المدينة المصرية تفقد وجهها الحضارى وجذبها السياحى

المدينة المصرية تفقد وجهها الحضارى وجذبها السياحى2019-12-04T13:58:49+00:00

المدينة المصرية تفقد وجهها الحضارى .. وجذبها السياحى

 د / عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة للتخطيط العمراني سابقا

الأهرام الاقتصادى

 23/9/1991 

تعددت الاراء حول الحالة التى وصلت اليها الصورة الحضارية للمدينة المصرية وصفها البعض بأنها وصلت الى حالة من القبح يصعب اصلاحه والبعض الاخر يفسر هذه الظاهرة بانها طبيعية مثل غيرها من الصور الحضارية الاخرى التى وصل اليها المجتمع المصرى الذى تعددت أزياؤه فاذا كانت عمارة المدن المصرية توصف بالكرنفال فالكرنفال موجود أساسا فى الشارع المصرى فى الازياء المختلفة الاشكال والالوان فى العادات والتقاليد التى طفحت عليها القيم الغربية فى الاغنية والموسيقى حتى مسميات الشركات والمحال التجارية التى جنحت الى الكلمات الفرنسية والانجليزية امعانا فى التخلف الحضارى الذى أصاب المجتمع المصرى على مدى سنوات الاحتلال الفرنسى والتركى والبريطانى فخلعنا الزى التقليدى ولبسنا البدلة ورباط العنق الذى يلتف حول أعناقنا دون أن ندرى له سببا الا انه صورة من صور الاستعباد الحضارى. لبسنا الطربوش النمساوى ثم تركناه باعتباره صورة للتخلف … وظهرت السلاسل الذهبية فى أعناق شباب الغرب فسارعنا بلباسها وظهرت العمارة الغربية فسارعنا بتقليدها تفاخرا وتباهيا فاختلط القديم بالحديث أو شبه الحديث وفقدت المدينة المصرية وجهها الحضارى فى نظرالاصوليين ولكن المحدثين يرون عكس ذلك . فالانفتاح على الحضارات الاخرى أمر لابد منه اعجابا وتقليدا واستيرادا وعلى المجتمع أن يتفاعل مع المستحدثات والمستجدات اذا استطاع وهو فى ظروفه الاقتصادية والاجتماعية وبجذوره الحضارية لا يستطيع فيقف المجتمع كمن يرقص على السلم لا يرى موقفه من العالم. 

والمهم مع كل ذلك ان معظم النقد الموجه الى المدينة المصرية لفقدانها الوجه الحضارى يأتى من الغرب الذى يستهين بالمقلدين والمبهورين بل ويحاول أن يجد فى تراثنا الحضارى نبعا يستقى منه وقد كان. لذلك انبهر الغرب بفكر المعمارى حسن فتحى خارجها فلم ينظر اليهم أحد فالحياة تدور فى حلقات حضارية صعودا وهبوطا تارة أو يسارا ويمينا تارة ولكن فى النهاية ترجع النفوس الى مخزونها الحضارى تبحث فيه عن القيم الحضارية والمعنوية لموازنة القيم المادية كما أصيب بها الغرب والفرق بين التقدم والتخلف هو ان التقدم يسير بسرعات كبيرة ويتواءم مع نفسه على فترات قريبة أما التخلف فيسير بمعدلات أبطأ بحيث لا يستطيع معها اللحاق بالتقدم فيحاول تقليده كالاعمى الذى لا يبصر تحت قدميه ليرى ذاته وقيمة المعنوية المفقودة فتتوه الخطوات ويفقد المجتمع شخصيته وهويته الحضارية كما تفقد المدينة شخصيتها وهويتها المعمارية. ولم يدرك المفكرون بعد بأن الحضارة الاسلامية مبنية على أساس التوازن المستمر من الماديات والمعنويات وهى الحضارة التى تحفظ للمجتمع توازنه كما تحفظ للمدينة بالتبعية توازنها. من هنا كان لا بد من الرجوع الى القيم الاسلامية التى تعمل على هذا التوازن المتمثل فى التوازن البيئى والاقتصادى والثقافى لمجتمع المدينة أولا ثم لعمارتها بعد ذلك كانعكاس طبقى للمجتمع. 

