حصاد السنين :- من المعونة الخارجية في مجال الأعمال الاستشارية

حصاد السنين :- من المعونة الخارجية في مجال الأعمال الاستشارية2019-11-21T09:13:31+00:00

حصاد السنين :-

 

من المعونة الخارجية في مجال الأعمال الاستشارية

 

دكتور عبد الباقي إبراهيم

 

 

 

بدأت موجة المعونة الخارجية في مجال الأعمال الاستشارية في نهاية السبعينات حيث كانت المعونة الخارجية مرتبطة بضرورة التعاقد مع المكاتب الاستشارية في الدول المانحة والتي بدورها تتعاون مع المكاتب المحلية للقيام عادة بالمساعدة في تجميع البيانات والمعلومات اللازمة للدراسات المختلفة أكثر منها في المساهمة العملية في إنجاز هذه الدراسات حتى أن الكثير من الشركات الاستشارية التي كانت تعمل في تخصص معين كانت تميل إلي التعاقد مع المكاتب المحلية البعيدة عن هذا التخصص حتى تستقل هي بتوجيه الدراسات وتحديد النتائج. ولما كانت الأجهزة المحلية في ذلك الوقت ليس لها الخبرة الكافية في وضع شروط التعاقد ونطاق الأعمال الاستشارية لجأت بعض الوزارات إلي التعاقد مع شركات أجنبية للقيام بهذه المهمة نيابة عنها. وهكذا كانت الشركات الاستشارية الأجنبية تضع نطاق العمل الاستشاري للشركات الاستشارية الأجنبية الأخرى. والتي يتم التعاقد معها علي أساسها وتدفقت المعونات الأجنبية وتراكمت الديون وانتعشت السوق الاستشارية الأجنبية خاصة في الولايات المتحدة حيث كان المصدر الرئيسي للمعونات، وفتحت الشركات الاستشارية لها فروعا في واشنطن لتكون قريبة من مجريات الأمور سواء في الإدارات المختصة أو في البنك الدولي. كما نشطت السوق الاستشارية أيضا في انجلترا وفرنسا وغيرها من الدول الغربية وتدفقت اثر ذلك جموع الخبراء الأجانب وفتحت لهم جميع الأبواب كما فتحت لهم الخزائن ليتقاضوا منها أعلي المرتبات حتى وصلت التكاليف الشهرية للخبير الواحد في أحد المشروعات 10730 ( عشرة آلاف وسبعمائة وثلاثون دولارا أمريكيا ) بالتمام والكمال، هذا في الوقت الذي كان فيه الخبراء المصريون يحتلون أعلي المناصب الاستشارية في العديد من المنظمات الدولية والجامعات الأجنبية وحصل منهم من حصل علي الجنسيات الأجنبية حتى يتمكنوا من الحصول علي المرتبات التي تمنح لزملائهم من نفس الجنسية.. ومع ذلك فإذا ما انكشف أمر أحدهم وعرف أصله وفصله تراجعت أوضاعه وتقلصت مرتباته مما اضطر الكثير منهم إلي العودة إلي وطنهم الثاني حيث لم يعترف بهم وطنهم الأول.. وسموا بعد ذلك بالطيور المهاجرة التي تسعي الدولة إلي استقطابهم مرة ثانية للعمل ولو علي فترات قصيرة من الزمن… ومن خلال المنظمات الدولية ” ذرا للرماد” ولكن لم تؤت هذه المحاولات ثمارها بل بدأ العديد من الخبراء المصريين المضحين في مصر الهجرة إلي الخارج للعمل مع المكاتب الاستشارية الأجنبية التي تعمل في الدول العربية والأفريقية، وهكذا انحسرت السوق الاستشارية في الداخل وقلت الكفاءات والخبرات فيها. وقد تنبه إلي ذلك بعض المكاتب الاستشارية الأجنبية – والعربية منها علي وجه الخصوص – فأقامت لها مراكز استشارية في مصر تستغل فيها الخبرات المحلية وتوظفها في مشروعاتها الخارجية التي تتقاضي عليها المبالغ الطائلة وتدفع لهم نصف ما يمكن أن يتقاضوه في الخارج وهي في حقيقتها تمثل أضعاف ما يتقاضوه من المكاتب الاستشارية المحلية في الداخل.. الأمر الذي زاد من خلل السوق الاستشارية المصرية التي تتعامل معها النظم واللوائح كتعاملها مع شراء المواشي والأدوات الكتابية. وهكذا خسرت الدولة القسط والسقط خسرت أموالها التي دفعتها المكاتب الاستشارية ولم تقدم لها غير المجلدات وخسرت خبرائها الذين هاجروا إلى الخارج أو الذين هاجروا إلى الداخل للعمل في مشروعات في الخارج. هذا في الوقت الذي كان يجب أن تعمل الدولة فيه علي الارتقاء بمستوى أداء المكاتب المصرية حتى تستطيع أ ن تصدر خبراتها إلى الخارج لتنافس المكاتب الاستشارية الأجنبية في السوق الاستشارية العالمية بدلا من أن تسمح لها بأن تقيم في قلب القاهرة لتنافس المكاتب المصرية في عقر دارها ثم تتباكي علي عدم الانتماء الذي أصاب المجتمع المصرى.

