ترشيد قطاع التشييد والبناء

ترشيد قطاع التشييد والبناء2019-11-24T12:47:10+00:00

ترشيد قطاع التشييد والبناء

أ.د عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعماري

 وكبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية 

ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس (سابقا)

 

 

يمتص قطاع التشييد والبناء حوالي 45% من حجم الاستثمارات في الخطط الخمسية فهو بذلك يمثل القطاع الأولي بالرعاية سواء في مراحل الإعداد للمشروعات التي يتضمنها هذا القطاع أو في مراحل تخطيطها وتصميمها ثم بعد ذلك في مراحل تنفيذها. ويخضع قطاع التشييد والبناء بذلك إلي عدة عوامل تؤثر مباشرة علي إنتاجه.. أولها الدراسات الأولية التي تحدد حجم المشروع وتوصف لتصميماته ووسائل تنفيذه ومن ثم تحدد حجم الاستثمارات المطلوبة له علي مدى مراحل بنائه شاملة المكون المحلي والأجنبي, وهذا ما يطلق عليه مسمي دراسة ما قبل الاستثمار وهي الدراسة التي لا تلقي العناية الكاملة مع أنها الركيزة الأساسية لبناء أي مشروع مثل دراسة الجدوى الاقتصادية له. وهنا تظهر الأهمية العلمية لطرق التصميم والخطوات التي يجب أن تمر بها العملية التصميمية من بداية الفكرة ثم إعداد برنامج المشروع ومكوناته إلي نهاية إعداد تصميماته التنفيذية حتى ينتقل بعد ذلك إلي مرحلة أخرى هي المرحلة التنفيذية التي تحكمها قواعد علمية تتضمنها قواعد إدارة المشروعات وهو العلم الجديد الذي يحقق الأسلوب الأمثل لتنظيم وإدارة عمليات التشييد بعناصرها المختلفة ومكوناتها المتعددة في ضوء المتغيرات التي قد يتعرض لها المشروع سواء بالنسبة لتوفير المواد اللازمة أو تواجد العمالة المناسبة أو توفر السيولة المطلوبة علي مدى المراحل التنفيذية للمشروع. هذا مع الاختلاف في القرارات السياسية التي قد تطرأ علي تنفيذ المشروع. وتتعامل مع المشروع علي مدى مراحل الإعداد له وتنفيذه عدد من الاختصاصات أولها التخصصات الهندسية الاقتصادية التي تعد دراسة ما قبل الاستثمار, وثانيها التخصصات الهندسية الاقتصادية التي تعد برامج المشروع ومكوناته ثم البدائل التصميمية وتنوعها تخطيطيا وتصميميا واقتصاديا, وثالثها التخصصات الهندسية التي تعد تصميماته التنفيذية، ورابعا التخصصات الهندسية الإدارية التي تدير العمليات التنفيذية للتشييد والبناء. وتبني كل هذه التخصصات علي خلفية علمية وخبرة عملية تؤهلها للتعامل مع مشروعات التشييد والبناء بنوعياتها وأحجامها المختلفة. كل ذلك بهدف ترشيد الأنفاق في هذا القطاع الهام من قطاعات التنمية الاقتصادية الاجتماعية الترشيد الذي يتناسب مع المقومات الاقتصادية لدولة نامية، الأمر الذي لا يلقي العناية التي تتناسب مع حجم هذا القطاع.

