المنظور الإسلامى لتنظيم العمران.. المدخل لإعادة التوازن العمرانى للمدينة العربية

المنظور الإسلامى لتنظيم العمران.. المدخل لإعادة التوازن العمرانى للمدينة العربية2019-11-20T07:46:32+00:00

المنظور الإسلامى لتنظيم العمران
 المدخل لإعادة التوازن العمرانى للمدينة العربية

   د. عبد الباقى إبراهيم

  رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية ـ القاهرة

     لاتزال إشكاليات التحديث والتأصيل في التجارب المعمارية المعاصرة في البلدان العربية وتجليات الإغتراب في العمران العربى المعاصر محلا للجدل والنقاش بين كثير من المفكرين والمعماريين . وطالما  طرحت هذه الإشكاليات في العديد من المؤتمرات والندوات التى حاولت إلقاء الضوء على مدى تأثير الثقافة الواردة من الغرب على موروثنا الحضارى والعمرانى . والعمارة العربية والإسلامية كغيرها من الفنون التى تعرضت إلى موجات متلاحقة من الغزو الثقافى الغربى منذ العصر العثمانى وخلال عصور الإحتلال وما واكبها من نفوذ أجنبى بدأت أول بوادره تظهر في عصر الخديوى إسماعيل في مصر عندما حاول ان يجعل من القاهرة قطعة من أوروبا فكانت دعوته لبعض المعماريين الفرنسيين والإيطاليين لتعمير إمتداد القاهرة غرب المدينة التاريخية فشقت الشوارع العريضة على النمط الباريسى وأقيمت العديد من العمائر التى تحمل طرز عصر النهضة والباروك كما تغيرت الأزياء الرسمية وشاع الزى الغربى في الأوساط الراقية ودخلت أيضا الموسيقى الغربية عندما أقيمت  دار الأوبرا لتقدم الأنغام السيمفونية والأوبرالية . كما نفذت الثقافة الأوربية إلى كافة الفنون بكل انواعها .. وهكذا بدأت تتغير الملامح الحضارية للإنسان العربى في مصر كما تغيرت ملامح العمارة والعمران فيها .. وانقطع تيار التواصل الحضارى مع الماضى الزاخر بإبداعاته الفكرية والأدبية والفنية والمعمارية . ثم دخلت مصر بعد ذلك حقبة جديدة من تأثير الثقافة الغربية  وذلك من خلال التفاعل الثقافى الناتج عن إرسال البعثات فى مختلف التخصصات إلى الغرب الأمر الذى أدى إلى ظهور العديد من قادة الفكر والأدب والفن والعمارة الذين تأثروا بالحضارة الغربية  ونقلوا ملامحها الثقافية إلى مصر وبالتالى إلى الدول العربية وهو ما أثار غيرهم من المفكريين والأدباء والمعماريين الذين نادوا للعودة إلى التراث العربى والإسلامى ينهلوا منه في جميع المجالات الثقافية ومنها العمارة فبدأ البعض من المعماريين بالنقل الحرفى عن العمارة الفرعونية في بعض المبانى العامة وبالنقل الحرفى عن العمارة الإسلامية في غيرها مع التبسيط والتنميط .

