جمال حمدان الأسطورة والحقيقة

جمال حمدان الأسطورة والحقيقة2019-12-02T09:41:47+00:00

جمال حمدان الأسطورة والحقيقة

   دكتور عبد الباقي إبراهيم

      أهرام الجمعة 12/6/1993

 

لقد أخذ جمال حمدان بعد رحيله حظه من التمجيد والتعظيم والتكريم ما لم يأخذه مفكر من قبل فقد ملأت أمجاده الصحف والمجلات وبرامج الإذاعة والتليفزيون وتسابق في ذلك الكتاب ومعظمهم لم يره في حياته إلا من خلال كتاباته عن شخصية مصر أو عن القاهرة أو غيرها من الموضوعات حتى رفعوه إلى مستوى الأسطورة التي تعلو مستوى العلماء والفقهاء والمفكرين فقد أصبح هو العالم الشامل الذي ربط الجغرافية بالسكان بالاقتصاد بالتاريخ بالأدب والفلسفة في عبقرية الزمان والمكان أشاد بعبقريته المهندس والسفير وذكر مآثره المستشار والأديب. وصفوه بعاشق مصر ونعتوه بالعالم المتصوف الذي هجر الدنيا ومن فيها وانعزل عن المجتمع ليقدم لمصر سجلا حافلا يروي عظمتها وهو كتاب ” شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان ” والذي قال عنه جمال حمدان نفسه ( أنه استقطب أكبر عدد من القراء لأن الموضوع يخص بلدهم ولقد كان من الغريب أن تعيش مصر بدون أن ترى نفسها في مرآة علمية ) تماما كما كان من الغريب أن يعيش جمال حمدان بدون أن يرى نفسه في مرآة المجتمع الذي هجره وتجنبه حوالي ثلاثين عاما لم يتفاعل معه أو ينفعل به إلا من خلال كتبه وكتاباته التي كان يرسلها بين الحين والآخر للنشر في الصحافة المحلية ردا على ما ينشر على صفحاتها من فكر وآراء وكان من مؤلفاته كتابه عن القاهرة والذي وصفته دار الهلال التي أصدرته أخيرا بأنه صيحة مخلصة جريئة لإنقاذ القاهرة بقلم محب وعاشق لتاريخ مصر وصيحة دفاع عن القاهرة ذات التاريخ العريق.

لقد تعرض جمال حمدان في كتابه عن القاهرة للعديد من الموضوعات التخطيطية والعمرانية التي يجدر الإشارة إليها والتنويه عنها لاستكشاف ” شخصية جمال حمدان – دراسة عبقرية الرجل ” وذلك من خلال هذا الكتاب كإحدى أدبياته الفكرية.

يقول جمال حمدان في كتابه عن القاهرة ( هذه هي القاهرة – تاريخ مفعم مجمد أو محفوظ.. إنها عمل فني من مقياس ضخم مهندسه وساكنه هو المصري.. وهى بهذا أكثر أو أكثف رقعة من اللاند سكيب الحضاري في مصر وتبشيرا وحملا للطابع البشرى بنفس الدرجة أبعدها عن ملامح الطبيعة الخام واللاند سكيب الطبيعي الغفل للوادي ) ورغم هذا كله – يقول الدكتور جمال حمدان  فإن القاهرة من أسف من أقل العواصم حظا في دراسات المدن العلمية الحديثة.. كثيرة هي لا شك الكتابات الأكاديمية والشعبية المتاحة عن هذه المدينة الخالدة ولكن الغالب عليها إما التاريخ عموما أو تاريخ العمران أو الآثار خصوصا – أما دراسة المدينة ككل.. أما دراسات علم اجتماع المدن وجغرافية المدن.. أما التخطيط المستقبلي ومؤشراته.. إلخ أما هذا كله فما زال فراغا مغلقا وأرضا بكرا منذ ظهرت أول وآخر محاولة جادة في هذا الميدان الخضم ونعنى بها دراسة كلوجية في الثلاثينات ).. وهذا كلام بعيد عن الصواب كما يعرف ذلك الخبراء والمتخصصون وكأن الدراسات التي تعرضت لها القاهرة منذ عام 1958 لا ذكر لها ولا تقدير.

وفى نهاية تحليله لشبكة الخطة وشبكة المواصلات يقول الدكتور جمال حمدان ( ولعل بعض الدرس المستفاد وهو أن القاهرة الكبرى بحاجة حقيقية – مع أو قبل الإنفاق – إلى عملية ” هسمنه ” على غرار ما عرفت باريس في السبعينيات الماضية جريئة واسعة الخيال دون أن تكون راديكالية بتارة بالضرورة فتفرض علي أرضية خطتها الفسيفسائية نظاما متشععا متعدد البؤرات منعا لتركيز المشكلة في نقطة واحدة من البوليفارات المحورية الشريانية ذات التوقيع الإستراتيجي وهكذا يرتبط فكر جمال حمدان هنا بالعقلية القديمة الكلاسيكية لتخطيط المدن علي غرار ما فعله ” هادسمان” في باريس في عصر نابليون.