لقد أنفقت الدولة علي الخدمات الاستشارية الأجنبية أمولا طائلة منها ما يدخل ضمن الفروض بالعملات الصعبة لترد إلى أصحابها مرة أخرى وتتحمل الدولة فوائدها بعد ذلك، ومنها ما يدخل في المكون المصري بالعملة المحلية، والخسارة هنا مضاعفة إذا ما قيس العائد الاستثمارى لكل هذه الأموال التي أنفقت علي العديد من الدراسات التى قدمت العديد من المجلدات لتحتل العديد من الأرفف في الوزارات لا تجد من يتابعها أو يطورها أو حتى ينفذ بعض نتائجها… ومنها ما كان ضد الاستراتيجية القومية.وكان من نتيجة ذلك أن انخفض مستوى الأداء في الأجهزة الفنية إلى الحد الذي بدأت معه تسعي إلى الاستعانة بالمكاتب الاستشارية والخبرات المحلية.ولكن في إطارات مبهمة من نطاقات الأعمال التي كانت تعد مثلها المكاتب الأجنبية. نفس الأجهزة الفنية التي لم تستوعب الدرس فهبط بذلك مستوى الأداء في الأجهزة الفنية المحلية كما هبط في المكاتب الاستشارية المحلية التي تعاملها الدولة كموردي الأعشاب أو الأخشاب حتى أن بعض هذه الأجهزة الفنية قامت بدعوة بعض المكاتب الاستشارية لتورد لها بالمقطوعية عدد معين من اللوح الهندسية علي نفس الاستمارة التي أعدتها لتوريد الأدوات الهندسية، وإن دل ذلك علي شيء فإنما يدل علي مدى المستوى الهابط الذي وصلت إليه أجهزة الدولة في الأداء. ولم تترك الشركات الاستشارية الأجنبية أى أثر للارتقاء بمستوى أداء الأجهزة المحلية، وكان الأجدى أن ترتبط الخدمات الاستشارية بتطوير الأجهزة المحلية وأقرب الأمثلة علي ذلك ما تم في مجال التنمية العمرانية حيث أنفقت الملايين علي الخبراء والدراسات وخلت المحافظات من أجهزة التخطيط المحلي القادرة علي دفع التنمية العمرانية هذا في الوقت الذي كانت فيه دول من حولنا تستغني عن المكاتب الأجنبية لتقيم لها أجهزة محلية قادرة علي التعامل المستمر مع التنمية العمرانية بمساعدة الخبراء المصريين.

ملحوظة:-
جميع الأتعاب معفاة من الضرائب حسب النص فى العقود.
ومن أمثلة العقود الاستشارية مع المكاتب الأجنبية ماهو مفتوح لتقديم الخدمات اليومية فى أحد الوزارات مثل التحضير للمشروعات وإعداد نطاق العمل لكل مشروع وإعداد الدعوات وتقويم العروض واختيار المقاولين وكتابة العقود والتنسيق بين عقود الدراسات التخطيطية والهندسية والاقتصادية ومتابعة تنفيذ الأعمال ومد الوزارة بأى من الخبرات التى تطلبها للإشراف على المشروعات وجمع المعلومات والبيانات وتدريب عدد محدود من الفنيين المحليين فى الخارج لمدد قصيرة، وتقوم الوزارة من ناحيتها باستخراج التأشيرات وتراخيص العمل للخبراء الأجانب وعدم تحميلهم أى ضرائب وإعفاء أجهزتهم من الرسوم الجمركية وتوفير مكان العمل وحرية الحركة لزيادة مواقع المشروعات ودفع تكاليف سفر منسوبيها للفترات التدريبية فى مكاتب الشركة بالخارج. وفى المقابل تدفع الوزارة أتعاب الخبراء شاملة المرتبات وبدلات الإقامة والتعليم والسفر والتأمينات وإيجار المكاتب وتجهيزها والمكالمات التليفونية والتلغراف والتلكس وفوق كل ذلك نسبة لأرباح وتكاليف المكتب فى الخارج. وبهذا كله يصل اجمالى ما يتكلفه الخبير فى الشهر 10730 دولارا أمريكيا, هذا بخلاف الميزات الأخرى من توفير سيارات الركوب وبدلات السفر والعمولة على توظيف العاملين المصريين وسفر رئيس المكتب بالدرجة الأولى والعائد بعد كل ذلك لا يتناسب مع كل هذا الحجم من الإنفاق، بل لقد هبط مستوى الأداء فى الأجهزة المحلية مع ركود العمل فيها اعتمادا على ما يقوم به المكتب الإستشارى الأجنبى من مهام يومية. والمؤسف أن يتم كل ذلك فى نفس الوقت بالتحديد عندما كانت دول عربية من حولنا تستغنى عن مثل هذه المكاتب الاستشارية الأجنبية وتعمل على الارتقاء بمستوى أداء أجهزتها المحلية فى مجال التنمية العمرانية كنتيجة للمشورة الفنية المخلصة للخبرات المصرية التى كانت تعمل فى المنظمات الدولية.

لقد آن الأوان للعمل على الارتقاء بمستوى أداء الأجهزة الفنية فى الدولة سواء فى القطاع العام أو فى القطاع الخاص وهذه من مسئولية النقابات المهنية والمنظمات العلمية أساسا ثم دعم الدولة ثانيا مع ضرورة الإطلاع على الخبرات الأجنبية فى هذا المجال، فالهدف هنا ليس فقط فى الارتقاء بإدارة وتنظيم المكاتب الاستشارية المحلية فى القطاعين العام والخاص ولكن فى المنافسة فى سوق الاستشارات على المستوى الدولى والعربى والافريقى بصفة خاصة. فتصدير الخبرات والعمالة الفنية لا يقل أهمية عن تصدير المنتجات الصناعية أو الزراعية التى تعنى بها الدولة وتوفر لها كل الإمكانيات والتسهيلات حتى تخرج بعد التأكد من صلاحيتها مغلفة فى أحسن صورة تنافس بها المنتجات العالمية، فلا أقل من أن تعطى الخبرات والعمالة الفنية نفس الأهمية حتى تخرج للسوق العالمية فى أحسن صورة شكلا وموضوعا.

word
pdf