المدخل إلى التخطيط العمرانى

المدخل إلى التخطيط العمرانى2019-11-19T11:56:56+00:00

المـدخـل إلـى التخـطـيـط العــمــرانــــى

دكتور عبد الباقي ابراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة في التخطيط العمراني سابقاً

 

 

بالرغم من طول المدة التى مارست فيها أجهزة التخطيط العمرانى فى مصر أساليب التخطيط العمرانى وتطبيقها على التجمعات السكنية والأقاليم التخطيطية بعد ذلك إلا أنه لم يطرأ على هذه الأساليب أى تغيير يذكر لتطويعها للظروف الطبيعية والأقتصادية والأجتماعية والثقافية والمحلية ، واستمر العمل بنظريات التخطيط العمرانى المستوردة من العالم المتقدم تكنولوجيا وقتا طويلاً ، وفى هذه الأثناء استطاع المخططون العمرانيون المصريون والأجانب على حد سواء التبصر بأن مثل هذه الأساليب والنظريات المستوردة لم تعد صالحة للتطبيق فى الدول النامية .

وظهرت بعد ذلك الكثير من المعاهد التخطيطية فى أوروبا وأمريكا وقد تخصصت فى موضوع التخطيط العمرانى للدول النامية حاملين مشاكلهم التخطيطية لطرحها على بساط البحث فى هذه المعاهد عسى أن تجد لها الأساليب والنظريات المناسبة لحلها وقد صدرت فى ذلك العديد من الكتب والنشرات العلمية فى هذه الوقت الذى لم يجد فيه المخططون المصريون أنفسهم فى هذه الحركة العلمية إلا مؤخراً حيث بدأ الحوار حول صلاحية النظريات والأسس التخطيطية المستوردة من العالم الغربى .

لقد أتاحت الظروف أن تعبر هذه المرحلة التى طبقت فيها النظريات والأسس التخطيطية المستوردة على المدن العربية سواء من خلال البحوث العديدة أو من خلال الممارسة فى مصر والخارج تم مراقبة تطبيق العملية التخطيطية فى العديد من المدن والقرى وذلك من خلال المستويين الأقليمى والمحلى ، كما تم مراقبة تطبيق النظريات المستوردة ثم مراقبة تحويل العملية التخطيطية من صيغة الدراسات إلى بناء وتطوير الأجهزة المختصة التى تستطيع التحرك بالعملية التخطيطية بصفة مستمرة تعالج من خلالها المشاكل العاجلة والمشاكل القصيرة الأجل والمشاكل الطويلة الأجل فى وقت واحد وبنظام متكامل وبأسلوب موحد.. ومن هنا كانت أهمية التنظيم الإدارى للعمليات التخطيطية كأساس لتطوير النظريات التخطيطية التى تتناسب مع المقومات الطبيعية والأقتصادية والأجتماعية والثقافية السائدة وترتبط بالقيم الحضارية فى مصر التى تكاد تجرفها تيارات الحضارة الغربية إقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً .

وتنظيم العملية التخطيطية يعتمد على عديد من العوامل فى مقدمتها توضيح العلاقات الأفقية لقطاعات الخدمات والتنمية فى كل من المستويات المحلية والإقليمية والقومية للتخطيط وكذلك العلاقات الرأسية بين هذه المستويات ، وإذا قدرنا عدد وطبيعة العناصر التى تتداخل فى هذه العلاقات لقدرنا مدى التعقيد الذى يرتبط بتنظيم العملية التخطيطية الأمر الذى يتطلب دقة فى توصيف هذه العلاقات الأفقية والرأسية وتحديد إرتباطتها التبادلية ومن ثم توصيف لأعمال القائمين عليها فى جميع مراحلها المستمرة وعلى مختلف مستوياتها الأمر الذى يتطلب تبسيط العملية التخطيطية إلى اقل حد ممكن من ربط التخطيط الإقتصادى والإجتماعى بالتخطيط العمرانى فى عملية متكاملة متحركة على المدى الزمنى القصير والطويل الأجل ، وفى هذه السبيل حاولت الأمم المتحدة من خلال أجهزتها المتخصصة أن تصل إلى صيغة لهذا الترابط والتكامل وأوكلت إلى عدد كبير من المتخصصين والخبراء فى عديد من الدول تقديم دراساتهم فى هذا الشأن وذلك بهدف إستنباط اسلوب مشترك يمكن تطبيقه فى الدول النامية .

وقد حاول هؤلاء الخبراء إعطاء تصوراتهم فى هذا الشأن فقدموا بعض النماذج التى يجرى تطبيقها أو التى يمكن تطبيقها مستقبلاً ، وكان إختلاف هذه النماذج فى مجموعها راجع إلى إختلاف النظم الإدارية والإقتصادية فى الدول التى يمثلها هؤلاء الخبراء ومع ذلك فإن مجرد البحث فى هذا الموضوع يؤكد الإتفاق العام على ضرورة الترابط والتكامل بين الجوانب الأقتصادية والأجتماعية والعمرانية فى التخطيط على المستويات المحلية والأقليمية والقومية .