إن العناية بترشيد قطاع التشييد والبناء تبدأ من المرحلة التعليمية من خلال التكوين العلمي والعملي للمهندس الذي يتعامل مع الواقع المحلي وتكنولوجيا البناء المتوافقة مع الأخذ بكل الوسائل العلمية المتطورة في العالم لكن دون استيرادها تقليلا لربط اقتصاديات التشييد والبناء بالاقتصاد الأجنبي علي غرار التجربة اليابانية في هذا المجال. وهي التجربة التي تعتمد بجذورها علي قوة الانتماء الوطني من ناحية واعتبار العمل عبادة قبل أن يكون مصدرا للرزق. إن التعليم الهندسي في مصر لا يزال ينقصه البعد الاقتصادي الإداري الذي يتميز به التعليم الفني في الدول المتقدمة كما لا يزال ينقصه البعد العملي الذي يربط الدارس بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وهو الواقع الحضاري للمجتمع. فمناهج التعليم الهندسي في العديد من الدول المتقدمة تنقسم إلي ثلاث مراحل، المرحلة الأولي هي مرحلة التعرف علي العلوم والمواد الأساسية لمدة ثلاث سنوات، والمرحلة الثانية هي مرحلة التدريب العملي لمدة سنة كاملة، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الربط بين النظرية والواقع ومدتها سنتين يتخرج بعدها الطالب مهيئا لخوض الحياة العملية, الأمر الذي لم يعني به التعليم الهندسي في مصر والذي هبط مستواه إلي درجة كبيرة ظهر آثارها علي سوق العمالة الفنية في العالم العربي الذي يفضل العمالة الفنية لجنوب شرق آسيا. وإذا كانت هناك دعوة لحل مشاكل التعليم الجامعي فبدايته هنا في تطوير المناهج وتكوين الأستاذ قبل أي اعتبار آخر. فلم تعد درجة الماجستير أو الدكتوراه هي المقياس الحقيقي لصلاحية المدرس في الانخراط في هيئة التدريس فهناك قياسات أخرى يرجع فيها إلي خبرات الجامعات في الدول المتقدمة. وترشيد قطاع التشييد والبناء هنا لا يعني فقط التوفير المادي ولكن الترشيد بمعناه الشامل سواء في الإعداد أو التخطيط أو التصميم أو التنفيذ وجميعها تكون المقومات الأساسية للمناهج العلمية اللازمة لبناء الفكر الهندسي و المعماري بحيث يتوفر للمشروع التوازن بين أعلي مستوي للأداء وأقل قدر من التكلفة في البناء والتشغيل والصيانة في إطار الواقع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.

أما الحلقة التالية من حلقات ترشيد قطاع التشييد والبناء تتمثل في ترشيد الممارسة المهنية والاستشارية التي لا تزال تخضع إلي الإجتهادات الفردية فنيا وإداريا وتنظيميا. تدفعها بعض القواعد واللوائح المهنية التي ليست لها القوة التنفيذية الكاملة، فالأعمال الاستشارية في نظر الدولة من ناحية لا تختلف عن توريد سلعة من السلع دون تقدير للجوانب الفنية أو القيم العلمية. كما أنها في نظر الممارسين لها من ناحية أخرى لا تختلف عن المناقصات المالية حيث يلتقي الممارسون أمام الجهة صاحبة المشروع يساومون علي الأتعاب حتى تصل إلي أدني حدودها وبالتالي تصل الأعمال الاستشارية التي يقدمونها إلي أدني مستوياتها دون تقدير للأصول الفنية أو الأسس العلمية مخالفين بذلك كل القواعد واللوائح المهنية, وهكذا يساهم كل من الدولة والممارسين المخالفين للوائح المهنة في هبوط المستوى العام لقطاع التشييد والبناء الأمر الذي يؤكد الضرورة إلي ترشيده من خلال إعادة النظر في قوانين الدولة المرتبطة بهذا المجال من ناحية ومن خلال إعادة النظر في تطبيق العقوبات علي المخالفين للوائح المهنية والمخالفين لتطبيق أسس التصميم ومواصفات الأعمال وأصول التنفيذ وهي الأسس التي تحددها معاهد بحوث البناء والتشييد التي تدفع ممارسة المهنة وتمدها بكل الجديد في عالم البناء والتشييد المتوافق مع الظروف المحلية ترشيدا لهذا القطاع الهام من قطاعات الدولة فهو القطاع المشترك مع كل القطاعات الأخرى. الأمر الذي يتطلب عناية خاصة بترشيد ممارسة المهنة الهندسية كأحد أسس ترشيد قطاع التشييد والبناء.

