حتى لا تتكرر الأخطاء في المدن الجديدة

حتى لا تتكرر الأخطاء في المدن الجديدة2019-12-11T15:13:53+00:00

حتي لا تتكرر الأخطاء في المدن الجديدة

دكتور عبد الباقي إبراهيم

كبير مستـشـارى الأمم المتــحدة 

ومدير مشروع التخطيط العمرانى بالمملكة العربية السعودية

 

لا شك في أن المدن الجديدة التي بدأت طلائعها تظهر في الصحراء المصرية تمثل نقطة الانطلاق للزحف العمراني على صحراء مصر حتى يقل الضغط السكاني على كل من المناطق الريفية والحضرية على حد سواء. وتنتهي بذلك النظرية القديمة التي كانت تدعو إلى جذب السكان إلى المناطق الريفية كوسيلة لمعالجة مشاكل المدن الكبيرة مضيفة بذلك مشكلة أخرى في زيادة الضغط السكاني على الرقعة الزراعية. وقد ظهرت آثار هذه النظرية في المنشآت العمرانية التي تنمو حول المدن مستقطعة المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية متجاهلة أهداف الدولة في الأمن الغذائي.
ومع أن سياسة المدن الجديدة بدأت تظهر في الدراسات التخطيطية التي وضعها الخبراء المصريون منذ أكثر من عشر سنوات بهدف إنشاء أقاليم صناعية على جانبي إقليم الدلتا الزراعي إلا أن هذه الدراسات ظلت حبيسة الأدراج إلى أن وجدت النور وانتقلت من الحيز النظري إلى الحيز التطبيقي.

والمدن الجديدة كغيرها من الكيانات العضوية لابد لها من رعاية اجتماعية وحضارية خاصة وهى في مرحلة الطفولة حتى تنمو هياكلها قوية محصنة ضد الأمراض الحضرية التي تعانى منها المدن القديمة ومن هنا لابد من توخى الحذر الشديد في تنمية هذه المدن حتى لا تتكرر الأخطاء والأمراض التي عانت وتعانى منها المدن القديمة في الوقت الحاضر. وأمام خبراء التخطيط والتنمية الحضرية في الوقت الحاضر كل الفرص وهم في بداية الطريق لبناء الهياكل العضوية للمدن الجديدة على أسس سليمة.وقد يظن الكثيرون أن بناء المدن الجديدة يقتصر على إنشاء شبكات الطرق والمرافق وتوفير الخدمات العامة وتقسيم الأراضي للبناء ولكن البناء العضوي لهذه المدن هو بالإضافة إلى ذلك عملية حضارية لها أبعادها ومقوماتها التي لابد من استدراكها في بداية الطريق. الأمر الذي لا تستطيع الخبرة الأجنبية أن تلم بجميع أطرافها، فالخبرة الأجنبية تظهر في الجوانب التكنولوجية في التصميم أو الإنشاء. ويبقى الجانب الحضاري الذي يحتاج إلى من هم أكثر حساسية وفهما بالمقومات الحضارية للمجتمعات المحلية.

وقد تعرضت كثير من الدول إلى مثل هذه التجربة عند إقامة مدنها الجديدة الأمر الذي يوفر أمام المسئولين حصيلة كبيرة من الخبرة والدراسة. ولا يعنى ذلك نقل ما طبقته الدول الأخرى من نظريات اجتماعية وثقافية وحضارية في بناء المدن الجديدة بقدر ما طبقته في الجوانب الإنشائية المتطورة.

وجدير بالذكر أن نشير هنا إلى منجزات مشروع الأمم المتحدة للتخطيط العمراني بالمملكة العربية السعودية حيث استحدث نظريات متقدمة في تخطيط المناطق السكنية الجديدة حتى تتوفر فيها كل المقومات الحضارية لبناء المدن الإسلامية سواء أكان ذلك في الهيكل التخطيطي أو في التكوين المعماري أو البناء الاجتماعي لهذه المناطق وتختلف هذه النظريات في تفاصيلها عن الأسس والمفاهيم التخطيطية التي أدخلتها الخبرات الأجنبية علي البيئة الطبيعية والثقافية السائدة في مدن المملكة.

