بدأ إعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية

بدأ إعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية2019-11-07T14:49:07+00:00

بدأ إعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية

دكتور عبد الباقي إبراهيم

كبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية سابقاً

 

إدراكا بالأهمية الحضارية والاقتصادية لإعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية والذي فقد على مدى السنوات السابقة عندما تضخمت المدن وانتشرت العشوائيات وأهدرت القيم العمرانية وازداد الضغط على المرافق والخدمات وانتشرت الأبراج وانحسرت المناطق الخضراء وتلوث العمران بيئيا وبصريا وسمعيا الأمر الذي انعكس بالضرورة سلبيا على سلوكيات البشر فازداد العنف والتشاحن وأهدرت القيم والمبادئ وهو ما انعكس بدوره على أداء الفرد في الخدمات والإنتاج، لكل هذه الأسباب صدر قرار مجلس الوزراء في منتصف عام 1997 بتشكيل اللجنة الوزارية لإعادة التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية تضم ثلاثة من الوزراء وسبعة من الخبراء المخططين والمعماريين والمهندسين بهدف طرح الحلول العاجلة والآجلة لتطور البيئة العمرانية للمدينة والقرية المصرية بما في ذلك تطوير قوانين التخطيط والبناء والارتقاء بالأداء في مجال الشؤون البلدية والقروية أو في الحفاظ على الثروة العقارية أو في كشف الحجاب عن التراث المعماري المختفي تحت اللافتات وإبراز قيمه المعمارية أو في العناية بنظافة المدن والقرى والحد من الأمراض المتوطنة أو في إيواء المحتاجين ممن يفترشون الأرصفة ويتسترون بألواح الكرتون والصفيح، فكانت لفتة عظيمة من رئيس مجلس الوزراء لتنفيذ التطلعات الحضارية لرئيس الجمهورية الذي يرغب في أن يعود إلى المدينة والقرية المصرية ثوبها القشيب الذي فقدته وتمزقت أطرافه بعد أن كانت منارة العلم والعمران في العالم العربي. ونشطت اللجنة الوزارية وقدم خبراؤها العديد من المذكرات والاقتراحات والتوصيات وبدأت اولى خطوات اعادة التوازن للبيئة العمرانية والمعمارية في القرار الوزاري الذي صدر لحصر وتسجيل المباني ذات القيمة المعمارية والتاريخية في مختلف المحافظات باعتبارها ثروة قومية لابد من الحفاظ عليها وصيانتها واستثمارها ثقافيا. فكانت بمثابة اول السيل من إجراءات اخرى يتم التصدي لها تباعا لإعادة التوازن الى البيئة العمرانية والمعمارية للمدينة المصرية بدأ من التخلص من الشوائب العالقة في قانون تنظيم البناء ولائحته التنفيذية التي تحد من الابداع المعماري. فما الهدف مثلا أن يكون البرج في العمائر السكنية نصف الواجهة.. وما يضير لو تغيرت أسس تصميم المناور في ظل التقنيات الحديثة و كيف يستوي تطبيق نفس النظم في القاهرة التاريخية كما في المناطق المتدهورة عمرانيا كما في مناطق الاسكان المتميز أو في منطقة وسط المدينة. فلكل منطقة خصائصها العمرانية التي تميزها ..و كيف يسمح قانون تنظيم البناء بمد المبنى بالمياه والكهرباء بغض النظر عن بياض الواجهات وترك الأعمدة الخرسانية كالشمعات أعلى المساكن .. لن يعود التوازن إلى البيئة العمرانية للمدينة المصرية إلا إذا عاد نظام البلديات الذي كان يطبق في الماضي القريب ويطبق في كل مدن العالم وهو النظام الذي يستطيع أن يتحكم في عمران المدينة ويمدها بالمرافق ويحافظ على طابعها المعماري وبيئتها النظيفة بعد ان فشلت الإدارة المحلية في ذلك .. لن يعود التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية للمدينة المصرية إلا إذا توفر التوازن بين التنمية العمرانية للمناطق الفقيرة داخل المدن و الإرتقاء بها مع التنمية العمرانية الاستثمارية خارجها في الضواحي والمدن الجديدة حتى يتوفر بذلك مبدأ التكافل الاجتماعي ويقل التفاوت الشديد بين الطبقات وهنا يصبح حتما على شركات الاستثمار العقاري التي تتولى تعمير المناطق الجديدة أن تقوم بتطوير المناطق الفقيرة في إطار هامش استثماري بسيط. ولن يعود التوازن إلى البيئة العمرانية والمعمارية للمدينة المصرية إلا بصيانة الثروة العقارية التي تنهار مع الوقت وذلك بزيادة الإيجارات التي تم خفضها إلى الحضيض أو بالتأمين الإجباري عليها كالتأمين على السيارات للتأكد من صيانتها وسلامتها. وهنا يمكن أن تقوم فئة جديدة من شركات صغيرة تختص بالصيانة في كل منطقة سكنية أو شارع يتضامن سكانه في اتحادات للشاغلين على مستوى