تتمثل الحلقة الثالثة من حلقات ترشيد قطاع التشييد والبناء وهي الأهم في الجانب التنفيذي الذي تقوم به شركات المقاولات التي لا تزال بعيدة كل البعد من التنظيم والإدارة العالمية إلا فيما ندر من شركات القطاعيين العام والخاص. فلا يزال نشط المقاولات بصفة عامة في أدني مستويات الأداء والإنجاز، فقد دخله أعداد كبيرة من غير المختصين من المجتهدين أو من الذين بنوا درايتهم من خلال عملهم كحرفيين في أعمال البناء ممن لا يستطيعون القراءة أو الكتابة وهم يمثلون الغالبية العظمي التي تعمل في قطاع التشييد والبناء وتهبط به إلي أدني المستويات, سواء من خلال ممارستهم للعمل كمقاولين دون تصريح أو لوائح تنظيم, أو من خلال ممارستهم للعمل كمقاولين باطن لشركات القطاع العام، فهم فى ممارستهم لمهنة المقاولات لا يخضعون لأي قيم فنية أو تنظيمية، الأمر الذي أدى إلي تدني مستوى تنفيذ المشروعات ويؤدي بالتالي إلي الخلل الكبير في قطاع التشييد والبناء. وإذا كان قيام اتحاد المقاولين لا يزال في طريقه إلي الشرعية، إلا أن فتات المقاولين من القطاع الخاص الذي يبني الحجم الأكبر من الإسكان أو المنشآت الخاصة سوف تعمل لمدة طويلة ما لم يقنن تواجدهم علي الساحة، وذلك بإدخال العناصر الفنية القادرة علي إدارة وتنظيم هذه الفتات من المقاولين والارتقاء بأداؤه والتزامه بأصول التنفيذ, وإن كان ذلك سوف يؤدى بالتالي إلي ارتفاع مستوى الأداء وبالتالي ارتفاع التكلفة من خلال الارتقاء بمستوى العمالة مع تقهقر العمالة التقليدية السائدة في السوق المصري.  الأمر الذي سوف يؤدى بطبيعة الأمر إلي ترشيد قطاع التشييد والبناء ليس فقط بالنسبة للمشروعات الكبيرة ولكن وقبل ذلك بالنسبة للمشروعات الصغيرة التي تمثل الحجم الأكبر في قطاع التشييد والبناء والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بمتطلبات أفراد المجتمع في المسكن والمدرسة والوحدة الصحية والمركز الاجتماعي والإداري وغيره. وإذا كان ترشيد قطاع التشييد والبناء سوف يؤدى إلي ارتفاع نسبة التكلفة إلا أن ذلك بالمقابل سوف يؤدى إلي زيادة العمر الافتراضي للمبني وهذا في حد ذاته يعد عنصرا هاما في اقتصاديات التشييد والبناء. أن ترشيد هذا القطاع من خلال الارتقاء بمستوى أداء شركات المقاولات الصغيرة سوف يمتص بالتبعية نسبة كبيرة من العاطلين من المهندسين والمعماريين. ويجد لهم سوقا أكثر اتساعا في الداخل والخارج. وهنا يدخل علم إدارة مشروعات التشييد والبناء عاملا هاما في برمجة وإنجاز الأعمال في التوقيتات المحددة وبالمستوى المحدد في المواصفات وبالأداء الملتزم بالأصول الفنية.

إن ترشيد قطاع التشييد والبناء بهذه الصورة يبدأ بترشيد الإعداد للمشروعات ثم بترشيد التخطيط والتصميم ثم بترشيد التنفيذ وكلها حلقات متتالية ومترابطة ويصعب الفصل بينها. إن ترشيد هذا القطاع وبهذه الصورة لا يؤدى فقط إلي الارتقاء بمستوى الأداء بقدر ما يرتفع بالمردود الاقتصادي إلي أعلي مستوياته باعتبار المنشآت سلعة معمرة تؤدى خدمة خاصة في ظروف خاصة وفي إطار أوضاع اجتماعية وثقافية وحضارية خاصة. إن ترشيد قطاع التشييد والبناء بهذه الصورة أيضا يتطلب في نفس الوقت ترشيد صناعة التشييد والبناء التي تغذى هذا الموضوع من ناحية وترشيد الاستهلاك في المواد من ناحية أخرى خاصة بالنسبة للفئة المستفيدة من المنشأة وكذلك ترشيد الفاقد من المواد خلال عمليات التنفيذ وجميعها حلقات مترابطة متصلة تحكمها سياسة عامة قادرة علي التوجيه والترشيد والرقابة، وفي المنظمة الدولية للمستوطنات البشرية والبنك الدولي المراجع والخبرة القادرة علي المساندة الفنية والعلمية لهذه السياسة حتى تحقق أهدافها والمهم هو تحديد ما نريده منها بكل دقة وتفصيل. إن ترشيد قطاع التشييد والبناء يجب أن يكون هدفا أساسيا من أهداف الخطة الخمسية القادمة.

 

word
pdf