المجتمعات العمرانية الجديدة فى اطار الاستراتيجية القومية للتعمير

المجتمعات العمرانية الجديدة فى اطار الاستراتيجية القومية للتعمير2019-12-08T13:19:29+00:00

المجتمعات العمرانية الجديدة فى اطار الاستراتيجية القومية للتعمير

    د / عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني سابقا 

الأهرام الاقتصادى
 30/10/1989

الدواء الذى يوصف للعلاج قد يكون مرا كالعلقم واذا كان لا بديل عنه فليتحمله المريض اذا كان يريد الشفاء … والا فرحمة الله عليه… والحديث عن المجتمعات العمرانية الجديدة لابد وأن يبدأ من القاهرة … من مركز الدولة، من أكبر تجمع سكنى فى أفريقيا .. من مصدر السلطات التشريعية. فالقاهرة التى تستوعب حوالى 25% من سكان مصر تستاثركما يقول الخبراء  بحوالى 40% من الميزانية الاستثمارية للدولة .كيف يتم ذلك فى ضوء عدالة توزيع الاستثمارات على سكان مصر؟ لقد أصبحت القاهرة فى اعتبار الدولة وكأنها مصر كلها فهى لا تزال تحظى بنفس الاسم الذى يطلقه عليها كل المصريين. وهنا يبدأ البحث عن عدالة التوزيع المكانى للاستثمارات التى هى أساس التعمير والجذب السكانى فى المناطق المختلفة من مصر … البعض يتساءل لماذا يتحمل كل سكان مصر التكلفة الضخمة لمشروعات الصرف فى القاهرة. لماذا لا يتحمل معظمها من يستفيد منها من سكان القاهرة أو من يعملون فيها؟  ولماذا يتحمل كل سكان مصر أيضا قيمة مشروعات مترو الانفاق التى تخدم سكان القاهرة أو من يعملون فيها. 

ثم لماذا يتحمل كل سكان مصر ما يقام فى القاهرة من كبارى علوية وسفلية وتليفونات ووسائل اتصال ؟ … من العدالة أن يتحمل سكان القاهرة النصيب الأوفر من تكلفة هذه المشروعات اذا كانوا يودون البقاء فى القاهرة لابد من الرجوع الى الدراسات الخاصة بتكلفة الأعباء التى يتحملها الفرد من خدمات فى المدن المختلفة ان وجدت فى الريف أو فى الحضر … اذا كنا نسعى الى عدالة التوزيع … كما نسعى الى عدالة الحقوق والواجبات هذا هو المدخل الحقيقى لتوزيع السكان على أكبر مساحة ممكنة من أرض مصر … من يريد أن يقيم فى القاهرة أو غيرها من المدن فأهلا به اذا دفع للدولة تكاليف اقامته … ومن يريد أن يغزو الصحراء ففخرا به ولتدفع له الدولة التكاليف الأولية لاقامته .هذه هى عدالة التوزيع التى قد لا تلقى رضاء أهل القاهرة أو غيرها من المدن … هذه هى عدالة التوزيع التى قد لا تلقى موافقة السكان الذين يقيمون فى هذا الشريط الضيق ولا يريدون أن يتركوه … يقيمون فيه ليتمتعوا بخيراته وخدماته … ليتوالدوا ويتكاثروا دون تفكير فى مستقبل أولادهم وأحفادهم. 