فقد توصل خبراء الأمم المتحدة في هذا المجال من الناحية التخطيطية إلى ضرورة فصل شبكات المرافق العامة عن شبكات الطرق فصلا كاملا بعكس ما يطبق حاليا في معظم المخططات الحديثة. وعلي هذا الأساس تخصص شبكة الطرق لتخدم هدفها الأساسى فى انسياب حركة المرور على المحتويات المختلفة للطرق.

وتستأصل هذه النظرية المرض السائد فى المدن القديمة والذى يظهر فى تتابع الحفر والرصف والتجديد لشبكات الطرق. وزاد على هذا الاتجاه إمكانية إستعمال خنادق المرافق العامة فى حالات الطوارئ مع اتصالها المباشر بالعقارات السكنية على طول العمود الفقرى لكل منطقة.

ومن الناحية التشكيلية توصل خبراء الأمم المتحدة كذلك إلى قلب نظريات الارتفاعات والارتدادات على الطرق الرئيسية بحيث تقل على الطرق الأقل عرضا إلى أن تصل الارتفاعات إلى مقاساتها الحدية تبعا للكثافات المطبقة من ناحية وإنسجاما مع نظرية الحركة والقياس الإنسانى من ناحية أخرى.

أما من الناحية الاجتماعية فقد توصلت النظريات المستحدثة إلى ضرورة إيجاد نسب مختلفة للمزج الاجتماعى للفئات المختلفة من السكان فى المناطق السكنية المختلفة وذلك بعكس ماهو متبع فى فصل المستويات الاجتماعية المختلفة للسكان . وتختلف نسب المزج الاجتماعى من ناحية أخرى باختلاف النوعيات من الإسكان سواء العام أو المختلط أو الخاص ويتم المزج بطريقة هرمية منسقة بحيث يمكن فى إطارها إظهار القيم الحضارية للعمارة المحلية السائدة لكل مدينة.

ولما كانت نظرية الأحزمة الخضراء حول المدن لم تحقق الغرض الأساسى منها لقد توصلت دراسات خبراء الأمم المتحدة إلى ضرورة نقل هذه الأحزمة حول كل حى من الأحياء السكنية على حده واتجهت بذلك المناطق الخضراء من قلب الحى كما هو الحال فى تخطيط المدن الغربية إلى أطرافه الخارجية توفيراً للأمن وحماية من التلوث الوارد مع العواصف الرملية أو من السيارات والمركبات العامة .
وقد انتهت دراسات خبراء الأمم المتحدة كما بدء فى تطبيقها فى المناطق والمدن الجديدة فى المملكة العربية السعودية بعد وضع مجموعة من المعايير التخطيطية التى تلائم البيئة المحلية والمتطلبات الواقعية التى التزمت بها الخبرات الأجنبية وبدأت فى تطبيق الأسس التخطيطية والتصميمية الحديثة التى توصلت إليها خبراء الأمم المتحدة .
أما من الناحية الإدارية والتنظيمية للعمليات التخطيطية للعمليات التخطيطية فقد بنيت نظرياتها الحديثة على ضرورة إنشاء الأجهزة المحلية التى تضمن استقرارها واستمرارها على مدى المراحل الزمنية السنوية والخمسية وذلك بالتكامل مع الميزانيات السنوية والخطط الخمسية على التوالى.

وارتبط بهذا التنظيمات أنظمة حديثة للتجديد المستمر للبيانات التخطيطية ثم تخزينها واسترجاعها وأخرى لعمليات التنسيق العاجل والتنسيق المبكر للمشروعات العمرانية. وقد كونت هذه النظريات فى جملها أساسا جديدا لمبادئ التخطيط العمرانى للدول النامية وهو ما يختلف فى تفاصيلها عن تلك المبادئ التى تطبق فى الدول المتقدمة.

وقد انتقلت هذه النظريات أخيرا إلى خير التنفيذ فى كثير من مشروعات الإسكان الجديدة كما أصبحت نموذجا تتطور على أساسه مشروعات الأمم المتحدة فى مجال التخطيط العمرانى فى العالم وبخاصة فى الدول النامية.
ولابد لنا بعد ذلك من وقفه قصيرة لمراجعة وتقييم للعمليات التخطيطية للمدن الجديدة التى بدأت وتعتبر أملا للأجيال القادمة وانطلاقا لتعمير الصحراء ومحافظة على كل بشر من مصادر الغذاء والكساء للمواطنين.

word
pdf