ويختلف الوضع الإدارى لأجهزة التخطيط العمرانى بإختلاف التنظيمات الإدارية للحكومات المختلفة فهى فى بعض الدول تتبع وزارات الاسكان والتعمير وفى البعض تتبع وزارات الشئون البلدية والقروية وفى غيرها تتبع وزارات التخطيط وفى البعض الأخر تتبع البلديات، أما أجهزة التخطيط المحلى فتارة تكون تابعة لأجهزة التخطيط العمرانى وتارة أخرى تابعة لوزارت أو المجالس المحلية وفى مصر هناك إنفصال إدارى بين أجهزة التخطيط العمرانى وأجهزة التخطيط القومى وكل منها يرتبط فنياً بالتخطيط الأقليمى الأمر الذى وضع أجهزة التخطيط الإقليمى فى حالة مترددة بين أجهزة التخطيط العمرانى وأجهزة التخطيط القومى بل ونجد كثيراً من الدراسات التى قامت بها هذه الأجهزة تعتمد على تقسيمات متضاربة للأقاليم التخطيطية ، زد على ذلك تداخل التقسيمات الإدارية للقطاعات المختلفة التى لا تتطابق حدودها مع الحدود التخطيطية ، ومن هنا تظهر الصعوبة البالغة فى توحيد المناطق وبناء القاعدة المكانية السليمة لتجميع البيانات التخطيطية إقتصادية كانت أو إجتماعية أو عمرانية ، زد على ذلك تضارب القوانين التى تحكم العملية التخطيطية نفسها .

وإذا كان من الصعوبة إعادة تنظيم الهيكل الإدارى الحكومى لإيجاد الترابط والتكامل الأفقى بين خطط القطاعات المختلفة وفى المستويات المختلفة للتخطيط وعلى المراحل المختلفة الزمنية المستمرة ، فإنه يمكن إعادة توصيف نطاق العمل للأجهزة المعنية بالتخطيط العمرانى والأقتصادى والقومى بما يضمن إيجاد هذا الترابط والتكامل بأى صورة من الصور وأن إختلفت فى تبعية الأجهزة المعنية بالجوانب المختلفة للتخطيط إلى الوزارت أو الهيئات المختلفة فى إجهزة الدولة وهذا مايجرى بلورته فى الوقت الحاضر، ولا يمكن مواجهة ذلك باللوائح والقرارت بقدر مايواجه بالتنظيم العلمى والترابط العملى لهذه الأجهزة ، وهنا لابد من الأعتماد ولو جزئياً على التكنولوجيا الحديثة للعقول الألية ، والألتزام بالخطوات التنفيذية التى تتضمنها الكتيبات الإرشادية الخاصة لكل جانب من جوانب التخطيط التى تهدف إلى توحيد لغة تفاهم بين جميع العاملين فى العملية التخطيطة والتى أعدها المركز ومن أولها الدليل الخاص بتجميع وتبويب البيانات التخطيطية وإسترجاعها .

ومع رسم الصورة النظرية للعملية التخطيطية فإن العوامل المتغيرة التى تواجه عمليات التنمية يكون لها اّثرها المستمر على هذه الصورة ، وما هنا فلابد من إفساح أماكن واسعة فى هذه الصورة بحيث تتقبل مايحتمل من متغيرات طارئة على العملية التخطيطية سواء أكانت إقتصادية أو إجتماعية ومع ذلك فإن متابعة خطوط العملية التخطيطية وتقيمها هى فى حد ذاتها جزء لا يتجزأ من العملية التخطيطية .
وتظهر هذه المتغيرات بصورة أكثر فى الدول النامية عنها فى الدول المتقدمة التى إستقرت أنظمتها ومفاهيمها وتطورت أجهزتها الفنية . وتتأثر العملية التخطيطية من جانب اّخر بكفاية البيانات والمعلومات ومدى صحتها ، الأمر التى تعانى منه الدول النامية أكثر من الدول المتقدمة التى تعتمد فى تخطيطاتها على قاعدة وافية من البيانات والمعلومات المتجددة ، وهذا ماتحاول هذه الدورة مناقشته جملة وتفصيلاً فى ضوء دليل العمل الخاص بهذا الجانب .

إن تنظيم العملية التخطيطية فى مستوياتها المختلفة تتأثر كذلك بالوعى السياسى والوعى التخطيطى لدى متخذى القرارات على كل مستوى من هذه المستويات فكثيراً مانجد البدائل التخطيطية لا تستهوى متخذى القرارات أو لا تتناسب مع خلفياتهم السياسية أو الشخصية فى بعض الأحيان ، وفى هذه الحالة تصبح ديناميكية التخطيط كعملية مستمرة لا دافع لها على الحركة وفى هذه الحالة تتسع الفجوة بين المخطط ومتخذى القرارات .