وتجىء دعوة الرئيس محمد حسنى مبارك لعقد اجتماع موسع لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة فى وقت مناسب لهذه المرحلة التى تمر بها تجربة التنمية العمرانية فى مصر إذ تجىء هذه الدعوة بعد أكثر من عشر سنوات من بداية التجربة التى حان الوقت لمراجعتها وتقويمها فى ضوء النتائج العملية التى وصلت اليها مقارنة بين ما حققته هذه التجربة وما كان مخطط لها … بهدف ربط النظرية بالواقع … ولا شك أن الدولة قد بذلت جهودا كبيرة فى سبيل تحقيق الاهداف القومية للتنمية العمرانية ظهرت فى بناء العديد من المصانع فى المجتمعات العمرانية الجديدة بمعدلات تفوق ما كان مخطط لها فى الدراسات التخطيطية كما ظهرت فى بناء المرافق والخدمات العامة. أما مشروعات الاسكان فقد تمت بمعدلات تقل كثيرا عما كان مخططا لها ، الامر الذى أثر على التوازن التخطيطى للمجتمعات الجديدة الذى اتجه الى توفير كثير من فرص العمالة وقليل من الاسكان المناسب ، الامر الذى لم يساعد على تحقيق الاستيطان وجذب الفائض من السكان بأنشطتهم من المناطق المزدحمة فى القاهرة والمدن الكبيرة والصغيرة على حد سواء ، وأخيرا بدأت تجربة أخرى من تجارب التنمية العمرانية ظهرت فى التخطيط لبناء عشرة مجتمعات جديدة حول القاهرة ليس لاستيعاب الزيادة فى السكان ولكن لتخفيف الضغط السكانى على بعض مناطق القاهرة والذى بلغ التزاحم فيها حدا كبيرا لا يحتمل الذى هو أصل كل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والصحية. ويعنى ذلك أن تنمية التجمعات العشرة حول القاهرة لابد وأن تواكبها فى نفس الوقت تنمية عمرانية للمناطق المزدحمة من المدينة تتولى العملية الاولى أجهزة لاستقبال الفائض السكانى بأنشطتهم إن أمكن والثانية أجهزة لارسال هذا الفائض يعملان معا ويتناغمان اداريا وتنظيميا ، وهنا لابد وأن تقوم المنظمات السياسية بدورها وبحيث تعتمد تنمية التجمعات العشرة بقدر الامكان على المشاركة الشعبية أكثر منها على موارد الدولة ، والا فقدت هذه التجمعات مقوماتها وأهدافها التنموية وحملت الدولة مالا تطيق أو تتحمل … 

ان دراسة الاوضاع الداخلية أو التنفيذية  للمجتمعات العمرانية الجديدة لا يمكن فصلها عن الاستراتيجية القومية للتنمية العمرانية التى تعالج مشاكل المجتمعات الجديدة والمجتمعات القديمة معا اذ لا يمكن الفصل بينهما فى خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة وهو ما سمى مجازا البعد المكانى للخطط الخمسية. واذا كانت الخطط الخمسية هى فى أساسها خطط استثمارية ، فان الجانب المكانى أو العمرانى فيها لم يتضح بعد خاصة فى دولة يقيم 96% من سكانها على 4% من أرضها . واذا كانت دعوة رئيس الدولة أساسا الى اجتماع موسع لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة يتم فيه تقويم واقع هذه المجتمعات ومراحلها ومستقبلها حتى يمكن ايجاد الأسلوب الأمثل للاستثمارات فيها طبقا للاولويات التى تنبثق عن هذا الاجتماع ، فان هناك العديد من التساؤلات التى تفرض نفسها فى هذا المجال بدءا من مفهوم التخطيط والتنمية ودور الاجهزة المسئولة عنها الى مفهوم التنفيذ والبناء ومسئولية الاجهزة التنفيذية ، سواء أكان ذلك على المستوى القومى أو المستوى الاقليمى أو المحلى حتى لا تتعارض المصالح والاختصاصات بين الاجهزة وتتوه بين أجهزة التعمير والسياحة والصناعة والزراعة والأمثلة على ذلك قائمة وواضحة سواء فى توفير عناصر الجذب فى المناطق الجديدة ، هل هى من اختصاص أجهزة التخطيط أو أجهزة التعمير أو الهيئة التشريعية . ان الدعوة الى تكامل خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية أصبحت ضرورة ملحة خاصة فى الدول النامية بهدف احكام كفاءة الأداء فى تنظيم وتنسيق وادارة العملية التخطيطية أكثر منها فى وضع الخطط نفسها والمهم هنا هو نقل الخطط الى الواقع التنفيذى حتى لا تستمر الدعوة الى ضرورة غزو الصحراء مثلا والخروج من الوادى الضيق محصورة فى اطار النداءات والشعارات دون مضمون عملى وتنظيمى يحول الأهداف الى خطط ثم الى مخططات ثم الى مشروعات استثمارية ثم الى برامج تنفيذية مع تحديد أدوات انجازها وذلك فى حدود الموارد والامكانيات المادية والبشرية المتاحة فى الداخل أو الخارج وهى امكانيات كثيرة ومتوافرة لو أمكن استثمارها وتنظيمها وادارتها. 