ثم بدا الحوار الساخن بين المؤيدين لضرورة التفاعل مع عمارة الغرب باعتبارها عمارة عالمية في عصر الإتصالات  والمؤيدين لضرورة التعامل مع العمارة التراثية لربط الأصالة بالمعاصرة . وهكذا اختلطت المفاهيم كما اختلطت المدارس الفكرية الأمر الذى انعكس بالتالى على المناهج المعمارية في الجامعات ومن ثم على الإنتاج المعمارى الذى حول المدينة العربية بعد ذلك إلى كرنفال من الأشكال والألوان والطرز المعمارية . وفقدت المدينة بذلك هويتها الحضارية وشخصيتها العمرانية . وانتقلت العدوى بالتالى إلى المدن الأخرى في الدول العربية ، وظهرت آثارها في عمارة الخمسينات والستينات في كل من الكويت والمملكة العربية السعودية وسوريا والعراق وغيرها . إلى أن بدأت عوائد النفط تجذب المعماريين من الغرب إلى المنطقة العربية مرة أخرى فظهرت العمائر التى تعكس في معظمها العمارة الغربية الحديثة وأصبحت الساحة العربية مثل السيرك يحاول المعماريون الأجانب ان يعرضوا  فيه ألعابهم المختلفة . فاختل التوازن العمرانى للمدينة العربية مرة اخرى وساعد على ذلك قناعة الكثيرين من أصحاب رؤوس الأموال وغيرهم من المعماريين  العرب بهذا التيار الجارف الوارد من الغرب بحجة أن العالم قد اصبح قرية صغيرة لا مكان فيه للأصالة في عصر التكنولوجيا والأقمار الصناعية . وأمام هذه الظاهرة  قام قلة من المعماريين العرب في بداية الستينات يدعون إلى  تأصيل القيم الحضارية في بناء المدن العربية المعاصرة وكان منهم حسن فتحى وعبد الباقى إبراهيم في مصر ومحمد مكية ورفعت الجادرجى في العراق وسبا شبر في الكويت وأخذوا على عاتقهم حملة التنوير الثقافى المعمارى سواء بالكتابة أوالنشر أو بالإنتاج المعمارى الذى يربط الأصالة بالمعاصرة .. وامتدت هذه الحملة تنتشر في كافة البلاد العربية وتصل إلى قناعة متخذى القرار فيها من أصحاب رؤوس الأموال  والمعماريين وبالأهمية الحضارية لهذه الدعوة وبدأت صحوة جديدة تحاول ان تعيد إلى المدينة العربية وجهها الحضارى الذى فقدته على مدى قرن من الزمان .
ومع هذه الصحوة الجديدة التى ظهرت آثارها في الثمانينات والتسعينات تسللت دعوات غربية جديدة تطرح النظريات الغربية المعاصرة في العمارة نتيجة الفكر المعمارى المتجدد والمتفاعل باستمرار مع الإنجازات التكنولوجية المتلاحقة في علوم البناء وهو ما يصدر بعد ذلك إلى العالم العربى ليظهر مرة اخرى فى المنتج المعمارى الحديث لذلك  دعى بعض المعماريين العرب وكان على رأسهم حسن فتحى إلى ضرورة البحث عن تكنولوجيا للبناء متوافقة مع البيئة المحلية والإمكانيات البشرية في العالم العربى . وظلت هذه الدعوة حبيس الأدراج ولم تظهر آثارها على العمارة العربية المعاصرة كما لم تستطيع مواجهة الإنجازات المتدفقة من الغرب.

ومع كل هذه الصراعات الفكرية كانت العمارة الإسلامية دائما هى المرجع والمنهل الرئيسى لتأصيل القيم الحضارية في بناء المدينة العربية المعاصرة وبدأ منهج التعامل مع التراث المعمارى الإسلامى لمحاولة الحصول منه على الصيغة المعمارية الملائمة التى تتواكب مع متطلبات العصر . وانقسم هذا المنهج إلى ثلاث إتجاهات الأول وجد أن أنماط العمارة الإسلامية الموروثة والتى ثبتت نسبها الجمالية وابداعاتها المعمارية يمكن إعادة صياغتها نصا وروحا في العمارة المعاصرة . وقد ظهر هذا الإتجاه جليا في مجموعة كبيرة من المساجد التى انشأت أخيرا في مدن المملكة العربية وتقبلها الرأى العام بالترحاب مع مافيها من تناقضات انشائية لاتتمشى مع العصر ـ أما التوجه الثانى فظهر في أعمال العديد من المعماريين العرب الذين دأبو على تحليل المفردات المعمارية التراثية بهدف الإقتباس منها في صياغة العمران المعاصر مع استثمار المنجزات التكنولوجية الحديثة في البناء .