لاشك في أن جمال حمدان قد تعرض لمورفولوجية القاهرة بأسلوب العالم وتحليل الدارس لخصائصها العمرانية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والجغرافية والسكانية والإدارية مع الاستشهاد بنظائرها من عواصم العرب من خلال العديد من المراجع الأجنبية والقليل من المراجع المحلية مستخدما في ذلك العديد من المسميات الأجنبية التي لم يجد لها بديل بالعربية وذلك بالرغم من الخصوصية الحضارية والعمرانية والإقليمية التي تتميز بها القاهرة عن نظائرها من العواصم الأخرى.

وفي مكان آخر من كتاب القاهرة تعرض الدكتور جمال حمدان للاقتراحات التي عرضها البعض من غير المتخصصين علي صفحات الجرائد لبناء عاصمة جديدة لمصر واصفا إياها بالحماقة وكأنما – كما يقول الدكتور حمدان ( قد فرغت مصر المحروسة من جميع مشاكلها وأزماتها وأوزارها. وكأنما كان هواة التخطيط وأحباب التعمير في انتظار إشارة البدء. فإذا حمي البحث تنطلق من عقالها مغربه ومشرقه ومبحرة ومصعده وراء تلك العاصمة المنقذة) – ومع تعدد هذه الاقتراحات التي تنقصها النظرة العلمية المتعمقة يقول جمال حمدان. (ولعل من العبث وحده أن نناقش هنا كل اقتراح من هذه الاقتراحات والنزوات علي حده) وأكد علي ضرورة بقاء القاهرة كعاصمة وله في ذلك من الفكر الثاقب مما يؤيد رأيه بحكم تخصصه وإن كان قد انفعل في اسلوبه قائلا ( وأن من الخير لنا والأجدى بل والضروري أن تختفي هذه النغمة السطحية البلهاء والجهول وتنقرض إلي الأبد من حياتنا الفكرية.. نغمة عاصمة جديدة.. فهي إن دلت علي شيء فإنما تدل علي أن الجهل المسلح لا يحكم ويتحكم فحسب بل ويخطط ويصمم أيضا. ذلك أنها ليست تخطيطا مفكرا بقدر ماهي إنحرافة تخطيطية . ليست مخيلة جزئية أو رؤية جديدة بقدر ماهى شطحه مريضه ونظره تقليديه معوجه.. فإن ما تحتاجه مصر- كما يستطرد- ليس عاصمة جديدة بل عاصمة مغلقة..) وأخذ جمال حمدان يشرح الحلول الممكنة من وجهة نظره وهي تنحصر في ثلاث خيارات: المضاعفة والتثبيت والتصنيف. وينتهي بتحليله إلي اختيار الحل الثالث والذي يتضمن تخفيض حجم القاهرة الراهن –كما يقول- إلي نحو النصف قل في حدود 7 ملايين وذلك بتحويل الزيادة تباعا إلي الأقاليم. تنصيف العاصمة كما يستطرد الدكتور جمال حمدان قائلا- يستتبعه ويكمله تثنية أو مضاعفة أحجام المدن الإقليمية – هكذا… تتضاعف طنطا وبنها وشبين الكوم وغيرها من المدن الإقليمية علي حساب الرقعة الزراعية… وينتبه إلي هذه النتيجة ليقول فلنبدأ بمدن الصعيد حيث الظهير الصحراوي الذي يساعدها… وهذا ما تم فعلا من قبل الأجهزة الرسمية للتخطيط العمرانى فى مصر وأخيرا يقول الدكتور جمال حمدان ( لا للمدن الجديدة.. أولا وقبل كل شئ يجب أن تتوقف فورا لعبة المدن الجديدة حول العاصمة حيث أصبحت كلعبة الجامعات الإقليمية كم بلا كيف ونمو بلا هدف ).

ويضع الدكتور جمال حمدان تصوره لبعد المدن الجديدة عن القاهرة بفاصل قدره 50 كم مثل عشره رمضان والمدينة المسماة – كما يقول – بالسادات فهذه وحدها التى يسمح لها بالاستكمال والاستمرار بعد (تغيير اسمها إلى اسم جغرافي لائق).. ، وفى النهاية يقول ( باختصار ليس المطلوب مدنا جديدة ولكن مدينة منصفه.. ولا القاهرة الكبرى هي المطلوب وإنما القاهرة الصغرى ) ويدخل بعد ذلك بفكره فى دوامة الإقليمية واشتراكية المكان. وهكذا يلقى الدكتور جمال حمدان بمشاكل القاهرة على مدن الأقاليم التى تعانى أكثر مما تعانيه القاهرة نفسها من التكدس السكاني ولم يتطرق الدكتور حمدان هنا لمحاور التنمية والتعمير الجديدة خارج الوادي الأخضر كأقاليم جاذبة تمدها الأقاليم والمدن القائمة بما فيها القاهرة كأقاليم طاردة للسكان. فالريف لا يتحمل أكثر مما يعانى منه من كثافة سكانية كما لا تتحمل القاهرة أكثر مما تتحمل من تضخم وتخمة.. ومع ذلك يقول الدكتور جمال حمدان ( أن ضبط الخروج الريفي لمنعه يستدعى أولا ضبط النمو العاصمى والحد منه. وأنك تخطط عند المنبع يجب أن تخطط أيضا وقبلا عند المصب وذلك – بأن تنقل العاصمة – أعنى وظائفها وخدماتها ومزاياها – كما يقول – إلى الريف لا أن تمنع أنت الريف أن ينتقل إلى العاصمة ) … وهذه مقولة لم يعد لها ما يدعمها فى الفكر المعاصر.