ان استثمار الموارد البشرية والمادية فى تعمير المجتمعات السكنية الجديدة أصبح ضرورة ملحة فهى التى أقامت هذا الحجم الضخم من التجمعات السكنية العشوائية، ويبقى التساؤل كيف يمكن تنظيمها وتوجيهها الى حيث ما يجب أن تكون فى اطار الاستراتيجية القومية للتعمير مع توفير كل عوامل الجذب الممكنة ، اذ كيف يمكن استقطاب المواطن الى المجتمعات الجديدة ليعيش فيها ويسكن ويعمل معا وهو يدفع بضع جنيهات قليلة جدا فى ايجار مسكنه الحالى الذى لا يستطيع أن يتركه الى مسكن آخر أكثر تكلفة ؟ كيف يمكن ان ننقل الفلاح الى قرية جديدة وهو يتمتع فى قريته القديمة بمياه الشرب والكهرباء بأسعار ميسرة ويستطيع أن يوجه مدخراته بسهولة الى بناء سكن خاص وسكن يؤجره على الأرض الزراعية حتى فى وجود القوانين التى تحد من ذلك وهى قوانين غير واقعية التطبيق ، فالأرض الزراعية الحالية تتناقص باستمرار يوما بعد يوم بالرغم من كل المحددات والقوانين واللوائح ؟ كيف يمكن أن ننقل العامل وورشته الى مكان آخر وهو يتمتع فى مكانه الحالى بمميزات استثمارية كثيرة فهو يستطيع أن يجدد ترخيص ورشته دون معاناة بل ويجد مورد الكهرباء والمياه وغيرهما من الخدمات بنفس الاسعار التى يجدها فى المجتمعات الجديدة ، وفوق ذلك فهو يستطيع أن يمتد بنشاطه على الرصيف بل وفى بحر الشارع دون حرج أو تدخل من أحد ؟ كيف يمكن أن نستقطب المواطن الى المجتمعات الجديدة وهو يجد فرصا أوفر للعمل فى الأنشطة التجارية والخدمية التى تنشأ فى المدن القديمة ولا تجد معوقا أمام قيامها فى هذه المدن المزدحمة … ثم كيف تنتقل الأنشطة المالية والتجارية الى التجمعات الجديدة وهى تتمتع بالخدمات المتوافرة فى المدينة القديمة حيث يقطن معظم العاملين فيها وهى تتمتع بالخدمات المتوفرة فى المدينة القديمة حيث يقطن معظم العاملين فيها والمتعاملين معها … وهناك الشوارع التى تستوعب سياراتهم ليلا ونهارا دون أى التزامات مالية عليهم وهناك مترو الانفاق الذى ينقلهم من مكان الى آخر بسهولة ويسر وهناك المرافق العامة وخدمات الاتصالات المتوافرة التى يستعملونها دون الصعوبة التى قد يجدونها فى التجمعات الجديدة … وهكذا فان ما يتوفر فى المجتمعات العمرانية الجديدة من حوافز وتسهيلات ومزايا لا تتعادل مع ما يتوافر فى المجتمعات القديمة المزدحمة بالسكان ، فالازدحام بالرغم من الأمراض الاجتماعية التى تترتب عنه هو فى حد ذاته عامل جذب استثمارى خاصة بالنسبة للانشطة الهامشية. 