لقد اختلف البعض فى تحليل العلاقة بين الاصالة والمعاصرة . كأنها فلسفة أو سفسطة ولكنها فى الواقع لها بعدها الاقتصادى الذى قد لا يشعر به خبراء الاقتصاد فبناء الشخصية المعمارية للمدينة على أساس التعمق فى المحلية يضيف الى المدينة بعدا سياحيا يجذب اليها الملايين من أنحاء العالم خاصة الهاربين من المدن ذات العمارة الميكانيكية. من هنا كان البحث للربط بين الاصالة والمعاصرة هدفا حضاريا . كما هو أيضا هدف اقتصادى لا يمكن اغفاله . وقد تنبهت الى ذلك العديد من دول العالم السياحية مثل المغرب التى تعمل على اضفاء الطابع المعمارى المتميز لمدنها شكلا ولونا حتى وان كانت العمارة فى بعض الاحيان لا ترتبط بالقيم الذاتية تماما مثل حرص المجتمع المغربى على إضفاء الطابع الوطنى على الزى حتى ولو كان تحته زى غربى. فالعمارة هى الزى الاشمل للمجتمع . وبنفس المنطق ظهرت المدينة التونسية بطابعها المميز حتى أصبح من السلوك الاجتماعى صباغة المبانى باللون الابيض والشبابيك والابواب الازرق التركواز مرة كل عامين كما أصبح من السلوك الاجتماعى استعمال القيشانى الذى عليه زخارف اسلامية كاطار للفتحات أو لتكسية المقاعد الثابتة. ومن الغريب أن تستمر هذه السلوكيات الاجتماعية فى دول عاشت حقبة طويلة تحت الاحتلال الفرنسى الذى غير اللهجة قليلا ولكنه لم يستطع أن يغير التراث الحضارى للمجتمعات فى عمارتها أو أزيائها أو عاداتها وتقاليدها وفى أقصى المشرق لا تزال شعوب شرق آسيا تحتفظ بتقاليدها فى الزى كما فى العمارة فالهند بالرغم من طول فترة الاحتلال البريطانى لا تزال تلبس الزى الوطنى الذى يؤكد الشخصية القومية الامر الذى ينعكس بالتبعية على عمارة المدن ويزيد من عوامل جذبها السياحى. 

واذا كانت الدول تسعى الى تطور الاقتصاد القومى وتحيره كما تسعى الى تغيير سلوكيات المجتمع خاصة بالنسبة لانماط الاستهلاك فان البحث عن زى وطنى تتوافر فيه البساطة والتعبير عن التراث وتناسب البيئة وحركة الانسان صيفا وشتاء . قد يؤدى الى الاستغناء عن كثير من المكملات الظاهرة فى الزى ويقلل من استهلاك الخامات الداخلية فيه ( هذا بخلاف ما يحتاجه التصدير) وبنفس المنطق يمكن البحث عن عمارة وطنية تتوافر فيها البساطة والتعبير عن التراث وتتلاءم مع البيئة المحلية ومتطلبات الانسان داخلها بالنسبة لتطور أنماط الاثاث أو خارجها بالنسبة للطابع المعمارى العام . واذا كان الزى الوطنى هو شكل اتفق عليه المجتمع فان العمارة الوطنية من الخارج تصبح مثل الزى تماما يتفق عليها المجتمع. 

فتكون من الخارج هى عمارة المجتمع ومن الداخل هى عمارة الفرد من هنا تقيد حرية الابتكار المعمارى من الخارج بالقيم التى يرضى عنها المجتمع وتتحرر حرية الابتكار فى الداخل تبعا للمتطلبات المعيشية والامكانيات المادية والمستوى الثقافى…. هذه هى عمارة الوسط التى تعتبر من أهم القيم المعمارية لعمارة المسلمين والغريب أن هذا المنطق يطبق فى العديد من الدول المتقدمة التى نستورد منها القشور ونأخذ منها الظاهر دون الباطن وهكذا يصبح البحث عن الشخصية العمرانية للمدينة المصرية قضية حتمية اجتماعيا وثقافيا من ناحية واقتصاديا وسياحيا من ناحية أخرى هنا يظهر دور الهيئات المسئولة عن بناء المدينة المصرية بمرافقها واسكانها وخدماتها ومستشفياتها ومصانعها.

word
pdf