المدخل للارتقاء بالبيئة العمرانية للمدينة

المدخل للارتقاء بالبيئة العمرانية للمدينة2019-11-20T13:39:26+00:00

المدخل للارتقاء بالبيئة العمرانية للمدينة

د / عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني سابقا

 

لا يزال موضوع الارتقاء في مرحلة التجارب في مختلف بلدان العالم, ويعد الارتقاء – كأسلوب للتخطيط التفصيلي- مرحلة جديدة في تطوير المدن بعد النظريات التخطيطية التي كانت تعتمد على وضع المخططات العامة للمدن وما كانت تأخذه من وقت طويل نسبيا للأعداد لا يتناسب مع سرعة إيقاع عجلة التطور العمراني ومتطلبات التنمية خصوصا في العالم النامي. وقد استدعى هذا الأمر وضع صيغة مختلفة لفكر المخطط العام للمدينة الذي تبلور في صورة إعداد مخططات إرشادية للمدن تعمل على ملاحقة التطورات السريعة في عجلة التنمية العمرانية. ولكن لم تظهر نتائج هذه المخططات إلا في الشبكات الرئيسية للطرق والمرافق وبعض الخدمات, وكذلك بعض المشروعات العمرانية ذات الأهمية الخاصة, وذلك مع بقاء أكثر أجزاء المدينة وخاصة القديم منها بعيدة عن الاستفادة من هذه المخططات الإرشادية للمدن. هذا الامر دفع الى البحث عن أسلوب جديد لايعتبر بديلا للمخططات العامة و الارشادية ولكن يعتبر مكملا لها على المستوى التفصيلي. وهنا برز دور وأهمية “أسلوب الارتقاء” حيث يمكن من خلال هذا الأسلوب التعامل مع الأجزاء القديمة والمتخلفة من المدينة بشكل يتناسب مع متطلبات التنمية وسرعة إيقاع عجلة الحياة ومتطلبات مواجهة المشاكل القائمة. وبذلك أخذ موضوع الارتقاء أبعادا جديدة في الفكر التخطيطي والعمراني وإن كان لم يتبلور بعد في صورة علم له أصوله ونظرياته.

ويحاول الارتقاء بالتجربة والممارسة والتطبيق أن يكون لنفسه أصولا ونظرياته وهو ما زال في مرحلة أولية على هذا الطريق. والتجربة إن لم ترصد وتقيم وتناقش وتنشر لا يمكن أن تؤتي ثمارها. ويعتبر نشر الفكر والتجربة لهذا الموضوع الجديد وسيلة أساسية لنقل المعرفة إلى الأجيال اللاحقة, وكذلك وسيلة أساسية لتبادل الخبرات بين المشروعات المختلفة وبين الدول المختلفة. وهناك تجارب عديدة ورائدة في دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية, ودول أوروبا الشرقية والغربية. ومن المؤكد أن الحركة الفكرية لا يمكن إثراءها إلا من خلال الرصد والتقييم والنشر وتبادل المعرفة, وللأسف فإن هذا ما ينقص العالم العربي.
وعند الحديث عن الارتقاء لابد أن نعرف بإيجاز مفهوم هذا التعبير عند التخصصات المختلفة, ففي مجال العلوم الهندسية, يعني تحسين شبكات البنية الأساسية من طرق وشبكات مياه وصرف صحي وكهرباء وغاز… الخ بينما يعني بالنسبة للمعمارى تحسين الشكل المعمارى وتطويره و كذلك اصلاح المبنى ، بينما يعنى بالنسبة للمصمم الحضري تطوير البيئة الحضرية التي تتمثل في التشكيلات البنائية وتنسيق المواقع وتحسينها. أما بالنسبة للاجتماعي فيعني الارتقاء بالإنسان الذي يقيم ويستخدم هذه المباني بسلوكياته وعلاقاته الاجتماعية وعاداته وتقاليده وبالنسبة للاقتصادي فيعني الارتقاء إعطاء السكان ومجتمعهم دفعات جديدة لتحسين دخولهم وتطوير أعمالهم الإنتاجية.. بهذا، يختلف مفهوم الارتقاء باختلاف التخصص. والارتقاء بالبيئة العمرانية هدفه في النهاية الارتقاء بالمجتمع والفرد وبالتالي بالبيئة التي يعيش فيها المجتمع, وهذه مسألة لا تنفصل عن النشاط والممارسات الاقتصادية وهذا هو التكامل في الفكر العمراني والاجتماعي والاقتصادي ومن هذا نخلص إلى أهمية الأخذ بالمفهوم الشامل للارتقاء.