ومن ناحية أخرى كيف يمكن أن تتحقق الاستراتيجية العمرانية للدول فى ضوء القوانين التى لا تفرق بين الاسكان فى المدن المزدحمة والاسكان فى المجتمعات الجديدة … وكيف يمكن أن تستمر معاملة سكان المدن القديمة بنفس معاملة سكان المدن الجديدة. وهكذا ترتفع مشاكل المجتمعات العمرانية الجديدة من المستوى التنفيذى الى المستوى القومى ولا تنحصر فى نطاقها المحلى. وهنا يبرز التساؤل الآخرعن مفهوم المجتمعات العمرانية الجديدة … هل هى المجتمعات التى يصدر بها قرار لاخضاعها لاشراف الهيئة العامة للمجتمعات العمرانية الجديدة أو هى كافة مناطق التنمية العمرانية الجديدة التى تمتد على المناطق الصحراوية سواء تمثلت فى صورة مشروعات استثمارية أو امتدادات سكنية للمدن المتاخمة للصحراء وهل تعتبر القرى السياحية التى تملكها المؤسسات الخاصة والعامة مناطق عمرانية جديدة تخضع لنفس مفهوم المجتمعات الجديدة وتتمتع بنفس مزاياها وهى فى حقيقتها مناطق اسكان سياحى أو ترويحى أكثر منها قرى سياحية بمفهومها الاستثمارى أو الاقتصادى بعد أن أصبحت هذه القرى السياحية بمثابة ثلاجات تتجمد فيها مدخرات المواطنين دون عائد يذكر يضاف الى الاقتصاد القومى ، بل أصبحت سلعة لن تلبث أن تتلف بمرور الزمن وقلة الصيانة بالاضافة الى انخفاض مدد استثمارها المرتبطة بالعطلات الصيفية ودون أن يكون لها ظهير انتاجى يساعد على استيطان بعض أجزائها واستغلال بعض مرافقها . ان اقتصاديات المجتمعات الجديدة لا تقاس بالعائد الفورى من انشائها ولكن تقاس بالعائد الاستيطانى الذى تحققه فى اطار أهداف الاستراتيجية القومية للتنمية العمرانية التى هى جزء من الاستراتيجية القومية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية . ان دراسات الجدوى للمشروعات الاستثمارية الجديدة لا تبنى على أساس ما تحققه من عائد بقدر ما تحققه من أهداف للاستراتيجية العمرانية التى تسعى الى تخفيف الضغط السكانى الرهيب على الوادى الضيق. 
وبعد كل ذلك فهناك تساؤل آخر عن البعد السياسى الذى يؤثر على التنمية العمرانية فى المجتمعات القديمة أو المجتمعات الجديدة ، ويكمن هذا البعد فى تأثير توجيهات المجالات التشريعية أو المحلية التى تسعى دائما الى ارضاء المواطن بالبحث عن حل مشاكله الانية دون تقدير مماثل لحل المشاكل البعيدة المدى ، فعندما أصدر المجلس المحلى فى محافظة مثل الشرقية فى بداية الستينات قرارا بإنشاء جامعة إقليمية فى مدينة الزقازيق تمشيا مع سياسة تخفيف الضغط عن القاهرة اعترض أحد المخططين على المكان واقترح فى حينه توجيه المشروع الى صحراء بلبيس نظرا لما سوف تتطلبه الجامعة الجديدة من خدمات اسكانية وتجارية وخدمية لا يمكن أن تتحملها الأرض الزراعية. ومع ذلك رفض المسئولون هذا الاقتراح خضوعا للقرار السياسى الذى اتخذه المجلس المحلى فى ذلك الوقت ، فكيف كان الحال بعد ذلك ، لقد اتسعت المدينة اتساعا رهيبا قضى على مساحات كبيرة من الأرض الزراعية ، وكلما ازداد المعدل السكانى زاد معدل الامتداد على المصدر الوحيد للغذاء بالرغم من وجود قانون التخطيط العمرانى الذى بدأ العمل به فى عام 1982م ومر على تطبيقه أكثر من سبع سنوات وهو قانون يحتاج هو الآخر الى التقويم من واقع التجربة التطبيقية لبنوده ولائحته وأجهزته التنفيذية. ومرة أخرى تتضح أهمية تنظيم وادارة عملية التنمية العمرانية أكثر من وضع الدراسات والمخططات التى تقف عند حدها دون الانتقال الى مشروعات وبرامج تنفيذية واستثمارية. 

ان الاجتماع الذى ينتظره السيد الرئيس لابد وان ينظر الى المجتمعات العمرانية الجديدة فى اطاراتها القومية والاقتصادية كما ينظر اليها فى اطاراتها التخطيطية والتنفيذية بواقعية وموضوعية وطموحات أكبر مما تحقق على أرض الواقع دون مجاملة أو تجمد. 

والدعوة هنا ليست للهيئة العامة للمجتمعات الجديدة بل لكل من ساهم فى الدراسات والبحوث التى هدفت الى تقويم تجربة التنمية العمرانية فى مصر ، وليس المهم أن نشخص المشكلة ونقدم الاقتراحات أو التوصيات ولكن الأهم أن نحدد الطريق العملى والواقعى لكيفية تنفيذ هذه الاقتراحات والتوصيات حتى يخرج الرئيس من هذا الاجتماع مشبعا بالموضوعية ومليئا بالامل . ويبقى أمام هذا الاجتماع تساؤل أخير وهو هل تستمر ادارة المدن أو التجمعات العمرانية الجديدة بصورتها القائمة أو تأخذ هذه الادارة صورة شركات استثمارية للتنمية العمرانية تحدد لها الاهداف التى يجب أن تحققها فى اطار الاستراتيجية القومية. ان صورة الشركة القديمة لمصر الجديدة لاتزال فى الأذهان.

word
pdf