أما التوجه الثالث فيرى انه لايجب اعتبار العمارة الإسلامية هى فقط ما انتج من معمار في فترة تاريخية محددة زمنيا بالعصور الإسلامية وفى حيز مكانى واحد محدد بالمنطقة الممتدة من شرق العالم الإسلامى إلى غربه . الأمر الذى يخرج المفهوم الإسلامى في العمارة عن مضمونه باعتبار ان الإسلام حضارة لايحدها زمان أو مكان . وأن بها من المضامين والقيم المعمارية الثابتة التى لاتتغير بتغير المكان و الزمان أما الشكل فهو العامل المتغير بتغير خصائص كل مكان وزمان ويسعى هذا التوجه إلى  إعادة المنهج العلمى للبحث عن العمارة في الإسلام كبديل اللبحث فى العمارة الإسلامية بمفهومها التقليدى الذى رسخ في الأذهان ، من هذا المنطلق بدأ البحث في الأصول والنظم التى كانت سائدة في العصور الإسلامية المتتالية وعن مدى تأثيرها على الإنجاز المعمارى فيها . كما بدأ البحث من ناحية أخرى في مراجعة آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية واجتهادات السلف الصالح  بهدف استخلاص القيم الحضارية التى تبنى الإنسان المسلم وأخذها بالقياس في بناء العمران هذا مع الأخذ بأساليب البناء الحديثة والمتطلبات المعاصرة التى لاتتعارض مع العقيدة  مع تحديد الثوابت والمتغيرات في هذه الأطروحة .

   من هنا يمكن أن تقف فكرة المنظور الإسلامى لتنظيم العمران  في مواجهة النظريات المعمارية الغربية التى تتدفق تباعا على المدينة العربية . وهذه النظريات الغربية مستمدة من تراثهم العلمى ومعتمدة على انجازهم التقنى . هذا الإنجاز الذى يقف دائما المعمار العربى أو الإسلامى أمامه جامدا ومنبهرا به ولايستطيع ان يقدم البديل الفكرى أو النظرى النابع من تراثه وحضارته . والبديل هنا لاتقع مسئوليته على المعماريين فقط بقدر ماتقع أيضا على المفكرين والأدباء والعلماء والمثقفين والفنانين الذين يعبرون عن وجدان المجتمع الإسلامى العربى . هذا البديل الفكرى الذى يسعى إلى تحقيق الأهداف التالية :

  1. البحث عن الذات كبديل للتبعية الثقافية والفكرية في العمارة والعمران .
  2. إعادة اكتشاف التراث الثقافى والعلمى الإسلامى وتوظيفه في النظرية المعمارية المعاصرة .
  3. تأكيد المرجعية الفكرية الإسلامية واحيائها في العمران المعاصر .
  4. مواجهة الغزو الثقافى الغربى بإعادة الأعتبار للغة العربية .
  5. وضع النظرية الإسلامية في العمارة وتقديمها للعالم كنظرية عالمية .
  6. اطلاق الحرية في التعبير والإبداع في اطار القيم الإسلامية ومن خلال الموروثات المعمارية .
  7. التأكيد على ان العمارة في الإسلام هى منتج اجتماعى أكثر منه انجاز فردى .
  8. ولتحقيق هذه الأهداف في البناء الفكرى لتنظيم العمران في الإسلام لابد من أخذ الحقائق التالية  في الاعتبار:

1. التقدم العلمى الذى أفرزه الغرب في فترة الضعف التى مر بها العالم العربى والإسلامى خلال مراحل        الإستعمار أضعف القدرة على تقديم النظير له حتى أصبحت المراجع الغربية هى الموجه للفكر المعمارى في العالم العربى .