ويتطرق الدكتور جمال حمدان وبعد ذلك فى مكان آخر من كتاب القاهرة لموضوع إعادة بناء القرية والمسكن الريفي مؤكدا ضرورة الارتقاء بالقرية المصرية التى يعتبرها – فى مقاله – وصمة حقيقية فى جبين مصر وتعد النقطة السوداء فى وجه الأمة. ويقول ( لكن عاملا واحدا بعينه نراه الفيصل وفصل الخطاب فى مصير القرية الجديدة جميعا.. وذلك هو المادة الخام. فالطوب الأخضر أى اللبن – كما يقول – مازال أنصاره والمدافعون عنه لميزاته الطبيعية العديدة خاصة الحرارية غير أن نقطة ضعفه الخطيرة أنه بلا مواربه ماده غير حضارية على الإطلاق – ومهما غلف بالطلاء الأبيض أو غير ذلك فليست هناك مناقشة فنية أو غير ذلك يمكن أن تقنعنا به بيئة للسكن الإنسانى الكريم فى الثلث الأخير من القرن العشرين. بل لعله أن يكون النقطة السوداء فى القرية المصرية جميعا ). ويقول (لن تصبح مصر دوله متقدمة لا نامية إلا يوم تهدم آخر قرية باللبن . ولن تعبر البحر وتتحول إلى دولة ” شمالية ” إلا بدفن آخر قبر سكنى – إسمه البيت الطيني ) – وهكذا يهدم جمال حمدان ببساطة ودون مناقشة فكر حسن فتحى ونظريته التى إعترف بها العالم.

وعندما تعرض الدكتور جمال حمدان لموضوع تخطيط أرض المعارض بالجزيرة فى حينه قال (والاقتراح المحدد الذي نرجو أن نطرحه هنا أن الأوان قد آن حقيقة وبغير إبطاء أو تردد ولا عقد أيضا لنقل أرض الأندية والملاعب ( يقصد النادي الأهلي والجزيرة ) إلى موقع جديد على أطراف العاصمة وهوامشها حتى تعطى مكانها لاستغلال إقتصادى أمثل وكثيف ومنتج..) ثم يقول (أن كل أصابع التخطيط السليم تشير إلى هذه الأرض المحررة كمجال فسيح لاستعمالات أساسية ثلاثة: أولا كمنطقة سكن راق دون اكتظاظ زائد على غرار منطقة الزمالك التى تقع إلى الشمال منها.. ثم كمنطقة سكن تجارى عالمي أى كفنادق سياحية على مستوى عالمي ورفيع.. وأخيرا كخلية ومجمع للقاعات الدولية وصالات المؤتمرات والمعارض العالمية) مع أنه كان يحبذ نقل المعارض إلى مدينة نصر.. ومع ذلك فإن رأى الدكتور جمال حمدان هنا لا يخرج عن رأى أى شخص أخر غير متخصص فى التخطيط العمرانى.. ولكل رأى حيثياته ومبرراته.. ولكن ليس هذا بالأسلوب العلمي فى التعامل مع مثل هذه الموضوعات.. فلعلم التخطيط العمرانى أسسه وأساليبه كما أن له معاييره ومقاييسه وآلياته.

وإذا كان الدكتور جمال حمدان قد بهر الأدباء والفنانين والأطباء والمهندسين والكتاب والمفكرين بعبقريته التى ظهرت عليهم فجأة بعد وفاته فإن فى ذلك سرا خفيا لم يكن فى الحسبان فى حياته. فقد وضعه البعض فى مقام العظماء من علماء مصر ومفكريها وفلاسفتها مثل طه حسين والعقاد ولطفي السيد والمازنى وتوفيق الحكيم بل وزاد البعض بأنه جمع بين كل هؤلاء وأضاف عليهم بعدا حضاريا وجغرافيا وتاريخيا فى كتاب شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان – مع أن الرجل من علماء مصر الكثيرين اللذين اجتهدوا وتميزوا ودرسوا وتعمقوا وأصابوا وأخطأوا.. وإن كانوا لم ينسحبوا من حياة المجتمع ولم يرفضوه…. وهكذا لم يعد جمال حمدان الإسطورة بل هو الحقيقة والواقع.

صورة أرسلت للأستاذ سانة خشبة

الصفحة الثقافي2/6/1993 

أهرام الجمعة

 

word
pdf