وحدة الجوار وهنا يمكن للصندوق الاجتماعي أن يرعى هذه الشركات الصغيرة ويوفر لها الأجهزة والمعدات والمواد التي تساعدها على أداء مهمتها وتفتح آفاقا جديدة أمام الأيدي العاطلة. ولن يعود التوازن للبيئة العمرانية والمعمارية للمدينة المصرية إلا إذا زرع كل مواطن شجرة أمام مسكنة ورعاها واشترك مع جيرانه في الشارع في تبليط الرصيف أمام مساكنهم من خلال اتحاد الشاغلين في وحدة الجوار و بالتعاون مع البلديات المحلية وقد يمتد هذا النشاط ليشمل دهان الواجهات وتجديدها وإضفاء التجانس عليها. وهذا هو دور الجمعيات الأهلية والمنظمات الثقافية والأحزاب السياسية ولن يعود التوازن العمراني والمعماري للمدينة المصرية إلا ذا انحسرت الأعداد الرهيبة من السيارات التي تحتل الشوارع والطرقات كجراجات مفتوحة تملكها الدولة ودون أي مقابل ، فالشارع والطريق ملك المجتمع ، من يستغله أو يستثمره لابد وأن يكون بمقابل يدفعه للمجتمع أو يبحث له عن بديل بعد أن أصبحت السيارات وسيلة سهلة يتناولها الأولاد والبنات من الشباب والصغار .. وقد ازدحمت بها المواقع حول المدارس والكليات وهبطت بها السلوكيات وانحدرت بها الأخلاقيات ، ولن يعود التوازن العمراني والمعماري للمدينة المصرية إلا إذا نظمت مهنة الهندسة الاستشارية في مجال العمران بعد أن هبطت إلى أدنى المستويات وتساوى فيها الصغير بالكبير واختلط التخصص بالتخصص وكانت النتيجة هو هذا العمران القبيح الذي تتميز بها المدينة المصرية حاليا بعد أن كانت منارة للشرق والغرب معا وكما نظمت مهنة المقاولات لابد من تنظيم مهنة الاستشارات. ان اللوائح وشروط البناء لا تميز بين الغث والنفيس في التصميم ما دام البناء مستوفي لشروط الأمن والأمان وإذا كان بعض المحافظين قد اقتنعوا بضرورة وجود لجان للطابع تراجع التصميمات قبل إصدار تراخيص البناء إلا أن معظمهم لا يعظم هذا الاتجاه ويفتقد الآليات التي تساعده على توجيه اعمال هذه اللجان ان وجدت. وسوف يبقى اعادة التوازن للبيئة العمرانية والمعمارية للمدينة المصرية معلقا الى أن تزول الفوارق الشاسعة بين سكان العشش وسكان القصور ، ولن يعود التوازن الا اذا اخذنا بيد الفقراء والمحتاجين لمشاركتهم للمساهمة في بناء مساكنهم ان لم يكن بالمال فبالجهود الذاتية.. فمن بنى العشوائيات بجهده الذاتي يستطيع أن يبني مسكنة اذا توفرت له الآليات التي تساعده على البناء بالجهد الذاتي .. ولن يرعى هذه الفئة من ساكني العشش إلا المؤسسة العامة لإيواء المحتاجين ، توفر لهم الأرض والمكان وتساعدهم فنيا وماليا من أموال الزكاة ، وترتقي بهم اجتماعيا أولا ثم سكنيا وأخيرا توفر لهم الحرف التي تساعدهم على العيش. كما لن يعود التوازن للبيئة العمرانية المعمارية للمدينة والقرية المصرية ما لم يراجع قانون التخطيط العمراني ويطور ليواكب حركة العمران السريعة حيث ثبت بعد ستة عشر عاما من التطبيق بدون مراجعة أو تقييم أنه لم يحقق الأهداف منه .. فهو قانون اعد عام 1971 على غرار القانون البريطاني الذي اعد عام 1960 وتم إصداره عام 1982 بينما قوانين العمران في العالم تتطور وتراجع كل خمس سنوات لمواكبة حركة العمران وتطورها اجتماعيا واقتصاديا وتقنيا ولم يتعرض هذا القانون وغيره كقانون تنظيم البناء للبحث والدراسة التي تهدف إلى مراجعتها وتطويرها من قبل مراكز البحوث المسئولة والأقسام الجامعية المتخصصة التي لا تعطي بحوث العمران المحلي الأهمية الكافية فهي لم تقدم علي سبيل المثال علاجا للأمراض الجلدية التي أصابت العمارات بالنتوءات والدمامل التي تمثلها أجهزة التكييف بأنواعها المختلفة كما لم تقدم علاجا لإيواء المحتاجين الذين يعيشون في الأكواخ والعشش الصفيح ولم تضع الأسلوب الذي يضفي الطابع المعماري على عمارة الشارع المصري باعتبار أن العمارة من الخارج ملكا للمجتمع ومن الداخل ملكا لصاحبها كما لم تتقدم بنتائج دراساتها لتطوير الإدارة المحلية ومديريات الإسكان فيها فنيا وماليا وإداريا وذلك من مبدأ الجامعة في خدمة المجتمع اكثر من الاستطراد في النظريات والفلسفات الأكاديمية التي ليس لها أي مردود علمي أو تطبيقي لإعادة التوازن للبيئة العمرانية والمعمارية للمدينة والقرية المصرية ، والتي بدأت بوادره تظهر من خلال قرارات مجلس الوزراء للحفاظ على التراث المعماري .. وسوف تتوالى القرارات وبنفس التوجه حتى يعود للمدينة المصرية توازنها العمراني والمعماري الذي فقدته.

word
pdf