وفي نطاق الفكر الشامل للارتقاء, قد تختلف الممارسات من منطلق تحديد الأولويات ويحدث هذا الاختلاف من منطقة إلى أخرى بسبب اختلاف ظروف المناطق فقد تكون المناطق ذات طابع تاريخي وأثري, أو سكنية متدهورة, أو مناطق ليس لها طابع مميز, أو أجزاء من مناطق مركزية من المدينة, أو مناطق نمو عشوائي.. ومن هنا تصبح أولويات معالجة كل منطقة مرتبطة بظروفها الخاصة.
فالمنطقة التاريخية, الهدف فيها بالمقام الأول المحافظة على الطابع الحضاري وحماية الآثار الموجودة. وهذا يستلزم التركيز على الآثار وما حولها والمباني ذات الطابع المتميز وبحث ودراسة العناصر المعمارية ومواد البناء وبحث أسلوب ترميمها وإصلاحها. وكذلك بحث اسلوب التعامل مع المنطقة بما يتناسب مع القيمة الحضارية للمكان, وينعكس ذلك على كل ما هو قائم سواء كان مباني سكنية أو تجارية أو صناعية أو ترفيهية أو تعليمية, وكذلك ينعكس على المباني التي ستستجد بالمنطقة. هنا الصورة الحضارية تأخذ الأولوية ومنها تتشعب باقي المجالات فيتم اختيار الأنشطة الاقتصادية التي تناسب المكان بقيمته الحضارية والزمان بقيمته الاقتصادية. وكذلك تبحث مسألة السكان وتحديد النوعية المناسبة من السكان خصوصا إذا كان أغلب السكان الأصليين قد غادروا المكان إلى مواقع أخرى. وتبدأ عملية الارتقاء بالبيئة العمرانية من هذا المنطلق.

ويختلف التعامل مع المناطق المتخلفة عن أسلوب التعامل مع المناطق التاريخية. هنا يأخذ الإنسان القسط الأول من الاهتمام حيث أن المشكلة أساسا بهذه المناطق منبثقة عن انخفاض المستوى الحضاري للمجتمع وهذا بدوره ينضح على المكان وبالتالي فيكون التعامل مع المكونات المادية بالموقع دون التعامل مع السكان أسلوب غير سليم ولا يؤدي النتائج المرجوة منه. والتعامل مع الإنسان بوجه عام وذوي الدخل المنخفض والمستوى الحضاري المنخفض بوجه خاص مسألة غاية في الحساسية. وهذا يستدعي تركيز الجهود في مشروع الارتقاء على البعد الاجتماعي للمشروع ويستدعي مشاركة الباحث الاجتماعي والنفسي لوضع أسس هذا التعامل, كما يستدعي أيضا مشاركة الباحث الاقتصادي في إيجاد أفضل أساليب التنمية الاقتصادية, وبتضافر الجهود مع المخطط العمراني وباقي التخصصات الأخرى يمكن الارتقاء بالجانب العمراني للمكان.
ويختلف الوضع تماما بالنسبة للمناطق الحديثة من المدينة المتأثرة بالطابع الحضاري الغربي والذي انعكس على الشكل العام للمنطقة, والأمر هنا يختلف حيث أن المجتمع هنا غالبا مستواه مرتفع حضاريا وثقافيا وهنا تكون المسألة الاجتماعية أقل في الأهمية ويكون التركيز في هذا المشروع مرتبطا أساسا بالارتقاء بالشكل العام, ولا يدخل في التفاصيل الداخلية للمنشآت.
وقد يختلط في منطقة واحدة الأنواع الثلاثة حيث نجد التاريخي والمتخلف والجديد فاقد القيم الحضارية. وهنا تمتزج أساليب المعالجة الثلاثة في نطاق المشروع الواحد وتمتزج كافة الممارسات والتخصصات لكي تتوائم مع كافة أوجه المشروع.

