن يتحول –كما يقول الكاتب- إلى مساكن يأوي إليها النازحون من الريف إلى القاهرة . وتتشبع القاهرة بالطرق السفلية والطرق السطحية ثم الطرق العلوية بما عليها من قطر وسيارات وبشر .. إلى أن تبدأ القاهرة في الاحتضار .. ويهرع المسئولون بعد ذلك إلى طلب النجدة والإسعاف عند ذوي الخبرة والرأي من لندن وباريس لإنقاذ الحال وإصلاح الأحوال وتبدأ العجلة من جديد .. وتتفاقم المشاكل .. وتظهر الدعوة إلى ضرورة وجود إستراتيجية عمرانية تعم المدن .. ثم لتعم القرى ودعوة أخرى لإستراتيجية اقتصادية .. وأخرى اجتماعية .. وكأن الاستراتيجيات الثلاث .. دعوات منفصلة ليس بينها ترابط أو تكامل .. ونبحث عن المسئولية فنجدها موزعة بين أصحاب التعمير وأصحاب التخطيط والحكم المحلي… فتضيع…تماما كما تضيع المسئولية عن حضارة مصر وآثارها .. بين وزارة الثقافة .. والأوقاف والمحافظات .. ومع كل هذا تقف القاهرة وغيرها من المدن والقرى تنعي حظها الذي أوصلها إلى هذه الحال.

ومع كل ذلك نجد أن تأثير الوعي الحضاري عند قمم المسؤلية هو أكثر فاعلية عنه عند من هم دونهم علي السلم. وبقدر هذا التأثير يتحدد قدر المسؤولية عن الأوضاع المتدنية التي تعاني منها القاهرة أو غيرها من مدن وقرى مصر… فالمسئول عن التعمير لا تهمه الجوانب الحضارية بقدر ما يهمه الإنجاز السريع لإشباع الرغبة السياسية . فزرع العمارات الشاهقة في القاهرة هي مفهومه  حضارة يباهى بها نيويورك وليس ضغطا علي المرافق والخدمات كما يشير بذلك المتخصصون… والإسكان الشعبي السريع هو في مفهومه إنجاز اشتراكي وان تحول بعد سنوات قليلة الي أطلال والقيم المعمارية المستجدة من الذات هي  مفهومه بذخ لا يتلاءم مع طبيعة العصر والنواحي الإنسانية بالنسبة له كمكملات يقدم عليها الآله فتقيم لها الطرق العلوية والسفلية وإن تعارضت مع أثر من الآثار الحضارية. والمخطط العمراني بالنسبة له هو من يرسم الطرق ويبني الجسور وان مزقت في مساراتها الكيانات الاجتماعية في المدن .. والألوان الصاخبة في مباني المدن الصحراوية هي بالنسبة له نسخة من الفن المستوحى  من عمارة لندن وباريس وليس تهريجاً في سيرك البناء .. وبائع التين الشوكي أو بائع الذرة المشوي . -الذي يصفه الكاتب- يقف علي ناصية أهم شارع ويضع جردل ماء في لون الهباب ويبيع ويأكل ويغتسل ويقضي حاجته كما يقول الدكتور حسين مؤنس في أقرب حارة هو بالنسبة له الفئة الكادحة والإنسانية المطحونة… يمارس بها حرفته السياسية.وليس مرضا اجتماعيا أو اقتصاديا.. والسير في ركاب الوالي هو بالنسبة له قمة المني.. وليس دربا من النفاق..

في هذا الجو المشحون بالمتناقضات… انسحب الكثير من الخبراء والمتخصصون الي بلاد أخرى يعمرون مدنها ويشيدون عمارتها بل ويعلمون أبنائها أسس التخطيط والتعمير.. تاركين الساحة للأدعياء والمنافقين.. ومن لا يساعده الحظ يبقي غريبا في وطنه يسير بجانب الحائط يخشى علي قوته ومستقبله من أصحاب السلطة والسلطان.. وهذا هو مصدر البلاء.. وليس من يسميهم الدكتور حسين مؤنس لجنة القاهرة الكبرى أو المهندسين والفنيين والإداريين… فهم الإدارات التي يحركها المسئولون لتحقيق أهدافهم ومنجزاتهم السريعة قبل أن تنتهي مدد وجودهم يتحولون بعدها إلى مستشارين لمن يأتي بعدهم.. علي نفس الطريق.. في طابور المنتفعين .. هنا لابد من هزة قوية للهيكل الإداري والتنظيمي للأجهزة القائمة علي المدن و القرى .. وعلي كل مستويات التخطيط العمراني والاقتصادي والاجتماعي حتي يسود الاستقرار والاستمرار مهما تغيرت القيادات أو الوزارات.. وحتي تكون لكل وظيفة مواصفتها بعد أن اختلطت الألقاب لا يعرف فيها الوزير الوزير أو الوزير المحافظ أو الوزير المستشار أو يعرف فيها الدكتور الطبيب من الدكتور المهندس أو الدكتور السباك … وبعد أن اختلطت التخصصات بين المهندس والمخطط أوالمصمم والمقاول أو العالم والأديب.. حتي أصبح مهندس الكيمياء خبيرا في التعمير ومهندس الري خبيرا في التخطيط العمراني ومهندس التخطيط خبيرا في الاقتصاد والمهندس الإنشائي خبيرا في العمارة والمهندس المعماري خبيرا في البنوك وانحطت بذلك المهنة الي حد المحنة وأصبحت النقابات مجمعات استهلاكية وشركات استثمارية وبنوك للتنمية وأصبحت الدعوة لتأصيل القيم العمرانية رجعية وأصبحت الثقافة هي التماثيل الذهبية التي تهدى للممثلين والممثلات في حفلات عامة كل عام.

