تنظيم أجهزة التنظيم

تنظيم أجهزة التنظيم2019-11-20T09:16:11+00:00

تنظيم أجهزة التنظيم

دكتور عبد الباقي إبراهيم

رئيس مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية

 

يخطئ من يظن أن قوانين تنظيم أعمال البناء سوف تحل مشكلة الإسكان في مصر مع ما ورد في هذه القوانين من ضوابط في الأداء وتشديد العقوبات في المخالفات وتعسير في المعاملات. إن أي قانون لابد وأن يأخذ في الإعتبار الجهة القادرة على تنفيذه وإلا أفرغ من مضمونه، و قانون تنظيم البناء، وهو ينظم العلاقة بين صاحب الملك والمقاول والمهندس يحدد مسئولية كل منهم في عمليات البناء والهدم.

لقد أستغرق تعديل قانون تنظيم عمليات البناء سنوات عدة دون أن تستعد الدولة لمواجهة المتطلبات التنفيذية لهذا القانون. وإذا كان قطاع المقاولات قد أنهى تنظيمه في ما يسمى بإتحاد المقاولين فلا تزال مهنة الهندسة الإستشارية بعيدة عن مثل هذا التنظيم. ونقابة المهندسين تمنح شهادة إستشارى لكل المهندسين الذين أمضوا خمسة عشرة عاماً على التخرج وقاموا بأعمال متميزة في مختلف التخصصات. فأصبح المهندس الإستشارى لقباً مجرداً لا يرتبط بنوعية التخصص أوحتى بتخصص التخصص. فالمهندس الإستشارى في تخصص العمارة مثلاً إما أن يكون متخصصاً في التصميمات المعمارية بأنواعها أو في الإشراف على التنفيذ أو في إدارة العمليات. والمهندس الإستشارى في تخصص الهندسة المدنية إما أن يكون المهندس متخصصاً في حساب الإنشاءات أو في الإشراف على التنفيذ أو في الهندسة الصحية أو في هندسة الطرق. إلى آخر هذه القائمة الطويلة من التخصصات. التى لا يعلم عنها الكثيرون من الناس. ونقابة المهندسين ليس لديها كتاباً للتعريف بالمهندسين الإستشاريين وتخصصاتهم الدقيقة، وبالتالي لا توجد مثل هذه القوائم المختلفة عند أجهزة تنظيم البناء ولا يعلم عنها أحد. فى نفس الوقت تحاول النقابة بشعبها المختلفة وجمعيات المهندسين أن تبحث عن صيغة تنظيمية تحدد مسئوليات الفئات المختلفة من المهندسين بالنسبة للخبرة وسنوات التخرج . فكثيراً ممن أخذ لقب مهندس إستشارى بحكم المدة ليس لديه الخبرة التى أكتسبها من هم أقل منه مدة في التخرج حتى أصبح لقب إستشارى معروضاً للبيع لمن يرغب في استخدامه. وهناك من يرى أن مدة الخمسة عشرة عاماً غير كافية لإعداد المهندس الإستشارى في التخصصات المختلفة ويرى زيادة المدة إلى خمسة وعشرين عاماً. والخبرة هنا ليست بالمدة كما هو في كثير من الحالات ولكن لابد من إيجاد معايير أخرى تتحكم في تنظيم المهنة. سواء من خلال شهادة امتحان ممارسة المهنة التى تمنح للمهندس بعد تخرجه بمدة لا تقل عن عامين أو في اجتياز دورات تدريبية خاصة لما بعد ذلك وعلى مراحل تتناسب مع مستوى الأداء لكل تخصص.

وتنظيم المهنة لا يحتاج إلى الجهد الكبير فهناك أمثلة قريبة جداً من مصر يمكن الاسترشاد بها. وبالتالي تتحدد أتعاب الإستشارات الهندسية تبعاً لحجم المشروع وكفاءة المهندس المتخصص. وإذا كان تنظيم فئات المهندسين المتخصصين يمكن أن تتولاه وزارة الإسكان بموافقة نقابة المهندسين فتبقى المكاتب الاستشارية الهندسية تبحث لتنظيمها عن أسلوب آخر على غرار اتحاد المقاولين الذي صدر بقانون خاص كان من وراء إصدار دفعات قوية من نواب الشعب من المقاولين الأمر الذي لا يتوفر لأصحاب المكاتب الإستشارية اللهم إلا إذا تبنت قضيتهم نخبة من نواب الشعب لصالح الشعب والحفاظ على الثروة العقارية في مصر. مع العلم بأن قطاع التشييد والبناء يتعامل مع حوالي 45 % من استثمارات الدولة. ويبقى بعد كل ذلك مهمة من أصعب المهام وأهمها وهى تنظيم الأجهزة القائمة على أعمال البناء. فواضع القانون لا يتصور كيف تدار هذه الأجهزة ولا بالمستوى الهابط للبيئة التى تعمل فيها سواء من حيث المكان أو الأداء وهى بيئة لا تصلح للتعامل مع الآلاف من مشروعات البناء والتنكيس والتدعيم.