وفي مشروع الارتقاء لا يجب الاعتماد فقط على الجانب المتعلق بالفلسفة والنظرية ولكن يجب الاهتمام بالجانب الواقعي التطبيقي, وهذا يرتبط إلى حد كبير ببناء الهياكل الإدارية والتنظيمية لنقل النظرية إلى الواقع وفي عالمنا العربي كثيرا ما نواجه بهذه المشكلة حيث يعمل المشروع ولا يواكبه إنشاء الكيان التنظيمي وإيجاد الكوادر الفنية القادرة على تنفيذ المشروع. وتزداد هذه المشكلة حدة خصوصا مع النقص الشديد فى الكوادر الفنية القادرة والمؤهلة. وعلاج هذا النقص يكمن في عقد برامج التدريب وتأهيل الكوادر الفنية ويكون التدريب في خطين متوازيين, خط من خلال عقد دورات تدريبية مكثفة لرفع كفاءة العاملين, وخط أخر من خلال التدريب أثناء ممارسة العمل, حيث يعمل مجموعة المتدربين يدا بيد مع خبير متخصص يقوم بنقل خبرته من خلال الممارسة اليومية إلى المتدربين. ويتكامل مع برامج التدريب هذه مجموعة من دلائل الأعمال يعدها خبراء متخصصين لكي تكون أداة لتوحيد الفكر التخطيطي والأساليب والوسائل ولتيسير العمل. وتتشعب دلائل الأعمال لكى تغطى كافة الجوانب و المستويات الفنية والإدارية و المالية. وتعد دلائل الاعمال في صورة مبسطة مفصلة مصورة تشرح تفصيليا تسلسل الأعمال ومحتواها في صورة مهام أساسية محددة ينبثق عنها مهام أخرى تفصيلية وتأخذ الدلائل صورة “اصنعها بنفسك” وبذلك يمكن توسيع القاعدة العريضة على الممارسة والتعامل مع مشروع الارتقاء.

والحديث عن الجوانب التنفيذية المتعلقة بمشروع الارتقاء يتطرق بنا إلى التعرض إلى الكيان التنظيمي للمشروع فلا يمكن الادعاء بأنه يمكن من خلال العمل المكتبي إعداد مشروع للإرتقاء. وحيث أن مشروع الارتقاء يأخذ الجانب الاجتماعي فيه مسألة أساسية. ويعتمد نجاح المشروع على مشاركة المجتمع في أعماله التنفيذية فإن هذا الوضع الخاص يستدعي المعايشة اليومية للمجتمع في صورة عملية مستمرة لاستقطاب إمكانياتهم واكتساب ثقتهم وتحفيزهم على المشاركة بالجهود الذاتية في عملية الارتقاء. وإيجاد الشعور بانتماء المجتمع إلى المشروع سيكون الضمان الأساسي لنجاح المشروع. وتأخذ مشاركة المجتمع صور شتى, ففي مرحلة الدراسة الميدانية يتعاون للتعرف على المكونات الاجتماعية والاقتصادية بموقع المشروع وكذلك للتعرف على مشاكلهم ورغباتهم. كما يمكن أن تكون مشاركة المجتمع في وضع متطلباته ورغباته وأولوياته بالنسبة لأعمال التنمية المختلفة. وكذلك يمكن عقد استطلاع للرأي ولجان للاستماع الجماهيري في مرحلة إعداد التخطيط وبدائله ومناقشتها. وأخيرا, يمكن أن يكون للمجتمع دورا أساسيا في تنفيذ وتمويل المشروع. ومساهمة المجتمع في مرحلة التنفيذ هي ضمان استمرارية التنفيذ وقوة الدفع له حيث أن المجتمع هو صاحب المصلحة الأولى.

والحديث عن مساهمة المجتمع يدعونا إلى النظر في إعطاء مشروع الارتقاء حظه من الإعلام الجماهيري خاصة عند التعامل مع الهيئات الاجتماعية المختلفة. وهذا يعطي أجهزة الإعلام المرئي والمسموع والمقروء أهمية خاصة, حيث أنها هي التي تصل إلى داخل المجتمع وتشرح بأسلوب بسيط للأفراد والجماعات أهمية ودور المشروع في التنمية وأهمية ودور المشاركة الاجتماعية كما أنها يمكن أن تبرز أن مشروع الارتقاء من وإلى المجتمع وأنه هو المنتفع الأول والأخير به. ومثل هذه التوعية الجماهيرية والتعريف بالمشروع تسهل على الأجهزة الفنية والإدارية مهامها في إعداد وتنظيم وتنفيذ المشروع.
وأخيرا وفي مجال استعراض أهمية الإعلام في مشروع الارتقاء, يجب الإشارة إلى أهمية الندوات والمؤتمرات العلمية التي يشارك فيها المتخصصين لعرض العوامل والمؤثرات المختلفة في موضوع الارتقاء ولإتاحة الفرصة لتبادل المعرفة والخبرة والتجربة وللوصول إلى رؤية شاملة للموضوع من مختلف جوانبه ومؤثراته, وسواء في كلياته وجزئياته وسواء في أبعاده العمرانية أو الاجتماعية أو الاقتصادية ثم مناقشة كافة هذه المسائل والتساؤلات وهذا يثري الموضوع ويوضح الرؤية ويحدد الأهداف ويرسخ قواعد هذا العلم الجديد بما يتناسب مع البيئة المحلية العربية والإسلامية. وذلك لكي تنبع النظرية من الواقع وليس فرضها على الواقع ولا تفرض عليه.

word
pdf