  1. الموروث المعمارى في فترات العصور الإسلامية كان معبرا عن الارتباط العضوى بين الإنسان والعمران الأمر الذى ظهر في حركة النمو العضوى للمدن وفى التجانس الشكلى للعمارة .
  2. اختلاط النظريات الغربية التى لاأثر للدين فيها بمضمون العمارة في الإسلام أثار الكثير من التناقضات الفكرية باعتبار أن الإسلام دين وحضارة وهو المرجع الأساسى في المنظور الإسلامى للنظرية المعمارية .
  3. الغرب يقدم النظريات المعمارية المتلاحقة ويغزو بها الفكر المعمارى في العالم العربى في الوقت الذى لم يقدم فيه المعمارى العربى النظرية البديلة فأصبح تابعا ومتلقيا أكثر منه مبتكرا  ومفكرا .
  4. النظريات الغربية لاتتضمن الجانب العقائدى أو الدينى في الوقت الذى يدخل فيه الإسلام عنصرا هاما في بلورة الفكر المعمارى الإسلامى .
  5. الانسان هو العنصر الغائب في النظرية المعمارية الغربية التى تعتمد على الإبداع الفردى دون مشاركة الجماعة أو المجتمع بكل مستوياته في الإنجاز العلمى للعمارة .
  6. الجدل الفكرى لايزال قائما بالنسبة لوصف العمارة بالإسلامية وهل يصح أن يطلق عليها عمارة المسلمين أو انهاء هذا الجدل بتعريف العمارة في الإسلام إذا كان هو السند الحضارى للمجتمع .
  7. من هذه الحقائق الثابتة تنطلق النظرية الاسلامية لتنظيم العمران من الثوابت التالية :
  8. 1ـ الإسلام لايحده زمان أومكان ويهدف إلى ماينفع الإنسان في حياته الدنيوية والأخروية ويدعو إلى التقدم العلمى وأعمال الفكر والتمعن في أسرار الكون بما يحدد المضامين الثابتة في العمران الإسلامى ، أما الشكل فهو  يتغير بتغير الزمان ويرتبط بالجذور الثقافية للمكان وتبقى المفاهيم الإسلامية هى الدافعة لحركة المجتمع والمحركة لابداعياته النابعة من الموروث المعمارى .
  9. 2ـ الإسلام هو حضارة تصلح لكل العصور تبنى الإنسان كما تبنى العمران وفيها كل مقومات النظرية لتنظيم العمران التى لم يستكمل إكتشافها بعد وفيها المرجعية الثقافية البديلة للمرجعية الغربية .
  10. 3ـ الإبداعات المعمارية في العالم العربى والاسلامى تتعاظم في حركة مستمرة وقبولها يرتبط بتفاعلها مع الجوانب الثقافية والبيئية والوظيفية والإقتصادية والإجتماعية التى تمثل مقومات النظرية الإسلامية في تنظيم العمران والابداع في عمل الفرد أو الجماعة . من هنا يظهر القوام الجماعى للنظرية التى يتمثل في كون العمارة من الداخل ملكا للفرد ومن الخارج ملكا للمجتمع الذى يعيش بين جوانبها . الأمر الذى يثير الجدل بين الفردية في الإبداع والجماعية في التلقى أو بمعنى آخر اشكالية العمارة بين الفردية والجماعية الذى يتمثل فى منهج الوسطية وهو ما ينعكس بالتالى على عملية بناء الفكر المعمارى والعملية التصميمية ومشاركة المجتمع في التخطيط والتصميم العمرانى .
  11. 4ـ المد الحضارى بين الماضى والحاضر والمستقبل عملية مستمرة يصعب إيقافها كليا أو جزئيا ويعتمد في ذلك على قوة الموروث الثقافى للمجتمع المرتبط دائما بالموروث العمرانى . فالحفاظ على الأول وتفعيله يرتبط بالحفاظ على الثانى وتطويره في بناء الشخصية المحلية للعمران وان شابتها بعض المؤثرات الخارجية التى لاتتعارض مع البيئة الإجتماعية أو القيم الإسلامية .