وفى كثيراً من الأحيان نجد أن القرارات السياسية التى توضع مسبقاً لا يمكن تنفيذها تخطيطاً وبذلك تصبح عاجزة عن تحقيق أهدافها التى نمى عندها الوعى التخطيطى ليس فقط عند متخذى القرارات السياسية بل وعند المواطنين الذين يحركونهم سواء أكان ذلك على المستوى المحلى أو الأقليمى أو القومى وهكذا ترتبط العملية التخطيطية عضوياً فى مستوياتها الثلاث ، فالمجالس المحلية والإقليمية والقومية صاحبة القرارات والمشرعة للوائح والقوانين والنظام التى تحكم العملية التخطيطية فى مراحلها التنفيذية .

والعملية التخطيطية من ناحية أخرى تتأثر بمدى الرؤيا عند المواطنين ومن ثم عند واضعى السياسات ومتخذى القرارات ، ويطول هذا المدى فى الدول المتقدمة ويقصر فى الدول النامية التى لايهتم السواد الأعظم من مواطنيها إلا بقوت يومهم وما يقدر لغدهم ، وقليل منهم يرى إلى أبعد من ذلك جداً ، فلا يتقبل الكثير منهم أن تحل مشاكلهم على المدى البعيد بقدر مايريدون حل مشاكلهم العاجلة أو تلك التى فى المدى القريب فالمستقبل البعيد بالنسبة لهم خطوط عامة لا يعلم بمحتواها إلا الله سبحانه وتعالى ، وإن كانت الرؤيا لا تتناسب فى الأصل مع القول : ” اعمل لأخرتك كأنك تموت غداً وأعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ” .
ومن هذا المنطلق الربانى القويم لابد وأن تعالج العملية التخطيطية المسائل العاجلة والملحة على المدى القريب وذلك فى الوقت الذى تعمل فيه لمواجهة المسائل التخطيطية على كل من المدى القصير والمتوسط والطويل ، والقول
” كأنك تعيش أبدا” هو إفتراض للفرد قصد به المجتمع الذى يعيش فيه إلى وقت تحين الساعة ، وفى اللفظ أبداً تجديد للمرحلية الزمنية للحياة حتى نضمن إستقرارها ، فالعملية التخطيطية لابد وأن تكون متجددة على المراحل الزمنية المختلفة .

ومع كل ذلك فإن جمع وتبويب البيانات التخطيطية يعتبر حجر الزاوية فى العملية التخطيطة وجمع البيانات يتم على مراحل زمنية محددة ويجرى تجديدها بإستمرار كل خمس سنوات الخطط الخمسية للدولة حتى يكون هناك إرتباط المراحل التخطيطة على المستوى القومى والمستوى المحلى كما أن عملية جمع وتبويب البيانات التخطيطية أصبحت تستنزف حوالى 30% من الجهد والمال المبذول فى إنجاز المشروعات التخطيطية وذلك بسبب إعادة جمعها كل فترة من فترات مراجعة المخططات العامة للمدن .

كما أنها تعاد عند إجراء دراسات أخرى تمس التنمية الأقتصادية والأجتماعية فى المحليات لذلك فإن تنظيم عملية جمع وتبويب البيانات التخطيطة شاملة البيانات العمرانية والأقتصادية والأجتماعية سوف يكون الركيزة التى تبنى عليها عملية التنمية المحلية ، عمرانية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، الأمر الذى لابد وأن تدركه القيادات التنفيذية فى المحليات وأن تتحول أجهزة المعلومات فيها لتحقيق هذا الهدف ومهما يشار حول فاعلية هذه البيانات وأهميتها للتخطيطات التى لاترى النور فى العديد من التعديلات….فإن تبويب هذه البيانات وتجديدها بكل مايطرأ على الواقع من تغيرات… سوف تكون فى النهاية هى عصب العملية التخطيطية وان تجميعها بالاسلوب الصحيح و تبويبها واسترجاعها سوف يساعد على اتخاذ القرارات السريعة منها والقصيرة الامد أو الطويلة الامد . وكلما كانت البيانات التخطيطية منظمة ومرتبة بالاسلوب الصحيح كان من السهل وضع المخططات التفصيلية أو العامة وهذا ماتتطلبه العملية التخطيطة فى مصر وفى كل دول العالم الثالث ، فتقدم التخطيط العلمى فى الدول المتقدمة راجع إلى تنظيم البيانات التخطيطية فيها ، ولذلك تصبح عملية تجميع وتبويب وتجديد وإسترجاع البيانات التخطيطية على المستوى المحلى فى مدن وقرى مصر هى الخطوة الأولى على الطريق الصحيح لبناء العملية التخطيطية بصورتها المتكاملة اّجلاً أو عاجلاّ .

word
pdf