فالمشكلة الحضارية التي أثارتها مقالات الدكتور حسين مؤنس هي مشكلة متشابكة ومتراكمة لا تحلها المقالات والكلمات ولكن تحلها الدراسات الموضوعية والدقة في الحساب والقياس والديمقراطية في التعبير.. والالتزام بالأصالة الحضارية والقيم الإنسانية.. هذا هو الفرق بين التقدم والتخلف والمدينة بعد كل ذلك هي المرآة التي ينعكس عليها هذا التقدم أو هذا التخلف.

 إن التصورات الشخصية لحل المشاكل هي تمنيات أكثر منها أسلوب علمي للمعالجة وهذا ما نلاحظه دائما من خلال المقارنة بلندن وباريس وجنيف أو من خلال تجارب ألمانيا وسويسرا أو ما توصل اليه الكوريون والسنغافوريون فلكل شعب خصائصه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تساعد علي تحريكه نحو حياة أفضل فكم نسبة الأمية في أهل لندن وباريس حتي نقارنها بالقاهرة. وكم من الوعي الثقافي والحضارى عندهم حتي نقارنه بما عندنا.. بكل صراحة و بلا نفاق أو تحيز.. أما السبعة آلاف سنة حضارة التي لدينا فهي تاريخ نقرأه وليست  واقعاً نلمسها وإلا لما كنا علي ما نحن فيه الآن من تخلف عمراني.

ان المشكلة التي وضع لها الدكتور حسن مؤنس تصوراته لحلها لا تحل بإنشاء مجالس البيوت والعمارات أو مجالس الشوارع والأحياء تعمل كلها تحت أمر القائد المحافظ.. فأين إذن نظام البلديات المحلية والتنظيمات الحزبية ومراكز الأحياء   التي تتجمع فيها كل الخدمات وأين الضرائب المحلية التي تمول المشروعات وتقوم بالإصلاحات وأين الهياكل التنظيمية الهرمية التي تحكم العلاقة بين القمة والقاعدة ويعرف كل دوره في هذا الهرم التنظيمي وأين مراكز محو الأمية المحلية ومراكز الأنشطة الثقافية. لقد سبق أن اجتمعت اللجان لدراسة تغير القاهرة والحد من هجرة القرويين التي -علي حد تعبير الكاتب- ومع ذلك لم تجد القيادات السياسية المحلية وسيلة لتحقيق ذلك. هذا في الوقت الذي كان فيه كل فرد من أفراد المجتمع يبحث عن تأمين نفسه فقط ضد الخوف والحاجة ليؤمن مستقبله ومستقبل أولاده من بعده . وهكذا تلاشت الحياة الاجتماعية والإحساس بالترابط والتكامل الذي يدعو اليه الكاتب.. ولسنا كالألمان الذين بنوا مدنهم بعد زوال أثر الحرب العالمية الثانية.. ولابد من المصارحة فهي السبيل الوحيد للوصول الي الحلول الواقعية . كما أننا لسنا كاليابانيين كمثل آخر يحتذي ..

كذلك لماذا نقفل أبواب القاهرة أمام النازحين إليها.. وهم في الأصل جزء من المشكلة الكل … مشكلة كل المدن وكل القرى لقد كثر في مصر أهل المشورة في مجلس الشورى و في المجالس المتخصصة القومية وفي اللجان الثقافية وفي الهيئة الاستشارية وفي اللجان النوعية.. وفي هذا استنزاف للطاقات والخبرات التي يمكن توجيهها نحو العمل والإنتاج الذي يظهر في البرامج التنفيذية وفي إطار التنسيق الملزم . فالجهاز الادارى كله يحتاج الي هزة. يوضح بعدها لكل فرد دوره في عملية البناء في كل الجهات.. وعلي كل الجهات.. من إصلاح المجارى الي محو الأمية ومن التوسع العمراني الي بناء المدينة والقرى .. من التنظيم الشبابي الي إزالة القمامة والمخلفات ومن التعليم والتربية الي تأصيل القيم الثقافية وقبل كل شيء العودة الي روح الدين الإسلامي وتعاليمه والالتزام بها هى السبيل الوحيد لخلاص المجتمع بما فيه القاهرة. حتى لا تموت….

دكتور عبد الباقى إبراهيم

أستاذ التخطيط العمرانى بجامعة عين شمس

وكبير خبراء الامم المتحدة سابقاً

رئيس تحرير مجلة عالم البناء

word
pdf