  12.      من خلال الحقائق والأهداف والمنطلقات السابقة يمكن التعرض لبعض جوانب النظرية العمرانية في الإسلام من واقع مايرد في آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة إبتداء من تعريف وحدة الجوار كخلية اجتماعية عمرانية في بناء المدينة الإسلامية المعاصرة أو من تطبيق مفهوم التكافل الإسلامى في مشروعات الإسكان أو من تحرير المضامين التصميمية في البناء كما  في تصميم المساجد أو في تصميم المساكن او غيرهما من المبانى . وينبع تعريف وحدة الجوار في المدينة الإسلامية من تفسير الحديث النبوى الشريف ” إلا إن أربعين دار جار” وأشار في ذلك إلى الجهات الأربعة ومن ذلك يمكن استخلاص شكل وحدة الجوار بأبعادها الهندسية الثابتة وبكثافتها السكانية المختلفة لتصبح بمثابة الخلية في بناء جسم المدينة الإسلامية على مدى مراحل نموها المستمرة بصورة متكاملة . وكان ذلك مدخلا لاستنباط النظرية الإسلامية في التنمية العمرانية شاملة مرحلية الإستيطان البشرى المتكامل وتطبيق التكافل في مشروعات الإسكان ومراجعة اسلوب تقسيم الأراضى بما يسمح لهذا التكافل لأن يضفى الطابع العمرانى المتجانس . وقد  نبعت نظرية التكافل في مشروعات الإسكان وعدم الفصل بين الطبقات من خلال الآية الكريمة { أهم يقسمون رحمة ربك . نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون }  وفى ذلك دعوة لعدم التفرقة بين الطبقات في التجمعات السكنية وتأكيد المزج الإجتماعى فيها وتطبيق مبدأ التكافل بين المسلمين حتى يصبح بناء الإيواء لمن لا مأوى لهم جزءا لا يتجزأ في عملية التنمية العمرانية المتكاملة يتحمله الأغنياء عن الفقراء باعتباره مصرفا للذكاة . وتنتقل النظرية بعد ذلك لتتضمن القواعد الفقهية التى تحكم تصميم المسجد في كل زمان ومكان مع إختلاف القواعد التقنية والجذور الثقافية التى تؤثر على الشكل المعمارى في البيئات المختلفة  فالقواعد التصميمية الثابتة تحث على عدم قطع صفوف المصلين بكثرة الأعمدة وتوفير رؤية الخطيب واعطاء الصفوف الأولى الأفضلية وكما جاء في الحديث النبوى الشريف ” لو يعلمون مافى الصف المقدم لاستهموا ” . كما ان تصميم المسجد ليس للتفاخر والتباهى كما في الحديث النبوى الشريف ” لاتقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ” وكما قال أنس ” يتباهون بها ثم لايعمرونها إلا قليلا ” والمسجد ليس مكان للزخرف كما في الحديث الشريف ” إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار لكم ” ويبقى منهج الوسطية هو المتحكم في هذه النظرية . ومن الناحية التخطيطية يبقى مبنى المسجد في قلب النسيج العمرانى للمدينة وليس منفصلا عنه أو على أطرافه أو خارجه  تماما كما هو في قلب النسيج الإجتماعى الذى يلتف حول المسجد كمركز للنشاط الإجتماعى والثقافى والدينى داخل وحدة الجوار . وكذا تبدأ المحاولات للبحث عن جذور النظرية التخطيطية والمعمارية من نصوص القرآن الكريم والسنة المحمدية ويستمر البحث بعد ذلك في أقوال السلف الصالح وفى النظريات العلمية لعلماء المسلمين ومن