إنك إذا إقتربت من إدارة الإسكان بالحي تجد المدخل قد زين بالأشجار ومكتب رئيس الحي وقد أعيد تجديده وتنجيده. أما العاملون فحدث ولا حرج: ملفات متناثرة هنا وهناك. تزاحم شديد في الغرف التى تستوعب أصغرها ستة مكاتب هندسية أو إدارية عليهم مراجعة كم كبير من الأوراق والرسومات. وتدخل المكان ولا تعرف من أي مكان تبدأ …فلا إستعلامات بمعنى الكلمة، ولكنة الساعي المتحرك في كل مكان لدية الجواب على كل التساؤلات. والجمهور لا تميز منه المهندس من صاحب العمل من المقاول أو الكاتب أو المراسل. وكلها أصناف من البشر تتحرك وتتزاحم لقضاء حاجتها إذا أسعدها الحظ ورأت المهندس أو المهندسة في مكانها والمهندس أو المهندسة لا تتحرك إلى أى معاينة إلا بسيارة الإسكان وإذا وجدت السيارة لا يوجد السائق.. وهكذا ما بين التغيب وعدم التواجد. وبالتالى تتعقد الأمور سواء في البحث عن الملف أو السجل أو عن المسئول عن أي شيء المخالفات في أحد غرف السطوح والخزينة في البدروم والمهندسين إن وجدوا متزاحمين على المكاتب التي هي من كل نوع قديم. وعلى قدر اهتمام المحافظ أي محافظ بالابهه والديكور على قدر ما تجد إداراته في مستوى السوء في التنظيم والإدارة. ورئيس الحي أي حي على القدر الذي يحتفظ لنفسه بالمستوى الراقي فى الأثاث والديكور على قدر الإهمال في إدارته. وهذه هي سمة المصالح الحكومية. تتكرر الصورة في التنسيق الفاخر جداً لمكتب الوزير أي وزير وفى تدنى بيئة العاملين فى وزارته من غير الوكلاء والمديرين وهم الفئة التي لا تعامل مع الجماهير. أن أجهزة تنظيم أعمال البناء تعمل في أسوأ مناخ وإذا كانت الدولة تنفق الملايين في إنشاء مكاتب الوزراء وتبنى أفخر المباني لكبار العاملين فيها فلا يجب أن تبخل على هؤلاء الكادحين من الموظفين والمهندسين المكدسين في دهاليز وغرف ومخازن يأبى الإنسان الذي يحترم نفسه أن يعمل فيها اللهم إلا للحاجة إلى مرتب هزيل يقبضه آخر الشهر. فلا تلومونهم على الفساد الذي دب بينهم. وكما أن الإرهاب ينبت في العشوائيات فالفساد ينبت أيضا في هذه المكاتب المكدسة والإدارات العشوائية. الأمر الذي لابد معه وبإلحاح عاجل من إنشاء مجمعات للإدارات الجماهيرية على غرار مجمعات المحاكم في كل أنحاء مصر. واذا كانت إدارات الإسكان في القاهرة والمحافظات تفتقر إلى التنظيم كما تفتقر إلى المهندسين فلن تجد هذه الإدارات مهندسين على مستوى الخبرة والمسئولية يرغبون في العمل في مثل هذه البيئات الهابطة. إن إرتفاع مستوى التنظيم يرفع من مستوى الأداء وتتوفر للجماهير الراحة النفسية بالخدمة الممتازة حتى ولو ضاعفت الدولة الرسوم المطلوبة من الجماهير القادرة على البناء والتشييد. وإذا كانت الدولة تريد أن تطبق قوانين تنظيم البناء فلا تبخل عن تنظيم أجهزة التنظيم فى إدارات الإسكان أو تعيد نظام البلديات الذى أفتقدته مدن مصر.

word
pdf