الموروث العمرانى في المدن الإسلامية كمرجعية ثقافية وفكرية تحرك النظرية الإسلامية وتقدمها للعالم كدليل على قدرة المعمار المسلم على استنباط النظريات المعمارية كما يفعل أقرانه في دول الغرب بنفس المنهج والأسلوب مع اختلاف المحتوى والمضمون . هكذا يكون المنهج العلمى لمواجهة اشكاليات التحديث والتأصيل وتجليات الاغتراب في العمران العربى . وحتى تعود للأمة الإسلامية والعربية مقوماتها الحضارية  التى فقدت معظم ملامحها الثقافية والعمرانية خلال فترات الغزوات العسكرية وما تبعها من غزوات ثقافية واقتصادية . وفى ذلك دعوة إلى تأصيل القيم الحضارية في بناء العمران الجديد بأبعاده التخطيطية والمعمارية والاجتماعية والاقتصادية والتنظيمية .
  13.      وعلى الجانب الآخر فى الصورة لايمكن اغفال دور المؤسسات البلدية والمحلية في رسم الصورة العمرانية للمدينة العربية المعاصرة وذلك من خلال تطبيق القواعد ونظم البناء الغربية والتى شكلت نسيجها العمرانى وذلك بعد ان انتهى العصر الذى كان فيه المحتسب هو المسئول عن التوازن العمرانى للمدينة الإسلامية حيث كان يقوم بمراقبة اعمال البناء والاطمئنان على توفير الخصوصية المعمارية للشارع والتأكد من صلاحية مواد واسلوب البناء  والحرص على توفير الخصوصية الداخلية للمبانى معتمدا على الاعراف والتقاليد التى رسخت بدورها فى مجتمع المدينة .  واذا ما وقف امام المخالفات فى اعمال البناء أو امام المنازعات بين اصحاب العقارات فكان يرد ذلك الى القاضى الذى طالما يحكم بمبدأ “لاضرر ولاضرار” وبالمرجعية الفقهيه للأحاديث النبوية ومآثر السلف الصالح . هذا بالإضافة ما كان للمحتسب من مهام اخرى فى التفتيش على الاسواق ودرأ الأذى عن الطريق والحفاظ على سلامة الحى من الاخطار البيئية والاستعمالات الضارة بالسكان . وهكذا احتفظت المدينة الإسلامية بهذا الاسلوب بشخصيتها العمرانية حيث كان التفاعل المتوازن بين الاطراف الثلاثة المتمثلة فى ادوار المحتسب وحكم القاضى وقناعة المجتمع أو الجماعة بالقواعد التنظيمية النابعة من المضمون الإسلامى الامر الذى لم يعد له اثر فى احكام الطابع المعمارى للمدينة العربية والاسلامية المعاصرة حيث تم استيراد نظم البناء من الغرب فيما يخص الإرتفاعات والمقاسات المحددة للفراغات الداخلية  والتى تطبق على المستوى العام لكل المدن والقرى دون تمييز بين بيئة وأخرى . ودون التطرق الى قواعد التشكيل الخارجى للمبنى الذى هو ملك الجماعة ودون اعتبار للطابع المعمارى للمكان أو للمقياس الإنساني فى الفراغات .
  14. فجاءت نظم البناء بهذه الصورة المستوردة  قاصرة عن  إيجاد التوازن والطابع العمرانى للمدينة العربية المعاصرة الأمر الذى يتطلب مراجعة هذه النظم وغيرها من اللوائح من المنظور الإسلامى في تنظيم العمران مع إعادة النظر فى إيجاد صيغة معاصرة لدور كل من المحتسب والقاضى فى مراقبة أعمال البناء والتعمير حتى يستكمل المنظور الإسلامى لتنظيم العمران  فعاليته فى الواقع الملموس فى إعادة التوازن العمرانى للمدينة العربية وربط الأصالة بالمعاصرة ومواجهة ظاهرة الاغتراب في العمران العربى .
word
pdf